واشنطن- تخيل أنك رأيت شرطياً في حيك يعمد يومياً إلى توقيف 10 أشخاص عاديين تماماً، لمجرد التدقيق في مركباتهم أو حقائب ظهورهم. وتخيل الآن أن 9 من هؤلاء الأشخاص لا يتهمون بتاتاً بأي جريمة إطلاقاً، إنما شاءت المصادفة أن يكونوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. في تلك الحال، حتى أكثر الأشخاص امتثالاً للقانون سيعترضون في النهاية على تلك المعاملة. وفي أميركا، حصل ذلك النوع من الاعتراض.
والآن، بدل عنصر الشرطة المذكور أعلاه بـ… «وكالة الأمن القومي»! إذ ينطبق السيناريو السابق الذكر على ما تفعله «وكالة الأمن القومي» بوسائل الاتصالات في كل أنواعها. ولم يعد الأمر يتعلق بالتجسس على دول ومنظمات خارج أميركا، بل تعداه إلى فرض رقابة على الأفراد في الولايات المتحدة، تحت غطاء الطُرُق الملتوية التي تبرع تلك الوكالة في استخدامها لتفسير بعض القوانين الأميركية.
وفي أوقات سابقة، أعلنت صحيفة «واشنطن بوست» الشهيرة أن 9 من أصل 10 حسابات مخبأة في أجهزة ضخمة للذاكرة الإلكترونية، تضمّ مكالمات بين أميركيين تجسست عليهم «وكالة الأمن القومي»، على رغم أنهم لم يكونوا مقصودين بالمراقبة! وسلم الخبير المعلوماتي المتمرد إدوارد سنودن نماذج عن مكالمات كاملة من ذلك النوع إلى الصحافة الأميركية، تحديداً صحيفة «واشنطن بوست».
يضاف إلى ذلك، أن قرابة نصف الملفات المُراقَبَة من جانب الوكالة، وهي نسبة عالية إلى درجة مخيفة، احتوت أسماء وعناوين بريد إلكتروني وتفاصيل أخرى، تعترف «وكالة الأمن القومي» أنها تخص مواطنين أميركيين أو أشخاصاً مقيمين بصورة شرعية في الولايات المتحدة، وفق «واشنطن بوست» ذاتها.
ولا تضم تلك الوثائق التي تشمل آلاف الصفحات، محتوًى يمكن وصفه بأنه «خام»، بمعنى أنه حُفِظَ في صورته الأصلية من دون تدخل من خبراء الوكالة. إذ بيّنت الصحيفة ذاتها أن ما ورد في تلك الصفحات يبرهن أن المكالمات كلها خضعت لتقويم من جانب محلّلي «وكالة الأمن القومي»، مع الإشارة إلى أنه استُخرِج أصلاً من مركز الوثائق التابع لها. ولَخّصَه خبراء «وكالة الأمن القومي» بعد أن تولت حواسيبها غربلة هويات أصحابه، وفق ما صرح به لاحقاً أحد من شاركوا في إعداد الملف الذي نشرته «واشنطن بوست».
ما هي الخلاصة المستقاة من تلك التجربة؟ إذا كنت تتصفح الإنترنت، فأنت تتجول عملياً في «أحياء» تشرف عليها «وكالة الأمن القومي»، سواء كنت داخل الولايات المتحدة أم لا.
وتماماً كالذين يعترضون على قوانين ظالمة تسري في بلدانهم، كالتوقيف والتفتيش على أساس الاشتباه، يجدر بالناس أن يعترضوا على ذلك النوع من ممارسات «وكالة الأمن القومي».
تكتسي الحقائق التي تعاونت «واشنطن بوست» وسنودن في إبرازها، أهميتها في أنها تثبت النقطة التي حاول مناصرو الخصوصية والحريات المدنية إبرازها على مدار سنوات طويلة.
وتتلخص تلك النقطة في أن مراقبة «وكالة الأمن القومي» ليست محدودة الأهداف. وهناك معركة مفتوحة منذ عام 2006 تخوضها مؤسسة مدنية اسمها «منظمة الجبهة الإلكترونية»، ضد برنامج المراقبة الجماعية المنفلتة للوكالة. وتظهر إحصاءات «واشنطن بوست» بخصوص 160 ألف محادثة وردت في ملفات سنودن، أنّه حتى ما تسميه الوكالة «المراقبة الموجهَة» لا تجري على نطاق ضيق بتاتاً. وفي الواقع، تبدو تلك المراقبة ضخمة إلى درجة أنه ينبغي إثارة علامات استفهام حول ضرورتها وفاعليتها أيضاً.
في سياق تلك المعركة، ظهر مقال على موقع «ذي إنترسيبت» The Intercept الأميركي، يسلط الضوء على استهداف 5 قادة سياسيين ومناصرين للحقوق المدنية من مسلمي الولايات المتحدة، وهو أمر لم يمر من دون مرارات متنوّعة.
في المقابل، الأرجح أنه يصعب إيجاد حل لمشكلة تأثير مراقبة «وكالة الأمن القومي» على غير الأميركيين. ومن ضمن المعلومات الصاعقة التي كشفتها «واشنطن بوست» ووثائق سنودن، وصف وسائل الاتصالات التي يتمّ تعقبها. إذ يرد في أحد المقاطع الوصف الآتي: «هناك مجموعات من الصور لرضع وأطفال في أحواض الاستحمام وعلى الأرجوحات، وبعضهم ممدّد على الأرض. وفي صور أخرى، يتباهى رجال بإظهار أجسادهم، في حين تستعرض نساء ملابس داخلية، فيما هن متكئات أمام كاميرا الـ «ويب» بطريقة فيها من الإيحاء ما فيها، على غرار صور من يرتدين مايوه الـ «بيكيني»، وليس الـ «بوركيني»!
كخلاصة، لم يعد الأمر يتعلق بأرقام وإحصاءات، بل تجسس على الحياة اليومية لأناس عاديين. ولا يغيب عن البال أيضاً أن الإنترنت تمثل عالماً حياً ومعولماً، ما يفرض ضرورة الإحساس بالأمان فيه. في المقابل، يبدو أن ذلك الإحساس لا يقع ضمن اهتمام «وكالة الأمن القومي»، بل إنها لا تأبه به البتّة.
___________
*الحياة