لمَن هذا القلب الذي يخفقُ في قلبي؟


*أدونيس

1 ـ

نعيش لحظةً تاريخيّةً لا تموت فيها الفريسةُ وحدها. المفتَرِسُ، هو كذلك، يموت. لكن لكلٍّ منهما موته الخاصّ المختلف.
ونسمع أسئلةً كثيرةً حول قضايا كثيرةٍ متنوّعة ترتبط بهذه اللحظة، حاضراً وماضِياً. لكن لا نسمع سؤالاً واحداً حول المستقبل: كيف يُصنَعُ، وما يكون؟
ـ 2 ـ
«أكتب، لا لكي أستجمعَ نفسي،
بل لكي أُبَعْثرَها،
وليس لكي أطمئنها، بل لكي أقلقَها»:
مَن يصدِّق الشاعر في قوله هذا؟
ـ 3 ـ
عادةً، لا يكون الأحياءُ ظلالاً.
غيرَ أنّ التجربةَ تخرق هذه العادة.
الأحياءُ الذين رأيتُهم ولم يكونوا ظلالاً، قلّةٌ قليلةٌ جدّاً.
ـ 4 ـ
هل يكمن جنسُ الكتابة، حصراً، في الكتابة الجنسيّة؟
هل ما يكون ضوءاً في الليل، يكون بالضّرورة ضوءاً في النّهار؟
ما هذا العالم الذي لا عالَمَ فيه، والعالمُ كلُّه له؟
حياتُنا ثمنٌ لموتنا، وموتُنا ثمنٌ لحياتنا: لماذا، وكيف؟
لماذا يظنّ بعضُهم أنّهم يزدادون جمالاً بقدر ما يقبِّحون غيرَهم؟
هذه أسئلةٌ، يمكن في ضوء تلك اللحظة التي أشرتُ إليها، أن تُضافَ إلى أسئلةٍ كثيرةٍ لا أعرف أن أجيب عنها.
هل بينكم من يعرفُ أيُّها الأصدقاء القرّاء؟
ـ 5 ـ
سادَتْ في العصورِ القديمة أمبراطوريّاتٌ من كلّ نوع، إلاّ النوع السّائد اليوم: أمبراطوريّات الفراغ والخراب.
ـ 6 ـ
إنّها الحياة: بعضُهم يتأبّط الورقَ وبعضهم يتأبّط الرّيح.
ـ 7 ـ
الحياةُ مغامرةٌ عُظْمَى،
غيرَ أنّها عند أفرادٍ كثيرين مقامرةٌ عُظْمَى.
ـ 8 ـ
جميعُ أخطائي ضدّ الآخرين،
هي، في المقام الأوّل، أخطائي ضدّ نفسي.
ـ 9 ـ
تنافُسٌ «موضوعيّ»:
ذاتٌ تنتحر لأنها تعيش خارج وطنها.
وذاتٌ تنتحر لأنّها، على العكس، تعيش داخل وطنها.
ـ 10 ـ
اليوم استيقظتُ باكراً مع الشمس:
أيقظَني بكاؤها.
ـ 11 ـ
عروبة، إنسان، حرّيّة:
كلماتٌ تنحَفِرُ في أعماقي،
كمثل هاويةٍ لا قرارَ لها.
ـ 12 ـ
لا تقدر المخيِّلة أن «تَعْتَقِلَ» أيَّ شيءٍ. ولا يقدرُ أيُّ شيءٍ أن يعتقلها.
على العكس مِن جارها الصّديقِ، العَقْل.
سجونُه مليئةٌ بالأشياء المُعتَقَلَة. وهو نفسُه، يعيش متنقِّلاً بين
سجنٍ وآخر.
ـ 13 ـ
هل صحيحٌ أنّ الموسيقى تصِلُ في سَفَرِها داخلَ الجسم إلى مناطقَ لا تقدر الكلمة أن تصلَ إليها؟
ولماذا إذاً لا يمكن إثباتُ ذلك إلاّ بوساطة الكلمة؟
ـ 14 ـ
«لو أنّ للهواء ذاكرةً لفَسُدَ الفضاء»:
قال ذلك أحدُهم،
فيما كان يمتدح فضاء تاريخه وهواءَه وذاكرتَه.
ـ 15 ـ
مَن يعرفُ مرحلةً تاريخيّةً كهذه المرحلة الرّاهنة، صارت فيها اللغةُ يداً وسيفاً، قبل أن تكون كلمةً ولساناً؟
ـ 16 ـ
ما أعجبَ السماء.
تتّخذ من الأرض مرآةً وتُلصقُها على وجهها. لا السّماءُ ترى نفسها، ولا الأرضُ تعرفُ مَن هي، وكيف ترى.
هل المشكلةُ في المرآة؟ أم أين هي؟
ـ 17 ـ
هل صحيحٌ أنّ الفكرةَ التي لا تفتح طريقها،
تفتحُ قبرَها؟
ـ 18 ـ
خرجَ نرسيسُ لحظةً من الماء، فأقسمَ أنّه، بدءاً من لحظة خروجه، لن يدخلَ في مرآته ولن يخرجَ إلاّ سرّاً.
ـ 19 ـ
مَن يستطيع أن يقرأ السّماءَ بأفلاكها؟
كلاّ، لا تُقرَأُ السّماءُ إلاّ بغبار الأرض.
ـ 20 ـ
«كلُّ انتماءٍ تبَعيّةٌ»، يقول بعضُهم.
ويتابعون قائلين: «الفردُ المُفكِّر لا يكون نفسَه في التّبَعيّة. لا يكون مستقلاًّ. يكونُ «جزءاً من».
لكن هل يمكن التّفكير، خارجَ كلِّ انتماء؟
ـ 21 ـ
الغسَقُ، الآنَ، فجرٌ أحمر.
ـ 22 ـ
إنّها كأسٌ لا أشربها، عادةً، فلماذا أشتهيها في هذه اللحظة؟ ألأنّها مُرّةٌ؟
ـ 23 ـ
انظروا إلى أمّنا الأرض:
ألا تبدو كأنّها شفتا جُرحٍ ينزف ولا يلتئم؟
أو كمثل رغيفٍ يابسٍ،
ينزل بين شفتيها، كمنجلٍ يقطرُ دماً؟
ـ 24 ـ
وضع الماءُ يدَه في فمي مُشيراً إلى المعدة.
شكراً يا يدَ الماء.
أعرف أنّ الرّغيفَ، كما تقولين، لا يصنع طائراً.
ـ «مَن يقدر أن يؤكِّد ذلك»؟ سألَتْني يدُ الماء.
ـ 25 ـ
يعيش كأنّه يُقيم في غربال الوقت،
ويفكِّرُ ويكتبُ كأنّه مسافِرٌ في مُنْخُل المكان.
ـ 26 ـ
تمتلئ عيناه، كلَّ يومٍ،
برسومٍ لا تنتمي إلى هذا اليوم،
ولا إلى ريشة الضّوء.
ـ 27 ـ
الدّيمقراطيّة؟
إنّها في العالم كلّه،
أكثـرُ مـــن مستنقعٍ، وأقلُّ من حُفْنَةِ ماء.
ـ 28 ـ
أعرف عرباً كثيرين يحبّون تاريخهم. يحبّون أيضاً أن يقرأوا ما كتبَه شعراؤهم عن أطلاله. لكن، لماذا لا يقرأون الأطلالَ ذاتَها؟ ألهذا
تظلُّ قراءتُهم ناقصة؟
ـ 29 ـ
إنّه العصر: مائدةٌ مُتَعفِّنة.
ـ 30 ـ
لِمَن هذا القلبُ الذي يخفقُ في قلبي؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *