*فداء ياسر الجندي
أتى على الناس حين من الدهر، كانوا يظنون أن الأرض هي مركز الكون والشمس تدور حولها، ومع تقدم الزمن وتقدم العلم، وتقدم وسائل العلماء في البحث والكشف، اكتشف العلماء أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها ليست إلا كوكبا في مجموعة من الكواكب تدور حول الشمس.
وظن العلماء لبرهة أن الكون هو ذاك النظام الشمسي، وأن الشمس مركز الكون وأنها ثابتة في مكانها، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أن الشمس ما هي إلا نجم صغير من مجموعة هائلة من النجوم، سموها مجرة درب التبانة، تنتمي شمسنا إليها، وتعد نجومها بالمليارات.
ومرت فترة من الزمن ظن العلماء أن هذه المجرة هي الكون، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أن مجرتنا درب التبانة ليست إلا نقطة في بحر الكون العظيم، وأن مليارات المجرات تسبح فيه، حسب ما كشفته مراصد العلماء حتى يومنا هذا، وأن هذه المجرات تتباعد باستمرار، وأن هذا التوسع الكوني تزداد سرعته بنسبة مدهشة منضبطة، ولا يتم بسرعة ثابتة.
هل ارتكب آينشتاين غلطة عمره؟
غير أن تأخر هذه الاكتشافات قد أربك واحداً من أكبر علماء الفيزياء والفلك في التاريخ، وهو ألبرت آيتشناين، الذي يبدو أنه كان سابقاً لعصره، ذلك لأنه توصل -بعبقريته النادرة- إلى وضع نظرية النسبية العامة عام 1915، يوم كان العلماء يظنون أن مجرتنا هي الكون كله، إذ لم تكن وسائلهم وأدواتهم تسمح لهم بأكثر من ذلك.
ونظرية النسبية العامة هذه، تشرح كيفية تفاعل الكتل والضوء مع الحركة والفراغ، ودور الزمان في ذلك كله، وقد وضعها آينشتاين بعد دراسة حركة الأجرام في السماء وطبيعة الضوء وسرعته، وعلاقة ذلك كله بالزمن، وأشياء أخرى كثيرة.
غير أن آينشتاين واجه مشكلة عند وضع المعادلات النهائية لنظريته، لأنها لم تكن لتصح إلا إذا افترض أن الكون في حالة تمدد أو انكماش، وهذا ما لم يكن العلم قد توصل إليه في زمانه، فاضطر أن يضيف لمعادلاته رقماً ثابتاً سماه “الثابت الكوني”، فانضبطت معادلاته وأصبحت تعبر تماماً وبدقة عن العلاقة بين الأجرام والضوء والفراغ والزمان.
ولكن العالم “أيدوين هابل”، ما لبث أن اكتشف بعد فترة قصيرة من وضع النظرية النسبية، أن الكون يحتوي على مليارات من المجرات، ومجرتنا واحدة منها، وأن هذه المجرات تتباعد عن بعضها باستمرار، أي أن الكون يتمدد، وهذا التمدد هو ما أوحى للعلماء بنظرية الانفجار العظيم المعروفة، وأن نظرية النسبية منضبطة دون الحاجة إلى وضع “الثابت الكوني” فيها، وهنا ينقل بعضهم عن آينشتاين أنه اعتبر وضعه لذلك الثابت الكوني في معادلات نظريته كان غلطة عمره، وأنه كان عليه أن يفترض أن الكون يتمدد فعلا.
وهنا يقفز إلى الذهن قوله تعالى: “والسماءَ بنيناها بأيد وإنا لموسعون”، فالمختصون بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم، يقولون إن في هذه الآية إعجازا علميا مبهرا، لأن فيها إشارة واضحة إلى توسع الكون العظيم.
العلم الحديث يفجر المفاجأة
غير أن ما اكتشفه العلماء من بعد آينشتاين وهابل كان مفاجأة مذهلة وغير متوقعة، ولو كان آينشتاين حياً لكان أسعد الناس بهذه الاكتشاف. فالكون يتمدد، نعم، ولكن العلماء اكتشفوا أن التمدد لا يتم بسرعة ثابتة، بل بسرعة متزايدة بانتظام، أي أن سرعة تمدده تزيد بشكل منتظم مع مرور الزمن.
ولضبط نظرية النسبية وما يتعلق بها، كان لا بد من إضافة “الثابت الكوني” مرة أخرى، فأعادوا إضافة ثابت كوني مرة أخرى إلى معادلات نظرية النسبية، وإن كانت قيمته فيها اختلاف عن القيمة التي افترضها آينشتاين، ولكن القيمة ليست بذات بال، فالمبدأ واحد.
وقد توصل العلماء في إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) قبل بضع سنوات، وبعد رصد ودراسات عميقة مستفيضة، إلى أن سرعة تمدد الكون تزداد بمقدار يعادل تقريبا 74 كيلومترا في الثانية، لكل ثلاثة ملايين سنة ضوئية.
ولتوضيح ذلك نضرب مثالا فنقول، إن سرعة ابتعاد مجرتنا عن مركز الكون عندما كانت أقرب بمسافة ثلاثة ملايين سنة ضوئية إلى مركز الكون، كانت أقل من سرعتها اليوم بمقدار 74 كيلومترا في الثانية، وعندما تبتعد عن مركز الكون بمسافة ثلاثة ملايين سنة ضوئية أخرى، ستكون سرعتها قد ازدادت آنذاك عن سرعتها اليوم بمقدار 74 كيلومترا في الثانية.
جدير بالذكر أن مسافة ثلاثة ملايين سنة ضوئية، يسميها العلماء الفرسخ الفضائي، ترجمة لكلمة “mega parsec”، ذلك لأنه بسبب المسافات الهائلة في الفضاء لا بد من وجود وحدة قياس تتناسب معها يستطيع العلماء استخدامها في قياساتهم.
ومع أن تمدد الكون وتوسعه، وتسارع هذا التمدد، أمر ثابت ومؤكد للعلماء بلا خلاف، إلا أن سببه لا زال موضع دراسة، ويأمل العلماء في التوصل إليه قريبا، وأكثرهم يميل إلى أن سببه هو ما يسمونه الطاقة القاتمة، وبعضهم يسمونها الجاذبية المضادة، وهي أمور فيزيائية فلكية معقدة، مفصلة في مراجع الفيزياء والفلك، وخلاصتها أن العلماء متأكدون من وجود قوة تعاكس الجاذبية تؤدي إلى هذا التسارع.
انضباط محكم شديد
لقد كانت دهشة العلماء كبيرة عندما اكتشفوا أن توسع الكون يتم بشكل متسارع، أي بسرعة تزداد مع مرور الزمن، فالأصل أن تتباطأ سرعة الأجرام الناتجة عن الانفجار العظيم لا أن تتسارع، غير أن ما زاد من دهشتهم وذهولهم بشكل كبير، هو الدقة الشديدة لمقدار هذا التسارع.
فقد تمكنوا بعد دراسات عميقة ومفصلة أتاحتها لهم المراصد الإلكترونية الحديثة التي بإمكانها أن تلتقط الضوء القادم من مجرات تبعد عنا مليارات السنين الضوئية، من أن يتوصلوا إلى أن دقة التسارع الذي يتمدد به الكون مذهلة مدهشة عجيبة، لأن أي تغير في تسارع تمدد الكون -حتى لو كان بنسبة ضئيلة لا تزيد على واحد مقسوم على مليار مليار، أي واحد مقسوم على عشرة عن يمينها 17 صفرا- سيؤدي لو حصل زيادة أو نقصانا إلى استحالة وجود الكون على الصورة التي نعرفها.
فلو زاد تسارع الكون بتلك النسبة الضئيلة، لتفرقت مادته في الفضاء ولما تكونت النجوم والمجرات والكواكب، ولو أنه كان أبطأ بهذه النسبة، لانكمش الكون على نفسه مرة أخرى، ولعاد للحظة الانفجار العظيم، وإن هذه الدقة الشديدة في تسارع تمدد الكون لدليل على أن الانفجار العظيم لم يكن عشوائياً بل كان محسوباً بدقة خارقة معجزة.
لقد أقر العلماء بالإجماع على أن تسارع تمدد الكون مضبوط بدقة فائقة الدقة والحساسية، ووقفوا أمام هذه الدقة، وأمام غيرها من الثوابت الكونية، في ذهول ودهشة واستغراب، حتى الملحدين منهم، وها هو العالم الشهير ستيفن هوكينغ -وهو ملحد يدافع عن نظرية الصدفة في نشوء الكون- يقر بذلك فيقول “إن سرعة الكون تتسم بالحساسية الفائقة والدقة المتناهية”.
أما نحن معشر المؤمنين، فلا نندهش ولا نستغرب، لأننا آمنا بالله وقرأنا قوله تعالى “ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارْجِعِ البصر هل ترى من فطور”، وقرأنا قوله تعالى “قد جعل الله لكل شيء قدرا”، لذاك ترانا كلما عرفنا آية من آيات الله في الكون نردد ما علّمنا إياه ربنا في كتابه فنقول: “ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك”.
______
*الجزيرة