الرجل الذي يحب كتابة روايات رومانسيَّة؛عن الحب على الورق

خاص- ثقافات

*يان بروكن/ ترجمة: ميادة خليل

هل تستطيع كتابة رواية رومانسية في هذا العام؟ أم أنك بهذا تعود مئة عام إلى الوراء؟ أورهان باموك لا يظن ذلك. في 2006 فاز الكاتب التركي بجائزة نوبل للآداب، وفي 2009 أصدر رواية “متحف البراءة”، رواية رومانسية من ستمئة صفحة. بدأ بكتابة الرواية عام 2001، توقف في عام 2002، عاد للكتابة في نهاية 2003، وانتهت الرواية في عام 2008. وإذا جمعنا السنوات معاً يكون قد قضى ست إلى سبع سنوات في كتابتها. على أي حال كان يحتاج الكثير من الوقت للكتابة عن الحب.

تنتمي الروايات الرومانسية كما هو الحال مع ريش الأوز إلى القرن الثامن عشر، وأقلام الغمس في القرن التاسع عشر، وجلجلة آلة الطباعة الأندروودز في القرن العشرين. تنتمي أيضاً إلى ملايين الرسائل النصيّة النهّاجة الحنونة المرسلة يومياً في كل أنحاء العالم.

“العجوز الذي يقرأ روايات رومانسية” يدوّي العنوان النوستالجيّ المؤثر لرواية التشيلي لويس سيبولفيدا الصادرة عام 1992. يسكن هذا العجوز في قرية جبلية بعيدة في منطقة الأمازون، حيث يمر بها طبيب الأسنان المتجول مرتين في السنة. ومنه يحصل الرجل العجوز على الروايات الرومانسية التي يقرأها بمتعة بالغة لأن جملها دائماً ما تُصاغ بشكل جميل جداً. هذا ما كان يراه الرجل العجوز على الأقل – كان هذا صحيحاً. رواية  سيبولفيدا تتقاسم أشياء قليلة مع الجنس الأدبي الذي أشاد به البطل: “العجوز الذي يقرأ روايات رومانسية” هي رواية سياسية تستنكر الهجوم البيئي على منطقة الأمازون.

أورهان باموك واجه مهمة صعبة. فهم أنك وفي بداية القرن الحادي والعشرين لن تستطيع كتابة رواية رومانسية فجأة وبلا مقدمات، على الأقل إذا لم ترغب في أن ينتهي بك الحال إلى كتابة رواية ثلاثية أو رواية طبية. بالنسبة لكتّاب سلسلة الباقة الذين يقدمون مسودات روايات بمعدل ثلاث إلى خمس كل عام فمن الطبيعي استبعاد إن كان من المنطقي كتابة روايات رومانسية يكسبون منها بشكل جيد. بالنسبة للكتّاب الآخرين يبقى السؤال إن كان ثمة جديد يضاف لهذا الجنس الأدبي، مثلما فعل ميلان كونديرا على سبيل المثال في عام 1984 مع رواية “كائن لا تحتمل خفته”. نجح كونديرا في دمج موضوع الحب مع فلسفة واضحة وعميقة، وفكاهة تشيكية خفيفة (فكاهة سخيفة)، والسياسة (بيئة المنشقين)، وليس آخراً الإيروتيكية التي كانت لمرة مثيرة على نحو ممتع.

يجب أن أضيف شيئاً، فكر باموك. وصف لطيف لإسطنبول في السبعينيات من القرن العشرين! السنوات التي جربت فيها تركيا لأول مرة حرية جنسية ضئيلة، في المدن الكبيرة على الأقل. غير أن اللون المحلي ليس كافياً لإعادة النشاط والحيوية لجنس أدبي فارغ تماماً.

فكر باموك ملياً بأشياء غريبة. ونتيجة لذلك توصل إلى جعل بطله كمال يجمع أشياء لها علاقة بحبه بطريقة أو بأخرى. هذه الأشياء ــ من القرط إلى كوب الشاي ــ نقلها كمال إلى شقة في حي چوكرجوما الذي أصبح متحفاً فيما بعد.

اختراع ظريف.

أكثر ما أحبه في “متحف البراءة” هو أن باموك لم يقلق من تطبيق كليشيه الرواية الرومانسية. مثلما يحدث في أفلام الدرجة الثانية التركية وأفلام بوليوود وضع بطله كمال أمام خيارين مستحيلين: هل يجب أن يحب سيبل أم فوسون؟

كمال ابن صاحب مصنع ثري. يعمل في تجارة والده ويعيش في بيئة ميسورة غربية في إسطنبول. مستقبله مؤمَّن. في الثلاثين وليس لديه رغبة في أكثر مما لديه. متفقاً مع رغبة والديه بالزواج من سيبل، شابة ذكية بدأت دراستها في إسطنبول وكانت تعيش في باريس. جميلة وأنيقة ومميزة. وعلاوة على ذلك: ثرية. انحدرت سيبل مثل كمال تماماً من عائلة وسعت أعمالها على مدى أجيال. وهي في مثل سنه.

تبدأ الرواية أثناء التحضيرات الأخيرة قبل حفل الخطوبة. يشتري كمال هدية لسيبل ــ حقيبة يدوية ذات علامة تجارية باهظة الثمن. غير أنه يقع في حب البائعة فوسون. يعرف فوسون من أعياد ميلاد سابقة. ابنة عم من الفرع الفقير للعائلة. ابنة معلم تاريخ وامرأة تكسب بعض المال من الخياطة. بينهما ثمانية عشر عاماً وأسبوعين. فتاة جميلة مع رغبة مفرطة واحدة: الجنس.

سيبل، السيدة الأنيقة، المرأة المستقلة ستكون زوجة مثالية بالتأكيد. فوسون، الشبقة، التي تريد أن تفقد براءتها في ممارسة الجنس بسرعة خمس مرات في الأسبوع وإلى ذروة المتعة لعشر مرات ذات ظهيرة. التناقض في الواقع منظّم، لكن سوف يكون مصدر قلق لقارئ ذي رغبات بدائية. يريد القارئ في النهاية معرفة أي منهما سيختار كمال، سيبل الأنيقة المباركة من العائلة، أم فوسون التي تشير بخجل في حديثها مع كمال إلى منافستها بـ “الآنسة سيبل”، كم هو رائع حس لوليتا خاصتها.

الأمر بسيط للغاية. هل ستكون سيبل؟ أم فوسون؟ لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال يجب على القارئ تصفح ثلاثمئة صفحة. إذا كان فضولياً إلى حد ما، سوف يفعل ذلك دون تثاؤب أو تنهد. الحيلة فعّالة. فعّالة، ويا للسخافة، دائماً تقريباً. لن تكون فعّالة في حالة اختيار كمال لفوسون على نحو قاطع. عندها تضيع الإثارة ويتوجب على القارئ تحمّل ثلاثمئة صفحة مكرهاً.

أظن أن أهم ما في الكتابة هو خلق التناقضات. لا أعني التناقضات الفادحة؛ امرأة جميلة ضد قبيحة. لا، التناقضات الذكية: فتاة مثيرة ضد سيدة أنيقة مرغوبة.

ورغم ذلك لم تصبح الرواية الرومانسية أدباً بعد بطبيعة الحال. دون أسلوب جذاب تبقى مجرد خدعة مكشوفة. لدى باموك، كما هو الحال مع ماروكامي، نوع خجول من الصدق، نبرة سذاجة بسيطة ودهشة حالمة. وصف فض بكارة فوسون بطريقة حساسّة، ولم يغفل عن التفاصيل. انتبهت فوسون لجسدها أكثر بكثير من كمال، تنظر إلى بطنها كما لو أنها تراقب تغييراً كبيراً يطرأ على جسدها من ثانية لأخرى. الرجل في الواقع لم يكن مهماً، الأكثر أهمية إنها قطعت شوطاً كبيراً نحو البلوغ. أظهر باموك هذا بنقاء مدهش.

جعل باموك سيبل متعاطفة كما هو الحال مع فوسون. وهذا ذكاء أيضاً. أنت كونك قارئاً لن تُفضل السيدة أو الفتاة، وتتعاطف مع الاثنتين على حد سواء. سيبل أكثر تنمراً من فوسون، لكنها تعرف بشكل أفضل ما يدور حولها في العالم، مما جعلها تعيش أسلوب حياة رائع. وكونها مهذبة جعلها جذابة أيضاً. إذا تنمرت، تفعل هذا بطريقة راقية، ساخرة من الأعراف التي طالما حافظت عليها: لا جماع قبل الزواج.

تعيش فوسون في حلم ويمكنها الاستمتاع بقبلة عميقة كما لو أنها حدثت في فيلم مع عمر الشريف. يجب أن تكون فوسون الأكثر سهولة في الوصف بالنسبة لباموك: تقاطع بين صوفيا لورين ولوليتا.

المشكلة التي كانت تواجه باموك هي كمال. لأن رجلاً يضاجع فوسون طوال الصباح وجزء كبير من الظهيرة في يوم حفل خطوبته ويتألق مساءً إلى جانب سيبل في حفلة استقبال في فندق الهيلتون، يسستدعي لدى القرّاء شعور الاحتقار قبل تصوّر العاطفة. لو وُصف كمال من قبل الكاتب الهولندي تومي ڨيرينخا أو كلوون فسوف يضعه النقّاد الهولنديون في الخورس لمبالغته الفظيعة في الوصف. لدى باموك ميزة في هذا الصدد وهو أنه تركي، ولهذا أغلب النقّاد سوف يظنون: آخ، هكذا هم الرجال إذن في إسطنبول.

جعل باموك من كمال شخصاً متردداً. لا يعرف بالضبط ما يحدث له وسمح لأي شيء أن يحدث له. لفترة طويلة لم يشأ الاختيار، ولا التفكير بالاختيار. كمال هو مدام بوفاري الرجل، المنزعج، الذي لديه على أي حال ما يكفي من القلق لاستبعاد الخمول لوجود سيدتين في حياته.

“هل كنت مغرماً بها؟” يسأل كمال نفسه. “بها” يقصد فوسون في هذه الحالة. “شعرت بسعادة عميقة وقلقت. استنتجت من التشويش الذي سيطر على عقلي، أن روحي قد تكون محاصرة بين المخاطر التي تجلبها معها في حال حملت هذه السعادة على محمل الجد من جانب، والاستهجان الناتج في حال فكرت بالموضوع على أنه بسيط جداً من جانب آخر”.

من جانب إلى آخر، أسلوب جيد لإضرام النار في رواية رومانسية. الرجل أو المرأة العاشقان في الصفحة الأولى لم يجذبا القارئ حقاً. يتوجب عليهما التردد هو أو هي، يقتنعان بحبهما الكبير أحياناً، ويترددان في أحيان أخرى، وهو ما يُحبذ لألف سبب وسبب.

كمال رجل لطيف قبل كل شيء، لأنه يحب أباه كثيراً. بطريقة حميمية تقريباً يمسك بذراع أبيه وينصت إلى حكمته. ” كل العقلاء يعرفون أن الحياة رائعة، وهذا هو المغزى في أن تكون سعيداً” قال الأب العجوز، بينما يراقب ثلاث فتيات مررن به. “لكن الحظ لا يحالف إلا الأغبياء ليصبحوا سعداء. كيف لنا تفسير ذلك؟”

هذا حساس.

عندما تذكر الأب وهو في صحبة ابنه قصة حب قديمة، حدث هذا النقاش:

“سيد معتز، ابنك يشبهك تماماً، عندما كنت شاباً … كما لو أني أنظر إلى شبابك!”

“ما زلت شاباً، سيدتي. لكني لا أعرف من أنتِ…”

خُبث لذيذ. نعم، عندما تقرأ هذا فإن الأدب أفضل دليل للحياة. دليل يقدم لنا تفسيرات الحب، أو الخيانة.

هل نجحت رواية باموك الرومانسية؟

باموك من أكثر الكتّاب الذين أواجه صعوبة معهم من بين كل الكتّاب المهمين في الوقت الحاضر. كتبت عن هذا من قبل بمناسبة صدور رواية “ثلج”. كانت تحفظاتي بأنها رمزية جداً، مبالغة جداً وثقيلة. في “متحف البراءة” كان أفضل نشاطاً، يمكنه على سبيل المثال استحضار أجواء معينة بطريقة رائعة. تجرأ على كتابة رواية رومانسية وعرف إضافة مكونات كثيرة إلى الجنس الأدبي أبقت القصة مُفاجئة لوقت طويل جداً. لكنه في هذا الكتاب أيضاً ظل يتحدث كثيراً وبسرعة في صفحات كثيرة من قصته مثل طفل مزعج ولحوح. كاد أن يقتل روايته بطريقة ماسوشية.

“قبلت كتفيها اللذين لهما رائحة اللوز” بدأ يصف بطريقة حنونة متقنة. وبعد ذلك “المدرسون في المدارس المتوسطة الذين سوف يروون هذا الجزء من روايتنا لطلابهم، إذا انزعجوا عند هذه النقطة، عليهم توجيه الطلاب بتجاوز المقطع الذي تقرأه الآن”.

لا. هذا فظيع! كم طفولي هذا! أتمنى أن يجد باموك محرراً جيداً لأعماله. كان يجب أن تحذف هذه السخافة دون أسف.

وبعد خمسون صفحة: “فقط عندما حياتك، تماماً مثل رواية، تتخذ شكلها النهائي…” لا. تشطب بالقلم الأحمر.

والأفظع: “أريد أن أقول شيئاً عن قُبلي أنا وفوسون. أنا حريص جداً على إظهار الجانب الجاد في قصتي، الجانب الخاص بالجنس والاشتهاء، كما حدث، وفي الوقت نفسه أريد التحذير من أن كل ما حدث سوف يبدو بسيطاً جداً وحتى تافها ً إلى حد ما”.

عزيزي باموك، إذا كنت حريصاً جداً فأترك لهذا أن يظهر في طريقتك بالسرد. ما فعلته هنا ــ تفسير نواياك ــ هو تفاهة بالغة.

في الصفحة 127 سقط في الخطأ نفسه. “… لا داعي لأن تكون الرواية حزينة، حتى لو أراد لها كل الأبطال ذلك”

هل تسمح لي كوني قارئاً أن أحدد ذلك بنفسي؟

سوف تود لو تصرخ في باموك: “أبق بعيداً!” بالطبع لأنه جعل الأمر أكثر فظاعة وقدم نفسه وأفراد عائلته على أنهم شخصيات في القصة. على طريقة هيتشكوك الذي يظهر دائماً في أفلامه، مثل عابر سبيل مجهول في المصعد أو في الميترو.

عائلة باموك حضرت حفل خطوبة كمال وسيبل. لاحظهم كمال. “… رأيت أورهان الذي في الثالثة والعشرين من عمره مع أمه الجميلة وأبيه، وعمه وأبناء أعمامه يجلسون إلى طاولة، يشعل السجائر الواحدة تلو الأخرى، كان عصبياً وغير صبور وحاول الابتسام بغرور لعدة مرات. […] نهضت عن الطاولة المملة لعائلة باموك، وتوجهت مباشرة نحو فوسون”.

جميل؟ إلى حد ما. ليس جميلاً كما هو الحال مع هيتشكوك على أي حال، الذي يقف إلى جانب المجرم في المصعد أو يشعل له سيجارته في الشارع.

نسي باموك أن شخصياته التي خلقها يمكنه أن يجعلها تفعل أي شيء يمكن تصوره وأن يجعلها تقول كل الاعتبارات الممكنة. إذا أراد أن يواجه الأثرياء القدامى بالجدد، كان عليه ترك ذلك لشخصياته.

لكنه يستأنف أحياناً لحسن الحظ. حيث ترك لفوسون التفلسف حول قصص الحب بدلاً من أورهان باموك.

أحياناً يكون الوصف ذا قيمة. إذا كُتب بشكل جيد ونقي وكشف كل التناقضات والشكوك التي تسبق علاقة قصيرة أو طويلة أو حتى مدى الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من كتاب “الــكيف” عن الكتابة الصادر 2011.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *