خريف القلب

خاص- ثقافات

*د.فراس ميهوب

 

في خريف العمر، تمتزج الألوان، القاتمة والزّاهية، وتصبح الذِّكريات اجترارا لزمن سعيد، وتفترس المساءات الحزينة شغاف القلب قطعةً قطعة.

نتوه كطائر عاد إلى مسكنه، فأبصره من بعيد متطايرا، وشجرتَه مُحطَّمة الأغصان، لم يبقَ  فيها من الحياة سوى رمق النهاية، فذوى همَّا، امتطى أشرعة  البكاء المنهمر، نأى خوفا، وظلَّ قلبه مُعلَّقا بأهداب الوطن الجريح.

تمضي الأيام فوق أجنحة الرَّحيل الممنهج، فتأكل الوجوهَ المُعنفَّةَ بالبُعاد، وتذيب الأرواحَ في كأسٍ أسودَ من رحيق الحنين، وتطوي مع وجوه الأحبَّة آلام الفراق اللانهائيّ.

تقسو بعض اللَّيالي، وحينها لا تغور نجومُها فحسب، بل يصبح الفؤاد فيها صغيرا، كطفلٍ يتكئ على صدر أمه; بكاؤه، وحرمانه، يحدِّدان سير الحدث الرَّتيب، ويتسمَّر الوقت الكئيب بانتظار انكفاء بردها الخريفيِّ المفاجئ.

في هذا الفضاء الفارغ من أرواحٍ صديقة، يصير الطَّيران ضربا من القدريَّة الموجعة، والاتجاه وحيدا إجباريا، هبوطا اضطراريا مائلا، وحادَّا بعد انكسار آخر نقاط السكينة في مواقع النُّفوس.

في موسم الذُّبول ، وقبل الوصول إلى الشَّواطئ الأخيرة بقليل ، يصبح مجرَّد رفعِ الرأس إلى أعلى ثقيلا، كحمل صخرة أزليَّة، سقطت من بركان قديم خامد للأبد، تظلُّ هناك، فيشغل الوجع كُلَّ أضلاع المكان.

عند الخريف، يغدو صوت الصَّمتِ وحده مُسمِعَا للرَّاحلين، بل صراخا مؤلما، وبكاء قاسيا، فيترجَّل الكلام، وينعدم أثره، كقبر غريبٍ محاه المطر.

عند خفوت أنوار المدينة، وحين يكون فعل الحياة الوحيد هو انتظار النِّهاية المحتومة، تتسابق أنفاس الوجود إلى حطامها المنتظر، مع إطلالة كل خيط من الصباحات المتكرِّرة، ويصبح إقناع من نجا، بالثَّبات على غصن العالم، ضربا من النزف العنيف.

في أيلول، ترى زحام الأرواح الشَّاردة من الموت، والقلوب المُقطَّعة من الوداع، تبحث عن ملجأ آمن، ولكنَّك حين تعرف أنَّ الملاجئ قد صارت أندر من معجزة، تدرك أنَّ الحلَّ الوحيد هو تضميد الجرح بجرح آخر.

نظر القلب حائرا، هام، بحث عن بقيةٍ من رفاق، لم يجد إلَّا وريقات خريف حُمر الخدود، تتمايل، وتكاد تلحق بمن سبقها من شقيقاتها الصُفر المُحتضِرة.

استقرَّت الأحلامُ الهائمة  فوق بيوت الحزانى، وتمزَّقت النُّفوس المنهكة، فعاد نور حياتها ضعيفا ضامرا، كسراج يصارع الانطفاء الوشيك.

حلَّق النَّسيم العذب فوق موج البحر، عَبَرَ السهول والتلال، وحين دنا، صار كأنَّه إعلان موت لما تبقى من ورق الفصل الأخير.

تصدَّعَتِ الرُّوح إلى نثيرات صغيرة، ومع كل حبيب مسافر، لم يثبتْ منها إلا غصَّة في فؤاد، و شيبا في رأس.

قرأتُ عن أساطير آخر الزَّمان، أنَّه في نهاية خريف آخر، يجد المقهورون نبع الحياة الأبديَّة، بعد أن يرفعوا معاولهم، ويصعدوا إلى جبل قدموس، حينها تكون الخطوة بألف، حتَّى يظنُّوا الخبر سرابا ، أو وهما من كتاب أصفر، مزقته ريح الأيام.

وقبل فوات الأمل، بدأ ضياء النَّبع الأبيض يشقُّ قسوة الصخور المُزرقَّة، ويجتاز ظلَّ المساء كأنَّه لون تسرَّب من لوحة الأزل السَّاطع .

ظهر الماء أخيرا، اغتسل الجميع، غدوا بلا ألم، إلَّا واحدا أو اثنين، اختفوا في تلك اللَّحظات السَّعيدة النّادرةعن البصر، وغابت آثار خطواتهم عن غبار الأرض الثَّقيلة.

يقولُ العارفون بعلم المدى والآفاق أنَّهم:

– ذهبوا يبحثون عن نبع جديد، ذاك الذي ما رأى أحدٌ مثلَه قطُّ.

شاهدْتُ بأمِّ العين فوق جبل قدموس، كيف بقيت خوذَهم ومعاطفَهم في المكان المقدَّس، تشير إلى الطَّريق الأيمن، وصاروا قطعا من قلوب المساكين.

بدأ المطر يهطلُ إلى السَّماء، ثمَّ يعود فيسيل من عيون اليتامى، ويغسل شقاءَ الأرامل والثكالى، ويمضي إلى البحر، ومنذ ذاك اليوم سمعت أنَّ طعم مائه صار مالحا.

29/05/2018

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *