عبير زيتون
واقع مستتر يحمل في أعماقه قصصا موجعة ومفجعة، متشابهة في تفاصيلها ونهاياتها المأساوية، يتجرع ضحاياها الإهانات ويخشون الكشف عما في صدورهم من عذاب وقهر خوفا من بطش أنظمة جائرة أو خوفا من عار الفضيحة، تخرج إلينا في العلن بشكل متواتر مع تطور وسائل الاتصال والطفرة التكنولوجية التي باتت وسيلة ناجعة في كشف المستور والمسكوت عنه.. هذا الواقع المعلن والمضمر، تنتشر تفاصيله من إيران، عبر ما تيسر من وسائط إعلامية، فتنقل صورة عن منظومة قروسطية، تتغول فيها السلطة التي يمتلكها أصحاب الاجتهادات في النص، فتنتهك الكرامة الإنسانية، وتقوض أسس العدالة.
لم تهدأ بعد، صرخة حبر الكلمات التي حملتها رسالة الشابة الإيرانية الراحلة بقوة حكم حبل المشنقة ريحانة جباري، ذات الستة وعشرين ربيعا.. تلك الرسالة التي بعثت بها إلى والدتها قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقها، وهي تعري بدم الروح المفجوعة العدالة المفقودة ما يجري داخل السجون الإيرانية من انتهاكات وتعذيب واضطهاد واغتصاب بحق النساء المسجونات، تحت اتهامات شتى باسم العدالة..
ريحانة وأتينا
بعد تلك الرسالة/ الوثيقة خرجت إلى العلن بالصوت والصورة الشابة الإيرانية الشجاعة (أتينا فرقداني) المفرج عنها من سجن (أفين) سيئ الصيت بطهران على خلفية إقامتها معرضا حول انتهاك حقوق الأطفال في بلادها، بالإضافة إلى لقاءاتها التي تخالف مزاج السلطة مع أسر المعتقلين السياسيين وقتلى الانتفاضة الخضراء عام 2009، لتكشف عن تجربتها الشخصية المريرة طوال شهرين في المعتقل مع التعذيب والضرب وهتك الأعراض، حيث فضحت وجود كاميرات سرية في حمامات سجن النساء الذي تشرف عليه استخبارات الحرس الثوري.
وتحدثت الرسامة والناشطة الحقوقية (اتينا) في شريط فيديو نشر على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية قبل أسابيع، ونشرته قناة «العربية» عن تعرضها لشتى أنواع الضغوط النفسية خلال فترة اعتقالها، وعن إجبارها على خلع ملابسها وتعرضها للضرب مع كيل الشتائم والألفاظ البذيئة، وقالت إنها أضربت عن الطعام بعد مرور شهر ونصف وأفرج عنها بكفالة مالية بعد تدهور حالتها الصحية بانتظار مثولها أمام محكمة الثورة بطهران.
وأوضحت فرقداني أن الغرض من نشر هذا الفيديو على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي فضح الإساءات المتكررة التي تحدث بحق النساء السجينات المعتقلات الإيرانيات كي تتوقف هذه الحوادث المؤذية.
وكانت الشابة الإيرانية الراحلة ريحانة جباري المتهمة بقتل ضابط استخبارات سابق حاول التعدي عليها واغتصابها، قد نفذ حكم الإعدام بحقها يوم 25 أكتوبر عام 2014 رغم تدخل المنظمات الدولية واستنكارها، وتركت ريحانة قبل رحيلها رسالة تصف فيها ما تعرضت له في السجون من ضرب واعتداء وتحرش، وفيها تقول: «كم كان متفائلا من أنتظر العدالة؟ لم يساعدني أحد وأنا تحت ضربات المحقق أسمع أحط ألفاظ السباب، وحين تخلصت من آخر علامات الجمال الباقية في جسدي بحلاقة شعري أعطوني مكافأة أحد عشر يوما في الحبس الانفرادي، أمام محكمة الله سأوجه الاتهام إلى المفتشين، سأوجه الاتهام إلى المفتش شاملو، سأوجه الاتهام إلى القاضي وإلى قضاة المحكمة العليا الذين ضربوني وأنا مستيقظة ولم يتورعوا عن التحرش بي.
لوليتا في طهران
هاتان الواقعتان تضيئان على حال المرأة الإيرانية، في مواجهة نظام تحكمي، يزجرها ويقصيها بالدرجة الأولى ككائن إنساني، وقد أثمر هذا الصراع عن محاولات جريئة قامت بها نساء باسلات للكشف عن مجاهل العنف والقسوة بكتب ذكريات ومذكرات، باتت اليوم من وثائق الإدانة ضد النظام الجائر. وقد لاحظت جريدة «نيويورك تايمز» الأميركية أنّ 370 امرأة إيرانية كتبن في السنوات الأخيرة كتباً مختلفة تخالف التوجّه الدّينيّ والسّياسيّ الملاّلي في إيران، الذي يقوم في أساسه على العنصرية الجنسية ويعمل جاهدا على التدمير التام لشخصية المرأة عبر سياسة الاضطهاد والإذلال والقمع.
ومن بعض الأعمال الروائية المشهورة في هذا المجال والجريئة في إفصاحها عما تعرض له النساء في السجون والمعتقلات الإيرانية وترجمت عربيا، العمل الأدبي الذي خطته الكاتبة والبرفسورة آذر نفيسي، على شكل سيرة ذاتية يحمل عنوان «من يقرأ لوليتا في طهران ـ ذكريات» الصادرة علم 2003 والأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، وترجم إلى عدة لغات، نجحت من خلاله في تقديم قراءة لواقع سياسي وصراع سلطوي في طهران من خلال تجربتها الشخصية ومعاناتها الحياتية.
فآذر نفيسي رفضت ارتداء «التشادور»، مما سبّب لها ـ كأستاذة للأدب الإنجليزيّ ـ الطرد من جامعة طهران، فأصبحت تُدرِّس الأدب الإنجليزي لطلاّبها في بيتها، حيث تكوّنت أحداث روايتها «من يقرأ لوليتا في طهران»، والتي تُظهر فيها، كيف أنّ النساء الإيرانيات يخفن، أن تفلت خصلة من شعرهن خارج الحجاب مما سيؤدي بهن إلى الجلد والسجن، وربما الاغتصاب والموت.
حكايات خلف الأسوار
أما رواية «سجينة طهران» الصادرة عام 2013 للكاتبة ماريا نعمت، (ترجمة سهى الشامي) فتتذوق مع حروف مذكراتها ألم العذاب ومرارة طعم الاضطهاد والظلم في تجربتها الحية مع الاعتقال والتعذيب وهي ابنة السادسة عشرة، وقد صدر بحقها حكم الإعدام بتهمة ارتكاب جرائم تهدد الأمن القومي.
وفي رواية «بنات طهران» الواقعية للكاتبة ناهيد رشلان (ترجمة عمر الأيوبي) الصادرة عام 2008 تروي الكاتبة معاناة حياتها وعائلتها في أحد الأحياء الفقيرة بطهران مع الفقر وسياسة التمييز الجنسي، والجهل والغيبيات المسيطرة على عقول الناس.
وتكشف قصة «رجم ثريا» الصادرة عام 2011 للكاتب الإيراني فيدون صاحب جم (ترجمة كوثر محمد وإيناس حامد المغربي) عن الوجه القبيح لعدالة المتطرفين في إيران أثناء حكم الخميني عام 1986 عبر وقائع حادثة إعدام بالرجم حتى الموت بحق شابة في الخامسة والثلاثين من عمرها، والتي يقول المؤلف فيها إنها ليست سوى واحدة من بين آلاف الإعدامات المماثلة التي شهدتها إيران بعد خلع شاه إيران ووصول النظام الأصولي بقيادة آية الله الخميني إلى السلطة في شباط عام 1979.
أما رواية «طهران الضوء القاتم» للكاتب مير حسن جهلين الصادرة عام 2014 (ترجمة غسان سليم حمدان) فقد صودرت أكثر من مرة وكاد كاتبها أن يسجن بسببها لولا هروبه إلى ألمانيا بعد تعرضه لعدة محاولات اغتيال على يد السلطات، التي لم ترق لها رواية تصور الفساد الاجتماعي والنفاق الأخلاقي في عهد الثورة الخمينية.
ومؤخرا صدرت رواية «يوميات امرأة في سجون إيران» للصحفية كاميليا انتخابي فرد (ترجمة أسامة منزلجي)، وقد سجنت المؤلفة بتهمة تهديد الأمن القومي وتحدي نظام الحكم. وتصور الرواية حالة التجريف الثقافي التي ارتكبتها سلطة الملالي للتراث الإيراني في محاولة منها لطمس معالم الثقافة والهوية الإيرانية واستبدالها بثقافة تخدم السلطة الدينية الحاكمة.
الجلاّد/ الزوج
وفي كتاب «الإنسان الإسلامي الجديد: السجن السياسي في إيران» الصادم حد الرعب من حجم الوقائع الواردة فيه بالأرقام والإحصائيات للكاتبة وعالمة الاجتماع الإيرانية شهلا شفيق، والذي وصفه الكاتب جورج طرابيشي في قراءة عن أبعاده النفسية، أنه رحلة في عمق جحيم القرون الوسطى، لا التاريخ هو التاريخ، ولا الجغرافيا هي الجغرافيا، فالجحيم القروسطي ليس جحيم أوروبا اللاتينية، ولا محاكم التفتيش هي محاكم الكنيسة الكاثوليكية، بل نحن في إيران في العقد التاسع من القرن العشرين، والمحاكم هي محاكم الثورة الإسلامية، أما الحقبة الزمنية فهي الحقبة الخمينية الممتدة من مطلع نيسان (أبريل) 1979 يوم أعلن الإمام الخميني: (اليوم تقوم حكومة الله في إيران)، إلى يوم وفاة زعيم الثورة الإسلامية في 3 حزيران (يونيو) 1989، وهي الحقبة التي دشنها الإمام الخميني بالقول في تصريح أدلى به لصحيفة «لاكروا» الفرنسية في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978: «لن يكون هناك وجود في الدولة المستقبلية، لسجناء سياسيين»!
تقول شهلا شفيق في كتابها: «إن مصير النساء في سجون الثورة الإسلامية الإيرانية يبدو أسوأ من مصير الرجال، وما ذلك فقط لأن النساء أضعف مقاومة، وأقل احتمالاً للتعذيب، بل كذلك لأن المرأة تُعتبر، من المنظور اللاهوتي للنظام الإيراني، عنصراً مغوياً، وجسدها بما هو كذلك محل للشر والدنس، وتعذيب جسد المرأة قد يأخذ شكل اغتصاب، وعلى رغم ضرورة الكتمان، التي تفرض نفسها في مثل هذه الأحوال، وُجدت بين السجينات السياسيات الإيرانيات من يمتلكن الجرأة، لكن الكثيرات منهن لم تتح لهن الفرصة لا للكلام ولا للصمت. فالمغتصبات غالباً ما يتم إعدامهن، وغالباً أيضاً ما يكون اغتصابهن هو الفعل الأخير السابق لإعدامهن، ذلك أن القاعدة في السجن السياسي الإيراني أن المرأة، المقرر إعدامها، لا تعدم إذا كانت غير متزوجة، وبما أن هناك معتقداً لاهوتياً مؤداه أن المرأة إذا ماتت غير متزوجة ذهبت إلى الجنة، لذا وضماناً لذهابها إلى النار، فإن المناضلة السياسية تُزوّج قبل أن تُعدم، تُزوج للجلاد الذي سيتولى إعدامها، وهذا الزواج يتم بموجب عقد شرعي رسمي يتضمن، في ما يتضمن، تحديداً لمقدار (المهر)، وهذا المهر يدفع لاحقاً لعائلة الضحية ويكون بمثابة إشعار رسمي بأنها… أُعدمت.
* الاتحاد