روائي عراقي يقيم حفل توقيع روايته الجديدة في مقبرة!

خاص- ثقافات

*عبدالكريم العبيدي

ابحثوا معي عن نهايةٍ لطفاً *

همست دمعتي التي سقطت وحدها: أنا كأسك الباكي أيها الحزين من دون أن تدري! أنا كؤوس صحوك، فمن أنت أيها السكر؟
حدث هذا في أول خطوة داخل المقبرة. ربما هي معرفة ظنية محسوسة نوعا ما أكثر من كونها معرفة يقينية مطلقة. هذا الضياع يضع علامات ترقيمه على حياتنا كما يشاء، ويجعلها أكثر تمشيا مع اغتراب الوقع العصري السريع. لم يعد لدينا خيار سوى الإعلان عن إنه أمر محدث واقع، كأنه لا يكاد يترك لليأس من بعده الا القليل كي يسوق لنا من خيبات في ما هو قادم. اليأس، والحق يُقال تواصل حياتي صاخب وعجيب، ما إن يعقد هذه الصداقات حتى يجعل أطرافها تشتبك في حوارات وافتراضات لا تكاد تنتهي ولن تنتهي.
البلدة غدت صغيرة يا أحبتي. دار السلام، بغداد انكمشت. لم تعد مؤهلة أكثر من أيِّ مقبرة، ولم يعد الأحياء هناك أكثر مواءمة منكم أيها الموتى بجلسة احتفاء توقيع روايتي! “سعيد أنا الآن موتي ريح” *
جئتكم بـ “شماريخ القرن العشرين” يرافقني الآن “كرهي لذلك القرن”، هي “معلَّقة بلوشي”، سأتلوها عليكم، وستحتفون بي بمناسبة صدورها، فالدعوة لكم، للموتى فقط. سنلهو معا في لحظة حيَّة تسع هربنا، وسننغمر في سهوب الرواية ونتحاور كثيرا، وفي النهاية سأضع خمس نسخ منها على خمسة قبور قبل أن أودعكم وأعود الى موت المدينة.
ألا ترون أن مقبرتكم أكثر أمنا وأمانا؟ انها واحة روحية أخروية، سيسعد بها “الشماريخ”، شخوص روايتي المعدمين، وسيخرجون من صفحات الرواية فرحين، متسللين من أسوار كرهي للقرن العشرين، وسيطالبونني بتسليمهم لكم. لكنَّ نهاية كهذه قد لا تبدو عادلة، وأرى أن نبحث عن نهاية منصفة أخرى بعد الفراغ من القاء شهادتي الروائية. هكذا أفضل.
سأقتربُ الآنَ من نهايةٍ مُريحةٍ، نهايةٍ مُنصِفةٍ حميدةٍ ومحايدة، ففي النهايةِ لا بدَّ من ختام، ولا بدَّ من وداعٍ حزين. ولكنْ كلُّ ختامٍ لصحبةِ معلَّقةٍ من هذا العِيار سيكونُ مخيفا، وقد لا أنجو منه لأنني سأضطرُ الى إعادةِ النظرِ ثانية في تَرِكَة الهربِ الثقيلة، وسأهرُبُ بعيدا داخلَ الهربِ ذاته، وسأبتعدُ ثانيةً عن النهاية، وأجدني في التيهِ مرةً أخرى!
الهربُ هو اللونُ الآخَرُ للحرب. ليس للهربِ فرقٌ بين ما هو فوق وما هو تحت. كلاهما هرب، واذا وجِد هناكَ دخيلٌ فهو خائن، لأنَّ الهربَ حلٌ غاصب. صورةٌ مشوهةٌ من صورِ الهلاك. هو أعوصُ الحلولِ لأنه موتٌ يتذرع بالعيش في عالمٍ سُفلي، لا يُحققُ للهارب سوى الذيوعِ في ثرثرةِ الشوارعِ ودخانِ المقاهي ومتاهاتِ الرعب. لكنَّ “شمروخاً” مثلي قد لا يستوعبُ ذلك، لأنه لم يُدركْ في هربه ضياعَ الزمنِ من حولِه، ولم يملكْ حلّاً له سوى أن يضيعَ ويتماهى معه. ربما لأنني أخفقتُ في إدراجِ الحربِ على سجلِّ المعقولات، وربما لأنني ابتُلِيْتُ بمتلازمةِ طابورِ الضياع، وربما لأنَّ المدنَ لفظتني، فبتُّ بندولاً، حيثما تأرجحَ بدا هارباً وإنْ في السِلم. سأظلُ هكذا سائرا الى الخلف، عكسِ المخلوقات، في فوضى ذلك الخرابِ المريح!
دعنا نقول معا لمن لا يعرف البصرة:” تحدَّثْ عن الجنوب، ماذا يشبه؟ ماذا يفعلون هناك؟ ولماذا يعيشون على أيّ حال؟ انك لا تستطيع أن تفهم. كان يجب أن تولد هناك” *
لم يَسْعَ أيُّ هاربٍ في “المعلَّقة” الى تمجيدِ الذات. فهُم أوصياءٌ على تبديدِ ذواتِهم وحسبْ. أيُّ فردٍ منهُم هو كائنٌ مُسْتَعْبَد لا إرادةَ له. هذا أساسُ ما يعانيه. كائنٌ باردٌ خانعٌ ، له ذاتٌ تعي أنَّها ذات، وتلك هي مصيبتُها الكبرى.
“نحن المألوفون. المارَّة حول العالم. فكرنا في صحبة أنفسنا، انْ لم يرغب في صحبتنا أحد”. *
عزلةُ الهاربِ تنبعُ دائما من خَيارِ الحربِ باعتبارها إحدى أهمِّ شروطِها وليس من خيارٍ عقلي. لأنَّه كائنٌ مسلوبُ الهوية. ينغمرُ بتأنٍ متحرِّزاً في هربِهِ. هذا جُلُّ ما يأملُهُ. لكنه يخشى من أن يكفَهِرَّ الهربُ وَيَلْطِمَهُ على خيبته. لا بدّ أنْ ينالَ منه في النهاية. هو يعي ذلك، لذلك يُباشرُ مبكِّراً في عمليةِ الاستخلاصِ ويصفُها بتوطئةٍ حسيةٍ مضغوطة، مرثيةٍ منفصلةٍ حرجةٍ انتقائيةِ النواح. يستنتجُها من هَوَسِه، من تلك الطيورِ التي لا تحلِّقُ عاليا ولا تريدُ أن تتعفَّنَ في متاهاتِ الحروب.
لقد اعتدتُ أنا ابنُ البصرةِ أن أرى مدينتي مهزومةً مثلي، وتحتاجُ الى معجزةٍ لفكِ خيباتِها، لذلك كلَّما قفزتْ الى ذهني أسئلةٌ داخليةٌ جديدة، أكبَحُها مرددا:”ما جدوى تكرارِ هذا الهذيان؟ ما الذي تعنيه الأسئلةُ البليدةُ في دورانِها؟ فكلُّ ما سأثرثرُ به لا يعدو أهونَ من حفنةِ كلامٍ متأخرٍ عن تحطيمِ مدينةٍ دَفنتْ نفسَها بنفسِها في تراكمٍ مهول.
كلُّ حُروبِنا يا أحبتي باسم الله، وباسمِ العدالة، ونيابةً عن التاريخ. وكلُّ طرفٍ فيها هو الحق، وعدوُه باطل. وحدَنا لا نعرف من أمرِنا شيئا. نحنُ جنودُ حرب، وقودٌ للحق وللباطل، ولربَّة النارِ التي لا تؤمِنُ بالحقِّ، ولا تأبَهُ بالباطلِ، دائما ألسنتُها تسخرُ من حقِّهم، ومن سوادِ باطِلهم، لكنَّها تحتفظُ بحقِّها، حقَّ الاشتعالِ بأجسادِنا، أليسَ ذلك باطلا أيضا؟ قد ينطوي هذا الاعتقادُ على يأسٍ، ولكنْ ما العيبُ في الأمر؟ انَّ من ينتمي الى بلدٍ عمرُه أكثرَ من سبعةِ آلافِ عامٍ من الدموع، سبعةِ آلافِ نواحٍ قبل الميلاد، سيؤمنُ تماما بغَلَبَةِ اليأسِ على خِدعة التفاؤل، وسيدركُ، شاءَ أم أبى، أنَّ لا حاسة أكثرَ ديمومةً وصدقا من حاسة اليأس، ولا راحةَ بالٍ ألذَّ من نعمةِ مصاحبتِها.
في عراقِ الحروب، ابتكرَ “الشماريخ” لعبةَ الهاربِ والزنبور. حصل ذلك منذ نعيق أوَّلِ صفّارةِ انذار، فليس من الإنصافِ أن لا يلعبَ “الشماريخ” في هربهم، أو أن لا يكتشفوا لعبةً لإدامةِ احساسِهم باحتقارِ الذات. هو مسعىً تكتيكيٌّ حثيث، يُعَد ترفيها عَبِقا في أبهى صورة.
تلك هي لعبةُ الهاربِ والزنبور، أخطرُ ألعابِ حروبِ القَرنِ العشرين، لا يدركُ خطورتَها الا من ذاقَ رعبَها، ولا يفوزُ فيها الّا من خَبِرَ جنونَها، وعَرَفَ بعد احتراقِ رحيقِه، أن الحربَ التي صنعتْ هذه اللعبةَ لن تنتهي، حتى لو نجَحَتْ المساعي الحميدةُ بإيقافِها، ستصبحُ كلُّ الحياةِ بعدها لعبةً، لعبةً خطرةً مجنونة، يستخدمها الهاربون وأشباهُهُم، فطالما تمكن الزنبورُ والزيتونيُ وكاتبُ التقارير والجلادُ من أن يجعَلَكَ تشعرُ باحتقارِ نفسِك، ستأتي بعد انتهاءِ الحربِ أفواجٌ مَن الجلادين والضحايا معا، لتمارسَ التسليةَ ذاتَها، اللعبةَ ذاتَها. ان البلدَ المنتجَ للحرب، لن يذهب أبعدَ منها، حتى لو خسِرَها، حتى لو تحوَّلَ من أقصى اليمينِ الى أقصى اليسار، فالعقلُ الذي صنَعَ هذه اللعبةَ، لن يَحيدَ عن ممارستها، سيبقى ولّادا لها، ومطوِّرا ومتباهيا بها، تلك هي سنَّةُ الحروب.
في الحروب، يتغيرُ طعمُ المدنِ أيضا، يتغيرُ نبضُ بيوتِها وشوارعِها، حتى كراجاتُها تغدو شائخة، تنزلقُ مثلَنا الى الضياع، تلْغمُها الحربُ بمخلوقاتها الكئيبة، فتغدو مثلَ عجوزٍ ، يتكئُ على ذكرياتهِ المنشورةِ على الجدران مثلَ لافتاتِ العزاء. لا شيء في داخلها ينبضُ بالحياة، كل ما تكتظُ به، يفوحُ بروائحِ الفراقِ والأسف، وبذلك الإحساسِ المبكرِ بالنهاية. هكذا غدتْ الكراجاتُ توطئةً حرجةً، تعبقُ أركانُها وزواياها برائحةٍ كريهة، لتذكرَنا دائما بخواءِ الحروبِ، وشؤمِ الساترِ المتقدم، ورعونةِ شعارِ “نموت ويحيى الوطن”.
يقولُ الفرنسيُ باسكال:”تنشأُ كلُّ مشاكلُ الإنسان من عدمِ قُدرتهِ على الجلوسِ وحدَه في غرفةٍ هادئةٍ لفترةٍ كافيةٍ من الزمن”.
لكنَّ مهزومي المعلقةِ في تضادِّهم مع الحرب غدوا متفقين مع شرطِها العزلوي  كما أن آهالي القريتين البدائيين الذين جمعَهُمَا نهرٌ ظلوا يعيشون بإدراكٍ جنيني مسالم، ولأن الرحمين المتآخيين على ضفتي النهر يقدمان بصمتَهُما الموحدةِ شديدةِ الاستقلالية بسلطةِ هذا الادراك، فالتفاعلُ هنا ستعبِّرُ عنه اللغةُ الجنينيةُ باعتبارها أصدقَ لغةً ممكنة.
“أنتم يا من ستأتون بعد الطوفان الذي غرقنا فيه. اذكروا، حين تتحدثون عن ضعفنا، الزمن الأسود الذي نجوتم منه”. *
في النهايةِ، أظنُّ أن أعوامَ الحربِ هي مغالقٌ صخريةٌ، لم يقهرْهَا إلاّ الهرب. ففي الحروب، كما في لعبةِ الشطرنج، يهلكُ الجنودُ لينتصرَ الملك، بينما يبقى كلُّ هاربٍ في معلقتي يُناشدُني ويناشدُكُم متوسلا: ابحثوا معي عن نهايةٍ لطفا!
* نص الشهادة الروائية التي قرأها كاتب الرواية على مسامع الموتى في مقبرة الغزالي وسط العاصمة العراقية بغداد
* ما بين الأقواس.. للشاعر حسين عبداللطيف والمسرحي الألماني بريخت.

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *