الأرجح أنهم مجانين..

*يوسف أبولوز 

ما المتعة الداخلية الخاصة جداً، تلك التي تجدها في حوارات صحفية أدبية ثقافية كانت قد أجريت مع كتاب كبار في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو قد تكون أجريت قبل عشرين عاماً.. ذلك الزمن الذي يمكن أن يكون أقل وحشية من زمننا هذا الذي يكثر فيه باعة الأيديولوجيات والأفكار المستعملة، ويقل في الأدب أو تكثر فيه (قلة الأدب) ممثلة في الادعاءات والتبعات السياسية التي يرتدي أصحابها قبعات مذهبية وطائفية خصوصاً في بعض البلدان العربية التي نمت فيها أزهار الربيع، وإذْ بهذه الزهور والبراعم الصغيرة تسقط الأقنعة الثقيلة والخفيفة عن الكثير من الوجوه..
كتَّاب مثل: آرنست همنغواي، هنري ميلر، بورخيس كارلوس فوينتس، ميلان كونديرا، نجيب محفوظ، بول أوستر، سوزان سونتاج، امبرتو إيكو لم تكن لهم أقنعة، تقرأ حوارات ستينية معهم ولا تجد كلمة واحدة في الحوار تحيلك إلى ما هو عرقي أو تعصبي أو طائفي أو مذهبي أو إثني.. كلام في الأدب والثقافة والعمل فقط، ثم فقط، وإذا حضرت السياسة فهي تحضر كأطياف أو غلالات.. أكثر من ذلك خذ هذا الموقف يوجه جورج ويكس سؤالاً إلى الروائي هنري ميلر.. هل تبالي بالسياسة كثيراً؟.. يجيب ميلر: «..إطلاقاً.. أعتبرها عالماً كامل الفساد والعفن. لا نصل من خلاله إلى أي شيء.. السياسة كلها هينة في نظري..». ثم يكمل في إجابة أخرى.. «المثاليون في السياسة يفتقرون إلى الإحساس بالواقع.. والسياسي ينبغي في المقام الأول أن يكون واقعياً، أولئك الناس من أصحاب المثل والمبادئ جميعهم ضالون في رأيي (في رأي ميلر) وعلى المرء كي يكون سياسياً أن يكون على شيء من الضحالة، وأن يكون فيه من القاتل شيء قليل، ألا يعاف رؤية الناس وقد صاروا ضحايا أو انتهوا إلى مذبحة في سبيل فكرة سواءً أكانت جيدة أم رديئة».
«بيت حافل بالمجانين» يضم حوارات مع الكتاب الذين ذكرنا أسماءهم قبل قليل نشرت في مجلة «باريس رفيو» ونقل الكتاب إلى العربية أحمد شافعي ليدلنا بذلك على عادات هؤلاء في الكتابة، وكيف يكتبون الروايات، وكيف ينظرون إلى السياسات الانتهازية النفعية التي تضر بالشعوب، فهناك من هو نظيف ونزيه وعادل وله ضمير أدبي وأخلاقي يوجهه إلى الخير والجمال.

نعرف أكثر وأكثر عن الرواية من الروائيين أنفسهم، من دون حاجة إلى تنظيرات وتقعيرات نقاد الأدب. نعرف أيضاً الخيوط السرية التي تشد كاتباً ما إلى زمن تاريخي أو ثقافي قديم.. الروائي الإيطالي «امبرتو ايكو» مثلاً يقول: «أحب العصور الوسطى مثلما يحب البعض جوز الهند». ومما قاله «كارلوس فوينتس» على نحو إشكالي تماماً.. «..الروائي روائي لأنه لا يعرف كل شيء»، أما بورخيس فيعتبر أن الأفكار ليست مهمة، ونعرف أن همنغواي كان يكتب رواياته وهو واقف.روائي ملاكم يكتب وهو واقف وأخيراً يضع فوهة بندقية في فمه ويطلق النار.
هل الروائيون.. عنصريون؟؟.. في الأغلب لا، أكثرهم إنسانيون، بل ومنهم من هو ساخر، أو دائماً في قلب المزاح.. ميلان كونديرا يقول: «العنوان الصالح لكل كتبي هو المزحة».
وكتابه «غراميات مرحة» يقع في إطار السخرية والمزاح أيضاً.
هل الروائيون شهود عيان على التاريخ؟..
ليس بالضرورة، وهم مثل الشعراء لا هم مصلحون ولا دعاة ولا معلمون..
الأغلب أنهم مجانين، ونقطة آخر السطر.
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *