(خواطر من ليل المدينة)


*ناصر الريماوي

( ثقافات )

” الثالثة صباحاً “
في الثالثة صباحا، أعيد ترتيب الصور، وفقا لذاكرتي و”ألبوماتي”… تسقط المدينة بأكملها ككتلة صماء، مشلولة، عديمة الملامح وخالية من كل شيء، تسقط منكسرة، بساحاتها المقفرة وحوانيتها الموصدة، وإشاراتها المرورية العالقة على التقاطعات كبقايا ذكرى مؤلمة لا لزوم لها من فيض النهار.
تأخذني الطريق المعتادة إلى الأسواق، ألمح أبوابها غارقة في العتمة والفراغ، مقفلة، مهجورة، أستعيد فوضى اختناق الطريق بالمركبات، وأواصل ببطء ممعنا في أحجية التسّوق عند الأغلبية، حتى يعلو الصراخ خلفي، أنطلق مسرعا، مخلفا ورائي سحابة من غبار الطريق، أنظر في المرآة… قطيع من (الأحياء – الأموات) يركض خلفي، بوجوه حانقة، ملطخة بالدماء، بضائع كثيرة، راح أغلبها يتساقط عن تلك الأجساد ويضيع في غمرة الطريق، تعثّر أغلبهم بها، وأنا أخذتُ أضحك من هول السكون ورائي، وهلع الأحجية.
أسلك طريقا جديدة، لا أعرفها، لا ذكرى تربض لي خلفها، أو أحجية أخرى، جديدة، تبثني قشعريرة التفكير. الشارع الجديد، فرعي ومظلم، تحفّه أبنية طابقية تقرفص على قدم ونصف، نوافذها تتهدل بأجفان منتفخة، وترسل فيضا ذابلا من ضوء المصابيح الداخلية الصغيرة. أجتازها مسرعا قبل أن تتداعى فوقي لفرط نعاسها. تفضي الطريق إلى سياج مزرعة موحشة، تمتد بكثافة على إتساع لافت، هي محض غابة تطوّق الطريق، لازال النخيل فيها ينفض الغبار عن أذرع السعف حتى هذه الساعة المتأخرة.
سيارة شرطة وحيدة، تتلقفني بأضواء رباعية عند الناصية، الشرطي يشير لي أن أقف، ثم يخاطبني من شباك سيارتي بنبرة ماكرة: مولع بالليل، أم متشف بهزيمة النهار؟
أرد على الفور: الاثنان معا…
يصيح بالضابط الآخر: سجّل… مراوغ آخر، حتى مطلع الفجر!!!
محطة بنزين بأنوار راكدة، خفيفة، صيدلية مناوبة على بعد مطبين من نقطة التفتيش، ولافتة متعبة تدلت على جبين متجر مقفل نسيها الموظف الأخير مضاءة، إمرأة إلى جانب رجل وقور توقفا تحت شلال الضوء المنهمر من تلك اللافتة، أشارا إلى سيارة أجرة مسرعة على الطرف الآخر، ثم افترشا عتبة المتجر، في تعفف وصبر.
على استقامة الشارع الأخير، تعود الوجوه لتتقافز، فأرى كل الذين فارقوني، منذ زمن…!
ملامحهم مازالت قديمة، كتلك الصور، وأنا أعيد ترتيبها وفقا لذاكرتي و”ألبوماتي” … تعبر الفراغ أمامي، وتستقر على الأرصفة، تميل عن حجر الرصيف، حتى تسقط عنه ثم تذوب في لمح البصر. 
يمضي الوقت، عند المنعطف الأخير أنظر في الساعة، شيء ما يسد الطريق… ويقف في حلقي. النبض الرتيب، لعقارب الساعة، لم ينقطع ورافقني طوال الليل، أمعنتُ النظر جيدا، عقارب السّاعة لم تتزحزح، وظلّت تشير إلى الثالثة قبيل الفجر… وأنا في مكاني!
“مناوبة ليلية”
في المناوبات الليلة في موقع العمل والتي تتواصل حتى الثالثة صباحا، تغدو الأشياء أكثر جمالا وخفّة، الكائنات تتابع وداع قرص الشمس وهي تنحدر بكامل استدارتها خلف سلسلة الجبال المحيطة بالمدينة، بلا وهج، حتى تسقط خلفها تماما، سرعان ما يطل المساء برداء العتمة البارد، مختلطا بألوان الشفق الباهتة، ينسل الضياء كاملا عن أسطح البيوت والشوارع وسلسلة الفنادق المحيطة بالمدينة، ليلحق بالشمس، مخلفا وراءه قبّة كونية واسعة ليسد فراغها الليل على الفور.
في النهار، ينشق الصبح أولا، ثم يتبعه انقلاب الضحى بسعير يحتدم نحو الظهيرة، ثم العصر بنسائمه الخجولة حتى المغيب.
أما في الليل، فالوقت يمضي بهدوء حتى الصباح ودون تقلبات كونية مرهقة.
منذ ليلتين، وعامل “البوفيه” الهندي، “فاروق”، مرتبك، وينظر نحوي بنصف عين، ربما يتمنى لو أنني أغادر باكراً، ليغادر هو بدوره، ويرتاح. كلما خرجت من مكتبي لأدخن سيجارة، خرج بدوره لينصب دهشته بيني وبين سجائري، وهو يشير إلى أذرع الرافعات البرجية العملاقة وهي تجوب الفضاء المقابل لنا، يشير إليها بيد، وباليد الأخرى يحجب عن عينيه ضوء الكشافات الساطع، ثم يسأل : كيف لا تتقاطع كل تلك الأذرع العملاقة أو تصطدم خلال حركتها الدائمة في حيز محدود، كهذا ؟!
تنتهي السيجارة، فأرتد نحو الداخل، قبل أن ينتهي من صياغة تفاصيل سيل الأسئلة والتي تتناسل في كل مرة حول تلك الرافعات وأذرعها العملاقة وسر انضباطها الدائم. وأنا لا أجيب، وهو لا يلح، حتى أعود للسيجارة التالية، فيعيد طرح الأسئلة مستعينا بهالة الدهشة وهو ينقل عدواها نحوي، ككل مرة، لكن حول موضوع آخر: “كيف تتم تسوية مبنى ضخم (فندق) بالأرض حول موقع العمل، ولا يتأثر فندق آخر مجاور له أو يهتز؟”
وكالعادة … تنتهي السيجارة ولا أجيبه.
“فاروق” تجتاحه التساؤلات خلال المناوبة الليلة، حول أمور لا تعنيه، لكنه يراها من خلال النافذة الصغيرة لتلك البوفيه، يطرح حولها أسئلة فضولية غاية في الدقة والصعوبة، وأنا لا أعرف نواياه، لكنه يحيل ليلي إلى نهار، ويحول بيني وبين لحظاتي الحميمة مع سجائري، قلت لمَ لا أبادر أنا إلى طرح الأسئلة عليه، فلربما تركني وشأني والتفتَ إلى عمله، بادرته : كيف تحفظ أسماء الجميع هنا، وما يفضّله كل واحد منّا من شراب، قهوة، شاي، نيسكافيه، حليب، وكميّة السّكر المناسبة والمفضلة في كل قدح لكل نفر منّا، والأوقات المفضلة لكل مشروب؟
تبدلّت ملامح الدهشة لديه، واستحالت إلى كبرياء وزهو، وهو يجيب : وهل تظنه أمراً سهلا؟! فقط فاروق من يقدر على هذا…
ولم يعد يحول بيني وبين لحظات النهم في إشتعال سجائري، من وقت لآخر … ولم أعد ألمحه إلا معتدا بنفسه، يلقي التحيّة من برجه الشاهق، الذي أضافه لنفسه بين تلك الرافعات البرجية العملاقه.
هذا المساء غاب “فاروق” فدبّت الفوضى بيننا، لم نفلح في إعداد قدح واحد كما ينبغي، اختلطت علينا المقادير أيضا، فاختل الطعم وفسد المزاج، وعمّ استياء عارم 
لم يأبه أحد منّا إلى الأذرع العملاقة، العديدة، لتلك الروافع البرجية، والتي تطاولت وأخذت تجوب الفضاء، تترنح بأحمالها الضخمة متحركة في كل الاتجاهات، وفي وقت واحد، وبانسجام معتاد منتظم، ودون خلل… 
كنّا فقط ننظر إلى الجهة الأخرى، بلهفة، إلى معبر ضيق بين المكاتب المتناثرة، كان معتما قليلا، لكنه الأهم بالنسبة لنا، فمنه قد يدلف “فاروق” ويعبر نحو كل واحد منّا في أية لحظة، فيعتدل المزاج… حتى الصباح.
” ليل وشتاء”
النار في ليل كهذا … كفيلة باستدعاء آلاف الأطنان المملّحة من ذكريات الصبا والطفولة. 
لكن موقد الجمر الرخامي، يأخذني بناره بعيداً وهو يستقر على الواجهة النافرة لديكور الصالة، ويزفر عبر قرميد المدخنة التي تتسلق الجدار وتخترق السقف.
حتى ثمار “الكستناء” … راح يتبخر منها ذلك المذاق الشتائي وبدأت تفقد نكهتها.
قلتُ له : على الأقل، لن ينبش المشهد أرض ذاكرتي من دون الرائحة ليستخرج منها شيئا دفيناً، مماثلا …!
يحدّق نحوي باستهجان، يتوقف عن تقليب “الكستناء” يشرد، ثم يسأل : وهل العلّة، في الكستناء، أم في الموقد؟
– في الإثنين معا، إسمع … ماذا لو استبدلنا ثمار الكستناء بأزرار البطاطا، والموقد، بتنكة من الصفيح، أو “بابور” الكاز؟
– هنا…؟!
– لا، بل هناك … في حارتنا القديمة
– وماذا بقي من حارتنا القديمة …؟ / قالها وهو يداري غصة ما، بينما أفلتت من بين شفتيه إبتسامة صفراء ساخرة.
– بقينا نحن، أنا وأنت …
ذلك الشتاء البعيد، ليلاً… كنّا نتراكض فيه تحت المطر، بين أزقة الحارات الضيقة، المحفوفة ببيوت الطين المتصدّعة، حتى طمرنا البلل وراح الماء يقطر من ملابسنا، بعد أن تشربته معاطفنا الصوفية وفاضت. هربنا نحو الشارع الاسفلتي، إلى بعض البيوت المبنية حديثا، التي نامت وتركت ألسنة برنداتها ممتدة حتى الرصيف. إخترنا واحدة، لنحتمي بها، كنّا نلطي تحتها بابتهاج، حتى لمعت لأكبرنا فكرة… رحنا ننفذها بسرور وطيش، جلب كل منّا شيئاً، أو بالأحرى إختلسه من مطبخ بيته المشرع، أزرار بطاطا، بليلة، بصل …الخ. أعواد ثقاب، قارورة كاز صغيرة، وقطع من الخشب سطونا عليها من منجرة جارنا قبل أن يرحل مرغما إلى مجمع الحرفيين، وعلبة صفيح كبيرة أوقدناها مع آخر عود كبريت تبقى لدينا.
أودعنا ثمار البطاطا والبصل جوف ” التنكة” المشتعلة، ورحنا نصغي إلى قصص الجن والغولة من صديقنا الراوي، ونحن نقلّبُ أكفنا على وهج النار، طلباً للدفء، وإتقاءاً لبرد الطقس ورعشات الذعر المنسابة عبر تلك القصص المرعبة الغريبة.
الشوارع المقفرة بظلمة حالكة كانت تتلقف بعض الأجساد العابرة من بين الأزقة، وتلقي بها على مرمى أبصارنا، كأشلاء، وقامات مشوّهة. يقطع القصة أحدنا ليشير صائحا : “أبو رجل مسلوخة…” نفرّ مذعورين، ثم نعود بعد أن نتبين الأمر، ضاحكين … 
إمرأة طاعنة في السن لها حدبة، من أين أتت؟ قال أحدنا… إنها ليست من نساء الحارة، فمن تكون؟ بدت قامتها طويلة أكثر مما يجب، ورغم تقوس ظهرها، إلا أنها أخذت تتسلل نحونا في خفة، شعرها المنكوش بدا لنا من بعيد كغابة. سقط ظلها الموحش على أرضية الشارع وسار حتى حط بيننا، صاح أحدنا: ” الغولة …” تفرقنا في هلع، بينما صوتها يطاردنا : “غولة توكل أهاليكم يا غجر …” هل ولدي فلان بينكم؟
ومع انتصاف الليل يبدأ البحث بين أكوام الفحم عن خلاصة الثمار الشتائية التي انصهرت في قاع “التنكة” ، نلتهم ما تبقى منها بتلذذ شديد، حيث تختلط النكهات بطعم الرماد، وغبار الفحم. 
قلتُ له : لم تكن “الكستناء” قد عرفت طريقها إلينا… أتذكر؟ ومع هذا فقد كنا نقيم طقوسنا كاملة، تحت المطر وبرد الشوارع، حتى أننا كنا أكثر سعادة.
عاد صديقي من شروده، تنهّد طويلا، أطفأ الموقد، هرع إلى النافذة الضخمة فتحها على مصراعيها، تدفق هواء حار نحو الصالة، وفضاء يقظ بلا مطر أو غمام، لسعني وهو يردد : حقاً، لو أننا في حارتنا تلك. ثم ألقى بثمار الكستناء بعيدا …!!
_______________
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *