“أنا.. قبلك” لجوجو مويس: الجسد المقهور خارج الطاعة

*كه يلان مُحمَد

ظل الموتَ تحدياً بالنسبة للإنسان ولا فكاك من هذا المصير المحتوم. وما تكبده العلماءُ والفلاسفة من مجهود لإدراك غموضه وتفسيره لم يؤت ما يشفي غليلهم. فاكتفى البعض منهم بالقول أنَّ مشكلتنا ليست مع الموت إنما يكمنُ التحدي الأكبر في أسلوب الحياة والإجابة على سؤال كيف نعيشُ؟ ولم تكن النصوص الأدبية لا سيما الملحمة ومن ثم الرواية بمنأى عن هذا النقاش حول جدلية الحياة والموت، بل تحول الموت إلى ثيمة أساسية في كثير من الأعمال الروائية، غير أن المقاربة والصيغ في تناول هذا المَوضوع تتخذُ مستويات مُتباينة  بإختلاف الغاية والرؤية، من الواضح أن القالب الروائي يستقبلُ التجارب الإنسانية بما فيها الصراع مع المرض والعاهات المُزمنة، إذ راجَ مؤخراً تدوينُ رحلة المصابين بمرض عضال في أعمال روائية، هنا يمكن أن نذكر رواية “الحنين إلى نكهة الصبا” للطاهر بن جلون، “بذلة الغوص والفراشة” للفرنسي جون دومينيك، “عام السرطان” لسالمة صالح، ما يجمعُ بين هذه العناوين هو سبك المادة الروائية بناءً على المعايشة مع تجربة المرض وآثاره المُشَخَصة على الجسد.

سردنة المرض

تنزلُ رواية “أنا … قبلك” للروائيةُ البريطانية جوجو مويس، الصادرة بالعربية عن دار التنوير-بيروت 2017، ضمن ما يمكن تسميته بسردنة المرض، إذ تتناول تقلبات ناجمة في حياة المرءِ نتيجةَ إصابته بالشلل الرُباعي حيثُ أن الشعور بالإحباط يتفاقمُ لدى المريضُ عندما تعود به الذاكرةُ إلى زمن ما قبل المرضِ حيثُ كان يُمارسُ الحياة مُندفعاً في خوض المُغامرات مُقتنصاً ما يلبي رغابته طبعاً هذا الزمنُ يكون مُتَصادماً مع زمن ترسفُ فيه الطموحات داخل جسد كسيح، هذا ما يعانيه البطلُ وليام جون ترينر الذي كان مثالاً لشاب طموح وناجح نشأ في أسرة مترفة وذاق طعم أصناف الملذات لكنَ حياتهُ تنقلبُ رأساً على العقب عندما يفقدُ القدرة على الحركة بعدما يُصاب بالشلل الرباعي إثر حادث السير، تفوض المؤلفة إحدى شخصيات الرواية وهي كلارك لويز بسرد مُعظم أجزاء الرواية مُنجمةً، وبما أن الأخيرة تصاحبُ المريض بوصفها جليسة له لذلك فإنَّ الوظيفة ترشحها لتأخذ موقع الراوية، إذ تقضي ستة أشهر بجوار ويل وتشهدُ حياةً الإثنين خلال هذه المدة أبعادا جديدة لكن ما لا يتغيرُ في المشهدِ هو شبح الموت الذي يحومُ في فضاء النص.

الجسد المقهور

ينطلقُ السردُ من لحظة الحدث المؤسس الذي تنتظمُ من خلاله وحدات الرواية، وبمجرد قراءة المقدمة المؤرخة بسنة 2007 يدرك المتلقي أن المؤلفة تعتمدُ على التكنيك السينمائي، إذ ما تطالعه هو سرد بإيقاع سريع للحظة وقوع الحدث عندما يتعرض البطل لحادث السير من خلال الراوي المراقب ومن ثُمَّ يبدأُ مشهد آخر منفصل عما مرَّ عليك في المقدمة إذ تركز العدسة على أسرة كلارك وما تعانيه من التوتر نتيجة فقدان ابنتها للعمل، هنا تنضمُ شخصيات جديدة في إطار الرواية، ويُفْهَمُ من الحوار الذي يدور بين تلك الشخصيات في هذا المِفْصل أن أسرة كلارك لويزا محدودة الدخل، وما يُثقل كاهلها أكثر هو مُتطلبات الجد الذي يحتاجُ إلى المراعاة هذا فضلاً عن أن ابن كاترينا التي انفصلت عن صديقها أضاف مسؤولية أخرى إلى الأسرة، هذه الحالةُ تحتمُ على كلارك أن لا تتأخر في العثور على عمل جديد، بعد أنْ تُجربَ العمل في مصنع لتحضير الدجاج كما تقضي إسبوعين في مطعم لسلسلة الوجبات السريعة تلتحقُ بأسرة ترينر لتقوم برعاية ويل الذي أصبحت حياته رهن كرسي مُتحرك، تستمعُ الجليسة من السيدة ترينر ما يجبُ عليها أن تتبعهُ في التعامل مع ابنها. في البداية تزعمُ بأنها لا تطيقُ أن تستمرَ ستة أشهر غير أن ترينا تشجعها على أن لا تُفرط في هذه الفرصة، تتآلف كلارك مع طبيعة ويل وحساسيته المفرطة بمرور الزمن، وتنمو رغبة الحديث لدى من كان مقاطعاً للجميع في ملحق البيت، وتحاولُ كلارك أن ترعى بذور الأمل عند المُعوق على رغم مُعاناته مع جسد مقهور لم يَعدْ يطيعهُ. لكن ما تعرفه الجليسة من خلال ما تناهى إلى سمعها من مُحادثة بين كاميلا ترينر وابنتها جورجينا العائدة من أُستراليا تُفزعها إذ تدرك السر وراء تحديد مدة العمل لستة أَشْهُرٍ وإنتهاء مهمتها بتاريخ 12 أغسطس الذي سيكون ويل بحلول هذا اليوم على موعد مع الموت الطوعي في عيادة (ديجينتاس) في سويسرا، لا تتحملُ كلارك لويزا فرضية تورطها في هذا الطقس المأتمي بمشاركة نايثن مقدم الرعاية الصحية لويل وأم الأخير أكثر من ذلك تتعجب من موافقة كاميلا ترينر على قرار الابن لكن لا تدومُ مقاطعة كلارك كثيراً حيثُ تعود إلى منزل غرانتا بعدما تتفق مع السيدة ترينر للعمل على تأقلم ويل مع حالته وثنيه عن المضي في التمسك بقرار الموت الإختياري، ولم تكنْ موافقة الأم على هذا القرار إلا مناورة لكسب الوقت وإقناع ويل بالكف عن محاولة الإنتحار. وبذلك يتأرجح إيقاع السرد بين قتامة الموت وضوء الأمل المُتمثل بوجود كلارك التي ستكون مُتفانيةً في مساعيها لتفويت ذاك الموعد مع الموت حيثُ تستعينُ بخبرة من تكيف مع الإعاقة وتفتحُ قنوات التواصل مع هؤلاء عبر غرف الدردشة، من بين تتوارد عليها من النصائح والتوصيات تلفت جملة غريس البالغة من العمر 31 عاما عندما صرحت بأنَّ ما ينفع في هذه الحالة هو الحبُ فقط. كما تتعرفُ على تجربة ثلاث سنوات للاعب كرة القدم ليو مع الإعاقة، قبل أن ينهى حياته في (ديجينتاس)، بموازاة ذلك ترافق كلارك ويل إلى مشاهدة سباق الخيل وحفلات الموسيقى كما لا تُمانع أن تكون بجانبه في حفلة زفاف حبيبته السابقة أليسا، تدخلُ العلاقة بين الطرفين إلى طور جديد حيثُ ما إنفكتْ كلارك تلازم ويل إلى درجة تفضله على صديقها باتريك وذلك ما يولد الشك والريبة لدى الأخير وتتخذ هذه العلاقة الثُلاثية صورة مركبةً إلى أن ينسحبُ باتريك تماماً من المشهد. ويظهرُ وجه آخر مما يربطُ بين ويل وكلارك ولا يقف الأمرُ عند من هو مُعاق يحتاج إلى الرعاية ومن يتكفل القيام بهذا الدور.

موعد مع الموت

تتوسمُ كلارك خيرا من الرحلة التي نظمتها إلى جزر في المُحيط الهادي وتوقعت بأن الأجواء المرحة التي وفرتها تلك البيئة أنْ تؤدي تخلى ويل من قراره غير أن بعد العودة يتأكد للجميع بأن ويل مُصر على إنهاء حياته هنا تقاطعه كلارك مرة أخرى تؤنب نفسها لأنَّ محاولاتها فشلت مع ويل، لكن رغمُ كل ذلك الألم تلبي رغبته بأن تكون بصحبته في اللحظات الأخيرة قبل أن يودع الحياة وبذلك تكتسي الرواية طابعا رومانسياً كئيباً تضمرُ هذه الرواية سؤالاً وهو هل سيكون الموت حلاً؟

___________
*المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *