*ناصر الريماوي
خاص- ( ثقافات )
الشاعرة التي نجت للتو، من خمسة حوادث مميتة وفي أمسية واحد، بدت محبطة، وهي تصف نجاتها بالخيبة…!
****
قبل تلك الأمسية بشهر واحد، كانت تمد عنقها نحو النافذة بفزع معتاد. ترتعد بقعة الضوء الرزينة المثبتة على الطاولة، فوق ألبوم الصور القديمة لعمّان، وتتفتت على احتدام صراخها المفاجيء: “هذا المنعطف المقيت زرعته صدفة لعينة في الجوار…!” يتبدد صوت الفرامل المستفز في الفراغ، بينما يعلق صداه كالطنين في فضاء الحجرة حيث الشاعرة، وبقعة الضوء الشاحبة، والوحيدة تحت رأس ” اللامبدير ” المنكّس .
تترك بحثها وتغلق كتاب “عمّان في الأربعينات” لتتابع في قلق عبر الزجاج…، كلب ” البودل ” الرمادي يقفز باضطراب بين المركبة والجسد الذي تحلّق حوله الناس، لقد نجا بإعجوبة، بعد أن أفلتت السلسلة المعدنية من قبضة الضحية، أما السيدة العجوز فظلّ مصيرها مجهولا، لحظات صعبة مرّت قبل أن تنطلق المركبة ذاتها بسرعة جنونية وأضواء رباعية ونفير تحذيري متقطع، يتفرق على إثرها الحشد ويخلو المكان. تنحني الشاعرة لتلمّ ما تناثر من ضوء، ثم تعيده إلى سطح الطاولة، ترجع من جديد إلى استغراقها فوق كومة الصّور القديمة وأوراق بحثها المضني، وكأن شيئا لم يكن.
كان وهج المصابيح الزئبقية ولسنوات خلت، يغمر كل شيء حولها، يتدفق في حزم متفرقة تهطل من كل شبر أسفل الأسقف الجبسية الساقطة في سماء البيت، أو زواياه، تنطلق من بقع نقطية مخفية، وأخرى ظاهرة، معلقة في فضاء المطبخ الصغير، المشرع على صالة الاستقبال المؤثثة بأناقة، وحتى حجرة الشاعرة لتشمل أرجاء البيت بأكمله، كان يخترق في سطوعه أرفف المكتبة ويتسلل نحو أعماق الخزانة الواسعة، المحتشدة بالملابس، حتى تجاوز الأمر حد الإنارة المبهره وتخطاها إلى المجازفة بالنبش بحثا عن مقتنيات قديمة، كانت قد أخفتها بعيدا عن الضوء وأعين الناس، ثم التمادي إلى حد العبث بها في غيابها. رافق اكتشافها للأمر بحثها القلق عن أردية شبابية قديمة أحالتها منذ زمن بعيد إلى صندوق محكم الاغلاق أودعته غرفة المؤونة العليا، ثم نسيته.
قبل حظرها للضوء بأيام قليلة، كان المنعطف المقابل يشف عن فتاة على أبواب عقدها الثاني، ترفل بسروال أسود، فضفاض، وقميص مقلّم باللونين، الأبيض والأسود. رافق انبثاقها التدريجي ذلك المساء، رياح خفيفة زاحفة، سبقتها لتكنس الرصيف وأعتاب المحال التجارية من أمامها. كانت السلسلة المعدنية الفضية في قبضة الفتاة، والتي تنتهي بطوق مثبت حول عنق كلب “البودل” الرمادي، أول شيء أثار إهتمام الشاعرة وهي تراقب عبر النافذة. تبخرّت من رأسها الفكرة في تلك اللحظة ولم تسقط على أوراق بحثها التاريخي، فاستشاطت. لكن الذي أثار دهشتها وأخمد ثورة الغضب، هو ذلك الاحساس المفاجيء حول إمكانية التنبؤ بما ستفعله الفتاة، وكأن الشاعرة بهذا تستعيد مشهدا مسجلا رأته من قبل، تقف الفتاة أمام ركن “العصير والبوظة” وتطلب كأساً واحدا من المانجا تحديدا، تحتسيه على مهل ثم تعيده إلى الرف، تواصل سيرها، تتوقف أمام محل الألبسة الشبابية المجاور، تعبث بجسد الدمية البلاستيكية “الماليكان” ذات القدّ النحيل المنتصب فوق الرصيف، إلى جانب الباب، تتحسسها بعناية، تتلمس أطراف الأقمشة، تتحول إلى زجاج الواجهة الخارجية بجانب الدمية، تحدّق طويلا بصف الألبسة المعروضة، تتنهد ، ثم تنتزع نفسها أو يشدها الكلب كي تواصل. الآن ستدلف إلى بقالة التموينات وستخرج منها وهي تحمل كيسا بلاستيكيا أسودا، سوف تجلس لدقائق تحت أفرع الشجرة الوحيدة، فوق مقعد خشبي عريض، برفقة كلبها “البودل” ولن تأبه لدورانه في حلقات متتالية من حولها، وهي ساهمة تفكر بشيء ما. تبقى إلى أن تثور الرياح وتعكس زحفها في الاتجاه الآخر، وغالبا ما تهب من بين قدميها، حتى تقف ، تمشي وهي تتبع الريح، لتعود من حيث أتت … وهذا ما تم فعلا.
تكرر هذا لثلاثة أيام متتالية، مع إنحراف بسيط عمّا سبق، لكنه كان الأهم لدى الشاعرة، بحيث بدا لها هذا الانحراف منطقيا، مما يؤكد أشدّ ظنونها غرابة حول تلك الفتاة. فقد استبدلت في يومها التالي كوب المانجا بعلبة “آيسكريم” (بوظة) مثلجة، بنكهة الفريز، إلتهمتها بتلذذ فوق ذلك المقعد، وفي اليوم الذي تلاه، لم تخرج من بقالة التموينات إلا ببعض السكاكر، أخذت تمتص رحيقها غير مبالية. الشاعرة جرفتها الحيرة ودفعها الفضول إلى الحسم، فأذعنت للمواجهة.
ذلك المساء، جلست إلى حافة المقعد الخشبي، ثم استدارت نحو الفتاة… بادرتها الحديث في حياء وحذر ولكن باندفاع واضح: “كلب (بودل) جميل، ومطيع… هل هو لكِ؟ أم ورثته عن تلك السيدة العجوز؟ بالمناسبة، كيف حالها؟ هل هي بخير؟ هذا المنعطف خطر ويتطلب حذرا مضاعفا لدى عبوره…
إلتفتت إليها الفتاة باستغراب وريبة، وردّت بهدوء وتحفظ شديدين : ” هو لي ولم أرثه عن أحد … ولا أعرف عن أية عجوز تتحدثين …!”
– العجوز، التي صدمتها مركبة عند ذلك المنعطف، منذ أيام. الغريب في الأمر، أن هذا الكلب كان برفقتها دوما، وكانت تفعل مثلكِ تماما، تشرب عصير المانجا وتدلف إلى البقّالة، تشتري مؤونتها ثم تجلس هنا، الأغرب، أنها كانت تقف أمام دمية العرض “الماليكان” ، تنظر طويلا إلى طقم “المونوكروم” المقلّم بالأبيض والأسود، قبل هذا كله.
– لم أفهم… فما الذي يعنيه لك كل هذا؟
– بعد ذلك الحادث اختفى الرداء الشبابي عن تلك الدمية، وحلّ على جسدكِ، أنتِ … أليس هذا غريبا !؟
****
تتزحزح السيارة من وسط البلد، قاصدةً أطراف المدينة، نحو ضاحية جديدة ووجهة مختلفة، وحين يتوارى المدرج الروماني ويصبح خلفها، تبلغ السائق بوجهتها ككل مرّة، ثم تعود للصمت ولألبوم الصور القديمة.
ذلك الصباح طغت صورة المرأة العجوز إلى جانب الفتاة العشرينية الغامضة، على فضاء السيارة وخارجها، جاهدت لطردها عن ألبوم الصور، لكنها لم تفلح. عمّان في الأربعينات، صور منتقاة من أرشيف “الجمعية الكولونية الأمريكية” في القدس، بيوت طينية قديمة متناثرة ومتباعدة، بعضها يتسلق التلة المحيطة بالمدرج القديم، وبعضها يستريح في الأسفل وسط حارات متربة، بلا ملامح، أبنية أخرى تطل من جبل عمّان على جهة المصدار ووادي السرور، جزء من السفح الغربي للأشرفية، وبعض ساحات البيوت وأحواشها الواسعة وهي تقبع خلف أسوار طينية وحجرية واطئة بأبواب قصيرة موصدة.
توغل السيارة بعيدا وتصعد وسط الممرات المسفلتة والمسيجة بالعرائش وأكمات الورد، والمرصوفة جنباتها بالرخام وزخارف الحجارة، كانت كل البيوت الحديثه، تحتضن مسارها ببرندات واسعة مطلّة، ومظلات من القرميد، وزخارف وأقواس رخامية، وأشجار زينة تندلق أغصانها في دلال وترف فوق أسوار حجرية بيضاء لامعة …، قبل الوصول، كانت اللافتة تشير إلى قلب الضاحية المقصودة…” دابوق”.
الشاعرة تبتسم في استجابة نادرة لما حولها، لإنعكاسات عشوائية ساطعة جلبها الضوء، حطّت على زجاج السيارة، ولم تنعكس كغيرها. عمدت سريعا لتَهشّ ما تراكم منها أمام عينيها في ضيق كبير. إرتدت نظارتها القاتمة ثم ترجلّت على إلتماع فكرة هبطت للتو. أصرّت على إستحضار جسد المرأة العجوز إلى جانب الفتاة العشرينية، ثم أفضت وكأنها تحدّث نفسها : لنا أن نستوعب الزمن بدقة أكثر ونحن نحيل إحساسنا به إلى تلك المسافة، نقيس أثره من خلال إسقاطات أفقية متصلة، بدءاً من وسط المدينة وحتى أطراف هذه الضاحية، فنحن لم نستغرق سوى ساعة واحدة إجتزنا بها كل ذلك التراكم الزمني الممتد منذ أربعينات قرننا الماضي وحتى هذه الألفية، في الوصول!
دوّنت في دفتر صغير وهي تستند إلى سور “فيلا” مجاورة : ” للمدينة جسد آدمي أيضا، يكبر ويتمدد ثم يتسع، ولكنه لا يترهل، بل يزداد نضارة وشبابا مع مرورالوقت”.
في ركن “فروستي” عصر ذلك اليوم…، حيث الضوء والصمت يتسابقان للإستحواذ على أغلب المقاعد، كانت على وشك أن تطلب كرات “البوظة” المثلجة، لكن الإرتداد الساطع للإنارة عن الأسطح الصقيلة والأفاريز المتلصصة، جعلها تنتفض، وتتخلى عن رغبتها تلك ثم تغادر. أفضت للنادل في حنق : ” ليس لي جَسَدُ مدينة، كما أنني لست كهلة إلى هذا الحد، ولا متصابية، حتى يمدّ الضوء لسانه لي بهذه السخرية…!
وبينما هي تهرول مبتعدة عن ذلك الركن الصيفي، أخذت تفكّر بترك كل شيء، بالانعزال، والجلوس إلى مظلة القرميد، والإسراع في تقشير نبتة الظل هناك وإلا فاتها الوقت. اعترضتها على بُعد أمتار لافتة مزركشة ” كوافير نسائي “، سقطت عليها كهاجس مريح، لمْ تصدّها، لكنها تمنّت : ماذا لو تنزّلت كفكرة، بل هي كذلك … فروح المرأة العجوز، تحيا الآن في جسد آخر، غير جسدها، هذا ما تطلّبه الأمر هناك. بينما المدينة، تجدد روحها في نفس الجسد، ودون أن تستبدله… – ثم أشارت إلى نفسها – وهذا ما يتطلبه الأمر هنا!
ذلك المساء، وأمام مرآة التسريحة الوحيدة المحاطة بإطار رصاصي داكن، كان الضوء يتخطاها دون انعكاس واضح رغم سطوعه، مخلفا هالة معتمة على المرآة، مما أغاظها وهي تعود عشرين عاما للوراء، بإطلالة جديدة منحتها إياها تسريحة “الفوكاريه” بذلك اللون البني المائل قليلا إلى البرتقالي. صغرت ذلك المساء أكثر من عشرين عاما، ومع هذا فلم يستجب لها الضوء، رغم هذا التحوّل الكبير في حياتها.
كم كانت سعيدة بهذا التبدل مع الإبقاء على جسدها، ودون أن يضطرها الأمر لأن تنزح نحو جسد بديل.
ولولا تجنب الضوء، ورعونته في الافصاح عن ضغائنه نحوها، بطمسه لتلك اللحظة، لكانت الأكثر سعادة في عالم كهذا.
وحين تذكرت غرفة المؤونة العليا، كان الأمر بمثابة الصدمة، رأت قطرات من بقايا ضوء، وهي ترشح من حواف الصندوق وتختلط بملابس “المونوكروم” المقلّمة، والمتناثرة، وقد نخرها الوهج المتراكم من حوله. منذ تلك اللحظة حاصرته لتطاوله، وتتبعه لها بفضول مقيت، مما أضعف من سطوته وألغى سطوعه الهائل، لينتهي كبقعة دائرية، صغيرة، يبصقها فم المصباح “الامبادير” برأس منكّس، على سطح الطاولة.
****
جلَسَتْ إلى نبتة الظل شاردة تقشرها في غيظ ، سرعان ما تحوّل ذلك الحنق إلى حزن نبيل، وكان عليها أن تعترف وهي ترقب جاهدة روزنامة التقويم على الجانب المعتم من جدار البيت الداخلي: “جسد المدينة … لا يشبهني” وعزت ذلك إلى ضعف المرايا وتقهقر الأسطح الصقيلة الشفافة أمام قوة الضوء وقسوته الكامنة في السطوع. لم يكن أمامها في الأيام التي تلت، سوى البحث عن ميتات ثانوية حاسمة، أما السعي لموت حقيقي فتلزمه الإرادة: “تلك العجوز تفوقني جرأة، لذا فلها الأحقية في إستعادة شبابها” – قالت.
شرعت بالتخلّي أولا عن اطلالتها البانورامية في حي الجبل، برحيل مفاجيء حسمته بالنزوح إلى ضاحية صغيرة، ابتعدت بها قليلا عن زحمة القاع ووسط المدينة، وعن كل الوجوه المعتادة التي عرفتها مؤخرا، وأبقت على كرسيها الهزاز تحت نبتة الظل وروزنامة التقويم على جدار الشقة الداخلي، للضرورة.
تخلّت عن رحابة الوقت في نظم القصائد أو تحريرها لملحق الثقافة في تلك الجريدة، تخلّت عن نصوص النثر، وعن متعة الاعداد لأبحاثها الأدبية المنوّعة، تخلّت عن بحثها “العمّاني” وهي تغادر مبنى الجريدة إلى غير رجعة، تخلّت أيضاً عن فتنة الصباح بين أشجار الرصيف المسيجة بالندى وأسوار البيوت ، في مشوارها الصباحي بين بيتها ومقر الجريدة، لتستقل حافلة أو إثنتين في الوصول إلى “شارع الجاردنز” حيث يفترض بمكاتب الوكالة أن تكون، وأن تترأس فيها – الشاعرة – قسما إخباريا، يقضي بتصيد الأخبار… سياسية واقتصادية منتخبة، ثم نشرها.
لم تكن لذة التجديد مبعثا وحيدا للبهجة، فالشاعرة لم تكن لتعترف بأن ما جرى تجديدا، سعت إليه، وإنما إحساسها العميق بأن ذلك التبدل كان شاملا وجوهريا بما يكفي ليرقى إلى حدث الولادة، بل إنه ولادة حقيقية، بيضاء، إستعادت بها أربعين سنة مضت من عمرها. وأن غيابها عن الشِعر وملحق الثقافة كانا بمثابة موت ثانوي، فالغياب رديف لموت ما، أيضا تخليها عن ذكريات بيت الجبل والناس، وانتزاعها لنفسها من بينهم، ألم يكن موتاً ثانويا، أيضاً؟ بلى … لقد كان كذلك، فالموت نهاية، تليه دوما بداية وولادة أخرى… وهنا كانت ولادتي من جديد.
ردّدت بصوت مرتفع، لكنها لم تنتبه إلا لاحقاً، لجدران “الكابينة” المبطنة بقشور خشب البلوط، القاتمة، ووهج شاشات الحاسوب المحشورة بينها، وهي تهتز على وقع الصدى دون أن يصغي لها أحد.
إعتادت أن تحتمي بالصفير المكهرب وضوضاء الاصوات الالكترونية، المموجة، بذلك التداخل المسلّي في بث المحطات الإخبارية وسط الكابينة . مثلما اعتادت على سمّاعات “الهيدسيت” ملتصقة بأذنيها طوال الوقت، لا تنزعها إلا قبل النوم بقليل. تنبّهت بعد وقت قصير إلى تجنبها النظر نحو زجاج المحال التجارية المتصلة على جانبي ذلك الشارع المزدحم، ثم تحاشيها التام لكتل الضوء الساقطة، أو التي يمكن لها ان ترتد عن جملة الأسطح الصقيلة. اعتراها على إثر ذلك هاجس مفاجيء، هبط مصحوبا بشيء من القلق، بأنها لم تترك نبتة الظّل تحت مظلة القرميد هناك، بل جلبتها معها كمظلة دائمة إلى حياتها الجديدة، عن غير قصد.
كان عنقه الذي تطاول إلى فراغ “الكابينة” بنظّارته الكئيبة وملامحه المقطبة، الناقمة دوما، يؤكد لها بعض المخاوف. طوت الصحيفة بملحقها الثقافي، انتزعت سمّاعات “الهيدسيت” بهدوء، وحدّقت إليه مصغية بانتشاء مستفز : “سيدتي، للمرة الألف … هذا التحيز في الانتقاء مخالف لسياسة الوكالة، ولا يتفق ومعيار الجانب الأخلاقي والمهني لها…!”
اندفعت إلى خارج المبنى غير مبالية، ولكن ببهجة منقوصة، يشوبها القلق، هذه المرّة.
كان الوقت بعد الغروب بقليل، مشت مسرعة في زحام شارع “الجاردنز” وهي تتأبط صفحات الجريدة، أمام ركن ” ليفورنو” لبيع المثلجات و”البوظة” وبين الطاولات الموزعة فوق جثة الرصيف، ألقت بحملها، وحاولت أن تستكين، سارعت إلى طلب طبق من “البوظة بالكريما ” بجرأة غامضة…
في اللحظة التي وقع بصرها على إسم المحرر البديل لملحق الثقافة، وإختياره العشوائي للقصائد والنصوص، سطعت حزمة من الضوء جرفت كل الزوايا المعتمة من حولها وألقت بها على أسطح الواجهات الصقيلة، وأمام أرتدادها القهري، كانت تصيح بذعر، لفت إليها أنظار مرتادي تلك الأرصفة: ” يا إلهي … تراكم الميتات الثانوية، سوف يقهر وجودي …!”
****
لم يبق لدى الشاعرة سوى ذلك المنعطف الخَطِرْ أمام مظلة القرميد، ويد معروقة توغلت على حافة الخيال لتلك المرأة العجوز، إمتدت لها من عالم آخر، لتسدّ بها أفقا ضيقا، هو كل ما تبقى للشاعرة. دعتها بإشارة صريحة من يدها لأن ترافقها، وهمست لها مشجّعه، بصوت موحش : إتبعيني …!
سلمتها الشاعرة يدها بإذعان، وسارتا معا حتى بيت الجبل.
فوق رصيف المنعطف المبتل بسيل الإنارة الباهت، أفلتت يدها، وأشارت لها نحو الرصيف الآخر.
أحكمت الشّاعرة سماعة “الهيدسيت” حول أذنيها، أغمضت عينيها أمام زحف المركبات العابرة، ثم عبرت…
تنجو الشاعرة من خمسة حوادث مميتة. ترتمي فوق كرسيها الهزاز خائبة، متهالكة، تندب حظّها العاثر تحت مظلّة القرميد – بعد غياب طويل عن طقسها التأملي – ثم تشرع تقشّر نبتة الظل على عجل. تصوّب في قلق نحو روزنامة التقويم على الجدار الداخلي للبيت، وتبدأ تسابق الزمن بارتباك. تلمح آخر الأوراق توشك أن تتهاوى معلنة عبورها نحو سنّ الأربعين.
“الأربعين … أول النار وأول الماء العكر، في مستنقع العمر” – رددت بمرارة.
انبثق عن عطفة الشارع ما جذب انتباهها، كرسي مدولب تدفعه فتاة بأردية مقلمة يتقافز من حولها كلب “بودل” رمادي. تطلّعت باهتمام أكبر، غير مصدقة، كان ذلك الكرسي يحتضن إليه جسد المرأة العجوز بساق ملتفة بالجبس، وجبين معصوب، إشترت الفتاة طبقين من “البوظة” المثلجة، أوقفت الكرسي إلى جانب المقعد الخشبي تحت أفرع الشجرة، ثم شرعت برفقة العجوز إلى إلتهام كراته الملونة بفرح غامر.
لم يكن بمقدور الشاعرة أن تواصل، فقد تعادل الطرفان، نبتة الظلّ و روزنامة التقويم، دخلا هدنة الليل معاً لتستقر آخر الأوراق في مكانها ولزمن طويل. إنحسر القلق عن هامة الشاعرة. واظبت بعد ذلك بفرح كبير على كتابة النثر ونظم القصائد، لكنها لم تعد للجريدة.
أطلقت يد الضوء بحذر، لمسح غبار العتمة عن أرفف الزوايا و بين الردهات، بلا ضغينة أو رقابة، لكنها ظلّت على تحفظّها الشديد نحو إستجابة المرايا له.
بعد ذلك ولسنوات عديدة…، كان لأي عابر دائم من المارة، أن يعتاد بأريحية على خمسة نساء، يواظبن على الجلوس مساءا فوق مقعد خشبي تظلله أغصان شجرة وحيدة عند ذلك المنعطف، يضحكن بصفاء وهن يلتهمن كرات البوظة المثلجة…، فتاة صغيرة يطوف حولها كلب بودل رمادي إلى جانب ثلاثة عجائز، وسيدة جميلة، تخلّصت من نبتة الظل… منذ زمن بعيد، تكتب الشّعر والنثر وتنتظر عامها الأربعين.
__________________
*قاص من الأردن