ماركو بولو.. الرحلة مفتاح الآخر

القاهرة- في المرحلة الأخيرة من الحروب الصليبية، التي امتدت من سنة 1096 إلى سنة 1291 حدثت في منغوليا أمور هزت العالم، وأحدثت فيه أثراً عميقاً من الصين حتى الإمبراطورية الرومانية، فقد حدث والقرن الثاني عشر الميلادي يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ظهرت على مسرح التاريخ قبيلة مغولية جديدة هي «التتار» وقد ابتكر هؤلاء وسيلة جديدة للحرب، هي من صنعهم دون غيرهم، وبهذه الوسيلة اجتاحوا العالم، فلم يعتمد التتار على سلاح المشاة، كما كان يفعل غيرهم، بل كان اعتمادهم على جيش من الخيالة.
ولم تأت سنة 1215 حتى كان جنكيز خان زعيمهم، قد أخضع كل القبائل المغولية وكون منها حكومة واحدة، وبدأ يشن غاراته على الصين، ونجح في الاستيلاء على بكين، ثم ولى وجهه نحو الغرب يكتسح كل ما يصادفه في طريقه من ممالك وشعوب، وعندما مات كانت إمبراطوريته تمتد من البحر الأصفر إلى الخليج العربي والبحر الأسود.

في مدى أربعين عاما كان التتار قد اجتاحوا وسط أوروبا ولم يحل بينهم وبين بلوغ ساحل المحيط الأطلسي إلا أراضي الغابات في ألمانيا، واهتز عرش البابا في روما لهذا الخطر الوافد من الشرق، وأراد أن يعرف شيئا عن إمبراطور المغول الذي لم يقف أمام جيوشه شيء فأرسل في سنة 1245 راهباً من الفرنسيين كان ممثلاً شخصياً له، إلى الخان الأعظم حفيد جنكيز خان، وأصدر هذا الراهب كتاب «التتار» وفيه وصف مفصل لحياة التتار، وبعد ست سنوات قام راهب آخر بالرحلة ذاتها أرسله لويس التاسع ملك فرنسا، وبينما كان هذا الراهب هناك أخذ تاجران من البندقية يشقان طريقهما في اتجاه الشرق هما نيقولو بولو وأخوه مضيو، وكانت الأقدار قد اختارت الابن ماركو، ليلمع اسمه دون أفراد الأسرة.

كانت تجارة آل بولو تتطلب من الأخوين أن يتجولا في البلاد، ليريا كبير التتار، ويصلا إلى بلاط «بركة» الخان الذي اعتنق الإسلام، وفيما بعد سيلقى هذا الخان هزيمته على يدي هولاكو، ويجد الأخوان أن السلام الذي عاشا في ظلاله قد انتهى، فيفران بمواصلة الرحلة نحو الشرق ويوغلان في مجاهل أرض التتار، ويعبران نهر الفولجا ويجتازان الصحراء إلى أرض بخارى وسمرقند.
وكان كوبلاي خان (1260 – 1294) أعظم خانات المغول بعد جنكيز خان قد سره أن يرى رجلين أوروبيين، وراح يمطرهما بأسئلة عن دول الغرب والبابا والكنيسة، وأراد أن يعرف المزيد عن المسيحية، فقرر أن يبعث الأخوين برسالة إلى البابا، وطلب منه أن يوفد 100 من المسيحيين تكون لديهم القدرة على إثبات أن الأصنام من صنع الشيطان وطلب أن تعود إليه البعثة بشيء من زيت القنديل الذي يضيء فوق قبر المسيح في القدس.
وفي ذلك الوقت كان الكرادلة غير متفقين على انتخاب بابا جديد، وعندما وصل نيقولو بولو إلى البندقية كان الطفل ماركو قد أصبح لديه 15 سنة، وتم انتخاب البابا الجديد الذي كان يريد كثلكة المغول والعودة بكنائس الشرق إلى الكنيسة الأم في روما، والمشكلة أن مغول الشرق كانوا متعصبين للبوذية، وكان مغول الغرب عظيمي الإيمان بالإسلام، وكان تحويل أي من الفريقين عن عقيدته فوق طاقة البشر. وفي أوائل عام 1275 وصل آل بولو إلى بلاط الخان الأعظم، الذي وجه عناية خاصة إلى «ماركو» الشاب الذي فتح عينيه على عالم يختلف تمام الاختلاف عن العالم الذي عاش فيه في أوروبا، ورأى أشياء لم يكن يحلم برؤيتها، وارتفع شأن ماركو لدى الخان الذي ولاه إحدى الولايات لمدة ثلاث سنوات، ولبث آل بولو في بلاط الخان عشرين عاما، إلى أن أرسلهم في إحدى المهام، وقضت الظروف أن يتخلفوا في سومطرة حوالي خمسة أشهر كما أنهم اضطروا إلى المكوث في الهند فترة من الوقت، وانتهز ماركو الفرصة فراح يعاين البلاد التي اضطر للنزول فيها، فنجده يكتب عن التوابل وآكلي لحم البشر والجواهر التي كانت تتجر فيها عائلته، وواصل آل بولو سفرهم إلى البندقية، عبر فارس، وكان وصولهم في ثياب غريبة جعل الناس تنكرهم، ولجؤوا إلى عدة حيل، ليحصلوا على اعتراف المجتمع البندقي بهم، وخلال الحرب بين جنوة والبندقية تعرض ماركو بولو للأسر، ولبث فيه نحو عام، وفي عام 1324 أرسل في طلب قسيس وموثق عقود ليملي عليه وصيته، وكان من الممكن أن يطوي قصته لولا أنها سجلت في الكتاب، وكان ماركو هو السبب في وضع هذا الكتاب، فقد كان يقص أخباره على أصدقائه، وكان بعضهم يستمع إليها كالأساطير وبقدر ما ذاعت قصصه بقدر ما كذبه الناس، وقد حدث وهو على فراش الموت أن زاره بعض أصدقائه وتوسلوا إليه أن ينكر الأكاذيب التي قصها قبل أن يلقى ربه.
ومن العجيب أن يلمع اسم ماركو بولو بين أسماء الرواد والمكتشفين وأن يظل معدوداً على الدهر بين كبارهم، مع أنه لم يكن مكتشفا، فلماذا إذن بقي اسمه مذكورا؟ ولماذا غطى اسمه على اسم أبيه وعمه؟ الواقع أن ذلك كله كما يقول د. محمد محمود الصياد – يرجع إلى أن الرجل دون غيره ترك وصفاً أميناً مكتوباً للبلاد التي زارها والشعوب التي أقام بينها، وتحدث عن بلاد وناس لم يسمع بهم مواطنوه من قبل، ومن هنا احتل مكانا بارزا في تاريخ الرحلات والكشوف الجغرافية.
كانت رحلة ماركو بولو قنطرة بين الشرق والغرب وأصبح الطريق البري والبحري مألوفا، فسلكته بعثات التبشير وعندما انهارت امبراطورية المغول انتشرت الأفكار المعادية للاستعمار التجاري الغربي، وأصبحت طرق التجارة غير مأمونة أمام الأوروبيين ووقف الأتراك يسدون الطريق، وبدأ عصر الكشوف الكبرى، وكان من أهم آثاره اكتشاف الأمريكتين، وكان لدى كريستوفر كولمبس ترجمة لاتينية لكتاب ماركو بولو، وعلى كثير من هوامش صفحاتها تعليقات بخط كولمبس نفسه تشهد بأن مكتشف العالم الجديد قد تأثر بالرحالة البندقي.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *