في المعنى والمرجعية

*أمير تاج السر

لكل فرد مرجعيته، فمنــــهم من مرجعيتهم دينية ومنهم من مرجعيتهم علمية، وآخرون فلسفية منطقية وغيرهم اجتماعية.
وكل واحد من هؤلاء يحيلك إلى مرجعيته الخاصة ليقنعك بفكرة ما. فالمتدين بدل أن يبحث حسب منطقه بصواب وخطأ فكرة ما، يقــــول لك بكل قناعة: إن هذا مكتوب في الكتاب، ولذا فلا يمكن الشك فيه.
بالنسبة للمراقب الخارجي (خارج المرجعية الدينية)، يغدو الأمر وكأنه يفند نفسهُ بنفسِه، إذ لا يمكن للمراقب الخارجي مطابقة القناعة المطروحة مع المصدر الملهِم له، لأن هذا المصدر (أو المرجعية) ليس لها وجود وبناء في داخله. الأمر ينطبق بدرجة ما على صاحب المرجعية العلمية، فكل أمر مشكوك فيه يحيله إلى إسهام العلم في شرحه ومنطَقَتِهِ، وكذا الأمر بالنسبة لصاحب المرجعية الاجتماعية الذي يتناول أسس الصح والخطأ مما علمته الحياة الاجتماعية العامة.
في كل هذه المرجعيات متفاوتة المصادر هناك شيئان واضحان: «حقيقة خارجية» موجودة وثابته وفارغة من المعنى، وهناك «معنى» منفصل يسعى لإيجاد مطابقة له في العالم الخارجي، أي أن هناك شيئين يبحث أحدهما عن الآخر، أحدهما هو «الشيء» والآخر هو «المعنى».
إن الشيء يمكن إن يكون شيئاً مادياً أو أن يكون فكرة أو أن يكون جملة أو كلمة، أما المعنى فهو الغطاء المفهومي الذي نُلبِسه للشيء لنجعله ممكناً أو مفهوماً أو مقنعاً. هنا نستذكر أن الفينومينولوجيا الهوسرلية ترتكز على هذين البعدين فتشرح المعنى على أنه عمل تركيبٍ متعالٍ، وتشرح الشيء على أنه شيء موجود «في ذاته». لكن إذا ما فصلنا الشي والمعنى عن بعضهما بعضا، ونظرنا لكل منهما على حِدة، ماذا نرى؟ نرى إسهاما إنسانيا متخفّيا للسيطرة على عالمه. إن هذه الفكرة البسيطة والمبسّطة يمكن أن تكون أساس كل معتقد وفكرة. هناك رغبة تعمل ليل نهار لأنسنة الكون والعالم وحشره في أنبوبة الاختبار الإنساني، لكن إن تصوّرنا هذا العالم بدون «سعي الأنسنة» هذا وبدون وجود الإنسان المتكلف بشرح العالم وتصنيفه وإعطائه المعنى ماذا يبقى؟ العماء؟ الوجود بلا وجود؟ حقيقة لا يمكن تصور شكل للعالم بدون سعي «الأنسنة» وإن تم تصوره فسيتم بناء على تصور إنساني لاحق.
كمثال لجعل الفكرة واضحة نذكر الحقبة التاريخية السابقة للإنسان، إن كل ما نعرفه عن هذه الحقب نُقل إلينا بواسطة الفهم أو العلم الإنساني، الذي لاحظ وشرح وفسّر تلك الحقب اللإنسانية في فترات لاحقة انطلاقا من منظوره الإنساني الحالي، أي أن الإنسان في شرحه لتلك الحقب اعتمد على جهوده الإنسانية، ونقل لنا تجارب تلك الحقبة السابقة من خلال تصوراته الإنسانية اللاحقة. تخدمنا في هذا السياق عبارة وردت في كتاب ميشيل بوتور «بحوث في الرواية» تقول: «إن العالم في جزئه الأكبر يظهر لنا بواسطة ما قيل لنا عنه». رغم أن بوتور لا يطور هذه الفكرة بالمنظور ذاته الذي نود هنا استخدامها فيه، إلا أنها فكرة عميقة تربط الوجود بالمعنى المُعطى له. العالم يظهر من خلال ما قيل لنا عنه إذن، وما قيل هو قول إنساني بالدرجة الأولى، أي انه مسعىً إنساني لإضفاء معنىً ما. لا أكثر ولا أقل.
نعود من جديد لهوسرل لنختم به فكرتنا عن الأشياء والمعنى. يقول هوسرل: «إن الوعي هو الوعي بشي ما» ليظهر أن الوعي يجب أن لا ينطلق مما هو موجود داخله، بل بما هو في العالم. إن المعنى يتعلق بأحد ما، ولكن هذا «الأحد ما» (الشخص) ليس كائنا مطلقا، بل هو فرد يشعر بالخوف والقلق… أي أنه هش، وبما أن الإنسان هش فإن المعنى الذي يعطيه هو أيضاً مشبع بالهشاشة. ولهذا أيضاً فإن العالم يظهر لنا كـ»نقص في المعنى». وبالنتيجة يمكننا القول إن العالم إن كان يبدو بلا معنى فذلك لأن الأساس الذي أُقيم عليه هو أساس هش متعلق بكائن هش يسعى ضمن إمكاناته المحدودة لصناعة وجوده بتوزيع المعاني هنا وهناك.
أما بالنسبة لمن يتناسى هذه الهشاشة بتعليق معاني الأمور وتفسيراتها بقِوى مطلقة أكبر من الإنسان فإنه أنما يمارس طريقاً ملتوية للتسليم بحتمية الأمور لا بحقيقتها، أي أنه يسلك طرقاً أكثر أماناً ليخفي عن نفسه قبل الجميع حقيقة أن الإنسان أمسك العالم بيديه، فألبسه المعنى الذي يريد وأطلقه من جديد نحو العالم والآخرين ليمطر كغيمة معان وحقائق مطلقة.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *