خاص- ثقافات
*بشرى بن فاطمة
معرض يسرد الذاكرة الفلسطينية تفاصيل جغرافيا حدودها وجع في مجاز التذكر
“عند رحيل جدّتي..مزقت الثوب إرْبًا، ألقيته أمامي على الأرضية، وأخذت أتأمل تبايُن أجزائه، من عيني انزلقت دمعة واعتراني حزن عميق، هذا الثوب لن يُلبس مجدّدًا كما يُفترض به، جدتي رحلت، ومن بعدها رحل الشعب الفلسطيني، متشظيًّا هو الآخر، بعد اجتثاث حياته وجذوره من الأرض التي نبت منها، الثوب المُلقى بصمتٍ أمامي اختزل كل هذا الصخب في مفاهيمي ومدركاتي الفنية”.
بثينة ملحم
قدّمت الفنانة التشكيلية الفلسطينية بثنية ملحم مؤخرا بمدينة أم الفحم، معرضا فنيا سرد تجربتها التشكيلية ذات التوجه المفاهيمي والتجريبي في تطوير الخامات وتحويل علامتها بصريا، عنوانه “مرثية الخيوط والدبابيس” عكس مسيرة من الابتكار الفني والتفاعل المكتمل الباحث عن فكرة الوطن والجغرافيا المتعبة من التقسيمات، فكانت أعمالها ردة فعل متماسكة بفكرة ومفهوم خرج من الذاكرة المثقوبة مرثية بصرية أو جدلا تاريخيا راوغ اللغة بالسرد الجمالي وحاور تقنيات التعبير بالمزيج المتكامل بين العناصر والخامات والفكرة والتأويلات كلها علامات خلقت لغة مشتركة بين الهوية والانتماء والاقتلاع والنزاع والخوف من انتزاع ذات وكيان في وطن يصارع من أجل حدوده بكل ما أوتيت الفكرة من طاقة من خلال موروث شعب وتاريخ وحضارة.
حملت أعمال بثنية ملحم المفهوم السردي في بصرية مألوفة العناصر لكن توظيفاتها مختلفة لتكون موتيفاتها حكايات لا تنتهي توليفة انطلقت من فكرة الكساء وما تحيله إنسانيا فالثوب نقيض التعري والتجرد، والتجريد أو الترعية هو استنكار فعل لا انساني ولا أخلاقي تدينه كل المعتقدات والاتفاقيات وبالتالي حمّلت الثوب الفلسطيني فكرة القماش والحياكة التطريز والزخرف الخيوط والدبابيس الألوان والصبغ كما حمّلته الموقف، كلها أسّست صورة الوطن باكتمال عناصره البسيطة في الذاكرة والوجدان بلغة لم تخل من تفاصيل وجع وحنين وتناقضات الانتماء والنبذ المكوث والاقتلاع اللجوء والبقاء كأن تكون مجرد رقم ينتمي لتاريخ فصل ونكبة، “عرب 48″، هي تلك المكمّلات وهو الواقع الذي يعني تصنيفا يجرّد الوطن من أبنائه عبرت نحوه بثينة بجرأة خيوطها رسمت خطوط فصل بين وطن واحد الهوية والتاريخ مقسم الجغرافيا والحدود قريب لكن حدوده موجعة تخز وتدمي تتعب وتعيق.
يسرد معرض بثينة ملحم تجربتها سواء في الاعمال التي قدّمتها وعرضتها أو في الكتاب الذي وقّعته وحكى عنها حرفا تحمّل النثر الشعري وقصيدة التراب والحنين موظّفة بصور كل أعمالها التي انطلقت منذ عام 1995 وحملت نضجا واعي المفاهيم من بينها قرابة عشرة أعمال لمتحف فرحات الفن من أجل الانسانية.
في إنجازها الفني تخضع بثينة أعمالها للتخطيط وكأنها تحاور عناصرها وتمنح لكل منها دورها، فتبدأ بالرسم والتطريز ثم الحياكة لتنتهي إلى حكاية عميقة الجذور، وتقول بثينة عن تجربتها “بدأت أخيط فساتين صغيرة الحجم بأقمشة بسيطة أنهيها ثم أمسك قلم الرصاص لكتابة حروف عربية الهوية تتمثل في أمثال شعبية مثل “التطريز كجدتي كالكحل في عيوني” أو “الابرة بتكسي الناس وهي عريانة”.
جمل وأمثلة تخطر بالذاكرة والحنين بكلام الجدات والامهات وبلكنة الماضي تلون تفاصيلها لتصدم المتلقي بعدها بالتقسيم وهي تجرّ الذاكرة بعد ذلك نحو الحدود بصخبها تظهرعلى المشهد الجمالي البصري”.
بالنضج والتفاعل الحسي استطاعت بثنية أن تبتكر صورها التشكيلية ومسارها التجريبي في الفهم الذي تحوّل من قلم الرصاص والحياكة إلى الابتكار والبحث أكثر بالقرب من الأرض وملامسة الخيال للذاكرة في عناصر رسّخت فكرة الوطن حيث بحثت عن الأثواب القديمة وعن التفاصيل المعتقة وعنما يداعب ذاكرة الأرض باعتماد خامات يومية لكنها رمزية تحيل على وطن وثقافة شعب مثل القهوة والشاي والتوابل والزعتر للصبغ مع إضافة الشمع والتراب والصناديق القديمة.
وكلها تحيل على تناقضات حسية بين البقاء والفقد بين الفرح والحزن، تجمّعها بثينة لتصنع فكرة محسوسة لبيت أو خيمة لجسد لتضاريس وحدود بتجليات جغرافية التلال والبحر والأودية والأسوار والجدران والحواجز لتشكّل رموزها الخاصة وعلامات البحث التأويلي في عناصرها التي تحاور الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل بحث تحاول من خلاله إثبات هويتها والثبات في التعبير عن الأمان المشتهى.
تبدو الاعمال في طبيعتها المفهومية ودقتها الجمالية كمرثيات تحاول ان تسرد الفقد فقد الانتماء والأرض والتراث والهوية بعين قلب ترصد الانتظار وتعتّق الماضي بحواس الحنين.
وعيونك تجوب المعرض يخفق قلبك بحثا عن التنقلات الحسية التي تحاول بثينة ملحم اثباتها في تلاحم مع الروح ومع ارتعاشات الجسد في الرؤية المقدمة على الثوب كمساحة تضطرم وتصطرخ مع تكاثف الدبابيس وتشابك الخيوط وتقاطعات القماش المجزأ قطعا صغيرة تتراءى مع الواقع في صياغات بديهية تحكي وجع الجغرافيا وشتات التقسيم التي يتحمل صخبها الثوب كما يتحمل زخم الانفعالات المركبة التي تتجاذب أحاسيسها بين حنين وتمرد بين تآلف وتمزق وبين الحكايات التي تختزنها في مخيلتها بتفاصيلها.
فالقماش والخيوط والإبر هي تعبير عن الوضع السائد بين الفلسطيني والإسرائيلي لأن العناصر ترتب الحواس على تناقضاتها مع تكثيف الحزن والقلق إشارة إلى الجغرافيا التي نعيش فيها تعبيرا عن رغبة داخلية في كسر الحواجز التي تبدأ من الذاكرة وثقوبها وتنتهي في الوجدان وحنينه المتراكم بالواقع.