المثقفون ووهم إنتاج المعرفة


*محمد إسماعيل زاهر

لا جديد في واقع المثقفين يمكنهم مشاهدته، ولا جديد أيضاً يمكن ملاحظته لهواة نقد المثقفين، فحتى أقسى نقد وجهه المفكر علي حرب إليهم منذ أكثر من عقدين وتعلق بتهاوي النخبوية وبنهاية المثقف نفسه تم استهلاكه، لقد هيمنت على أطروحته حس نهاية الأفكار الكبرى التي أفرزها واقع آخر، فآنذاك كنا في حاجة إلى المثقف، وما زلنا، ولكن طبيعة “المثقف” العربي ونوعية “المثقفين” في واقعنا منحا دعوة حرب وجاهتها وقوتها، بحيث جاءت متناغمة مع الأفق العالمي ومع محيط ثقافي ضيقته رؤى وممارسات تلك النوعية، والتي منذ عقود وهي مذعورة من الاستبداد والتطرف معاً، وتدعي أنها تتلمس النهضة في كتابات موجهة إلى عشرات من القراء .

لم يكن الجديد في أعقاب “الربيع العربي” ضبابية المقبل أو احتمالات التشظي والتفكك أو تغول الاستبداد أو صعود التطرف، لقد كان الجديد ترجمة لأطروحة حرب حيث الغياب شبه التام للمثقفين العرب عن مجريات الأمور، ففي الحقيقة لم ينجح المثقفون لا في توعية شعوبنا بمخاطر القوى الظلامية ولم يكونوا لينجحوا في معركتهم الخاصة في مصر ،على سبيل المثال، في إقصاء وزير الثقافة الإخواني لولا الواقع المغاير الذي أفرزه 30 يونيو 2013 .
في الظاهر يبدو هذا الغياب ترجمة لأطروحة حرب ولكن الجديد والذي لا يمكن لمثقفينا أن يشاهدوه، أو المخاوف الحقيقية التي لا يبصرونها تتمثل في السقوط الشعبي للمثقف، ولا نعني هنا أيضاً تلك العلاقة المعقدة والملتبسة بين المثقف والجماهير، حيث يدعي الأول أنه يمثلها بينما لا تدرك هي بوجوده أصلا، لقد كان الأكثر جدة في تلك العلاقة يتمثل في صعود ثقافة مغايرة ليس للمثقف مكان فيها .
لقد ظل المثقف العربي يردد لعقود أنه يمثل ضمير الأمة و يعبر بمواقفه عن آمالها وأحلامها . . .إلى آخر هذا الكلام الإنشائي والذي كانت تناقضه نبرة استعلائية من قبل المثقف تجاه تلك الجماهير، ومنتج مكتوب أو مقدم في شكل مرئي يمارس التجهيل الدائم، ولا نتصور مثقف ينتمي إلى أمة أخرى يصف جمهوره دوما بالعوام و ب”الرعاع” وبذلك التقسيم الأبدي للمجتمع بين نخبة وقاعدة وبتنظير يلصق التخلف بتلك القاعدة وأنه لا يمكنها الفكاك من تراجعها المزمن، فشروط انحطاطها تعود إلى عوامل بنيوية نابعة من طبيعتها وتكوينها، وكلها مقولات انتجت، ولا تزال، تلك العلاقة المتربصة بين الطرفين وشبهها بعضهم بسخرية بأطرش يقود مجموعة من العميان، وهو التشبيه الذي تجاوزته أحداث “الربيع العربي”، وبرغم عدم الفعالية على الأرض والتي أكدتها تلك الأحداث وعدم اقتناع المثقفين بعطالتهم الواقعية ما زالوا يتصورون أيضاً أنهم ينتجون المعرفة والتي بغيابها ستنتشر الأمية في البلاد وبين العباد .
إن مسألة العجز عن إنتاج المعرفة هي الجديد الذي لا يراه المثقفون، فالمعرفة الحقل الأساس المنوط بهم في الحقيقة و الذي يتمسكون به ويعتبرون أنه يقتصر عليهم لدرجة لا تسمح لهم بنقاشه أو التطرق إليه، ولكن أين هي تلك المعرفة التي أنتجت في العقود الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير؟، هو السؤال الذي يثير المخاوف بعيداً عن علاقة بين المثقف والسلطة أو بين المثقف والجمهور، ووهم إنتاج المعرفة يصاحبه وهم آخر يتمثل في الادعاء بامتلاك المعرفة وفي الوهمين يعيش مثقفونا ولا يرون “ثقافة” أخرى تنتج في العالم الافتراضي وتؤثر بالفعل في العالم الواقعي، حيث أصبحت الأفكار، اللغة، الأجناس الأدبية . . .الخ تستمد مفرداتها وآلياتها ومن ثم نجاحها ورواجها من العالم الافتراضي أولاً، هي الثقافة الجديدة والتي تهيمن الآن بقوة و ستفرض نفسها بالفعل في المستقبل المنظور، وليس للمثقف بملامحه الكلاسيكية مكان فيها، وتحتاج إلى مجهودات بحثية مضاعفة حيث لا يمكن وصف أبعادها المختلفة أو تقييمها بمجانية وخفة، هو واقع المثقفين الملغم في كل مكان و لكن بعيدا عن طنطناتهم المعهودة .
حالة المثقفين الآن تشبه إلى حد كبير إن لم تكن تتطابق مع حدوتة البلجيكي هانز كريستيان أندرسون الشهيرة عن الطفل الذي شاهد الإمبراطور عارياً، حيث أقنع محتالان الإمبراطور بأنهما قادران على حياكة أجمل الملابس له، وأقنعاه بعد مسارات أخرى في الحدوتة أن هذه الملابس لا يمكن لأحد أن يراها، وعندما ارتداها الإمبراطور وسار عارياً في الشارع سكت الجميع خوفاً من التصريح بالحقيقة التي يترتب عليها العقاب إلا أحد الصغار الذي صاح بأعلى صوته “ولكنه عار”، هي حدوتة يمكن أن تبصر فيها ألعاب الحواة والاستبداد حين يصل إلى حد الغباء والخوف عندما يتماهى مع العمى أو يؤدي إلى فقدان البصر، والصدق عندما يقتصر على براءة عابرة ونادرة، تلخص انكشاف المثقفين وانتقادهم اليومي والدائم والذي تسمعه من المثقفين أنفسهم .
إن الفنتازيا في هذه الحالة أن جميع المثقفين ينتقدون جميع المثقفين على نمط “نعيب زماننا” ولكن جميع المثقفين أيضاً لا يتصورون أن “العيب” ربما يكون فيهم، وفي تلك العلاقات والسلوكيات والقيم التي رسخها الوسط الثقافي على مدار سنوات طويلة وأثرت بالسلب في المنتج الإبداعي والمعرفي وفي علاقتهم بالسلطة من ناحية والجمهور من ناحية أخرى والأهم في صورتهم أمام الآخرين . 
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *