صندوق جدتي

خاص- ثقافات

*كمال ميرزا (زولاق)

لمريد برغوثي قصيدة عنوانها “صندوق جدتي”.

في القصيدة يغوص “مريد” في صندوق جدته لينبش التفاصيل الحميمة لزمانها، والتاريخ غير المحكي للقضية.

يختم “مريد قصيدته قائلا:

“زمنٌ مطوي كالشراشف مثلما تهوى..

وليت العمر رُتب هكذا يا جدتي!

قومي على كتفي ومرّي على الزمان غريبة

وتأملي ما تبصرين

مِن ارتباكات الجفون أمام سيدكِ العريس

إلى جنازتنا جميعا في المطر”.

جدتي لأبي “حليمة”، أو “عليمة” كما هو دارج عند الشراكسة، ماتت هي أيضا في المطر، وتحديدا عاصفة “أليكسا”، في نفس الليلة التي أفرغت فيها العاصفة حمولتها.. وأُغلقت الطُرق.. واختبأ البشر.

في اليوم التالي نجح أبناء الحلال في تدبّر مرقد لها في مقبرة الشركس المُتخمة بوادي السير، مع أن جدتي ليست من “وادي السير”، وعلاقتها بوادي السير انقطعت منذ هاجرت إحدى عماتي وزوجها “الوادي سيراوي” عائدَين هما وأطفالهما إلى القوقاز قبل أكثر من خمس وعشرين سنة.

جدتي “حليمة” من الجولان، قرية “الخشنية” تحديدا، القرية ما تزال حتى هذه اللحظة تحت الاحتلال الصهيوني.

ولكن جدتي لم تترك “الخشنية” بسبب الاحتلال، تركتها قبل ذلك بكثير عندما أحضرت خالتها (والدة جدّي) هذه اليتيمة العوراء عروسا زهيدة لابنها الشاب اليافع يتيم الأب.. نحلة كانت قد قرصتها في عينها وهي صغيرة، ثم تكفّل الطبّ العربي بالباقي!

مع الزمن فقدت “طشاش” عينها العوراء، وكامل بصر عينها السليمة، وقوة سمع أذنيها الكبيرتين بطريقة لافتة!

“جاطات العشّي”، أي صواني الطبّاخ، هذا هو التشبيه الشعبي الدارج لوصف آذان مثل آذان جدتي!

في جرش أمضت “حليمة” عمرها وأنجبت ولدَين وخمس بنات ربتّهم ورعتهم إلى جوار حلبها للأبقار، وصيانتها للخان (مرقد الأبقار)، وعنايتها بالدجاج، وتدبّرها شؤون المنزل بالحد الأدنى من التكنولوجيا والكماليّات التي تتيحها تلك الأزمنة.

في الحقيقة كان لها ابن ثالث، البكري، اسمه “مظهر”.. ولكنه مات عندما أصرّت على الذهاب إلى الجولان لتعزيل (1) بيت إخوتها الأيتام بعد أن تزوّج والدهم وتركهم.

يقال أن “مظهر” كان فائق الجمال، وأن عينا هي التي أصابته وأودت به!

يقال أيضا أنه بكى دما قبل أن يموت!

موت “مظهر” كان الجريمة التي لم يغفرها جدي لجدتي أبدا، والانتقام الذي بقي يهددها به طوال عمره هو أن يتزوّج عليها!

ولكن لا تخدعكم هذه التفاصيل، ولا ينصرف ذهنكم إلى صورة الجدّات الخدّاعة في القصص والحكايات، “حليمة” كانت قوية الشكيمة وشرسة بحق، شرسة بما يفوق دزينة من الرجال!

الشراسة لديها لم تكن طبعا أو خيارا، كانت “صراع بقاء” و”تثبيتات طفولة” لا يكفي كل الأطباء النفسيين في العالم لحلحلتها!

جدتي لم تكن تعرف “فرويد” أو “يونغ”، مع أنها تتقن القراءة والكتابة، وتحفظ من القرآن ما يؤهلها لأن تكون أماما في وزارة الأوقاف!

وعلى ذمّة العجائز أنها كانت صبية جميلة بصوت جميل، وتتقن العزف على “البْشِنة”(2)، والشباب ـ قبل عورها ـ كانوا يتسابقون للرقص معها في “الفنطزيات”(3)!

صوت جدتي الجهوري، والمزعج، وأحيانا الفضائحي، هو آخر ما حافظ على صحته وعافيته من بين سائر جوارحها ومَلَكاتها.. كان سلاحها ضد الخرف والفزع والعتمة والوحدة!

ومع هذا عندما ماتت جدتي “حليمة” بعمر يقارب الخامسة والتسعين بحسب تقدير السن، كانت عبارة عن كتلة من لحم مُطفأ ومُصمَت وهامد!

كنّا قد “جرجرناها” معنا إلى العاصمة عمّان بعد أن رحلنا نحن وبيت عمّي، أنا كنت عرّاب رحيلنا، وبنات عمّي، حفيداتها، كنّ عرّابات رحيلهم.

لو كانت بوعيها وصحتها أظن أنها كانت سترفض، سترفض كما ترفض حاليا اثنتان من عمّاتي تتمسكان ببيتهما في جرش برغم إلحاح أبنائهما.

إذا كان هناك شيء أكيد فهو أن عمّاتي قد ورثن عن “حليمة” قوة الشكيمة!

أنا أنزلتُ “حليمة” إلى القبر، أنا وابن عمّتي “بشّار”.. قبرها المنمنم الصغير!

برغم الثلج، والبرد القارس، والمنحدر الزَلِق، والحيّز الضيق للحركة والمناورة.. كانت عملية دفنها سهلة وميسّرة بشكل عجيب!

لم تكن جنازة، لم تكن جثة، كان الأمر أشبه بوضع طفل رضيع في مهده، أقسم أنني لا أبالغ، هكذا أتذكر الأمر!

الرقة.. الدعة.. الدفء.. الذي استقبلت به الأرض جسدها الضامر!

أخيرا، في القبر، وجدت جدتي الحنان الذي حُرمت منه طوال عمرها!

باستثناء ابنة عمّتي “نتاشا”، لا أعرف أحدا كان “يحنحن”(4) على “حليمة” لا لشيء إلا الحنان نفسه.. الواجب والالتزام والعيب هو ما كان يحرّك البقية!

أمّا أنا فقد كنتُ وغدا معها، عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أدرك أنني كنتُ وغدا معها، معها ومع سائر الذين أحبّوني.. كنتُ وغدا وما أزال!

جدتي “حليمة” أيضا كان لها صندوق، وكنّا نتفنن في معالجة قفله، أو نبش المخابئ التي تتخذها لمفاتيحه.

هوسنا بالصندوق كان للظفر بـ “الملبس”(5) الرديء الذي تخبئه، وأحيانا بقايا “نقرشة”(6) مْبَردة(7)، ولم تكن تعنينا بقية التفاصيل!

صندوق جدتي لم يكن يحتوي “شراشف” مطوّية كصندوق جدّة “مُريد”، ولم يكن مرتبّا.. كان أقرب للفوضوية أو العشوائية.

حتى هذه لا أستطيع أن أرثيكِ بها يا “حليمة”: ليتَ العمر رُتّب هكذا يا جدتي!

عمركِ كان مثل صندوقكِ.. “مكركب”، وزهيد، ومستباح!

صندوق جدتي انتهي سَقَط متاع في المخزن القديم، أو “الحاصل”، هكذا نسمّيه.. قبل أن يَتلف أو يُرمى أو يسرقه أحدهم!

—————————————-

(1) تنظيف، توضيب، صيانة.

(2) الآلة الموسيقية الشعبية عند الشركس، وهي من عائلة الأكورديون.

(3) الفنطزيّة: الحفل الشركسي، من “فنتازيا”، وخلاله يقوم الشباب والصبايا بأداء الرقصات التراثية حسب الترتيب المعتمد: “قافة” ثم “ششن” (شيشان) ثم “وِدْج”، ومزاولة الألعاب والمسابقات الشعبية مثل لعبة “الأجاوة” ولعبة الأمثال.

(4) يُسبغ الحنان.

(5) السكاكر الصلبة.

(6) المكسّرات.

(7) لحقت بها الرطوبة، غير طازجة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *