بيروت، ألفُ مدينة ومدينة


*أدونيس

– 1 –

بيروت – الأمّ،
هل تَفهمُها، حقّاً، اللغةُ الأمّ؟
جرّبَت الشمسُ أن توسِّع حدودَ لغاتها السياسيّة، وأن تصحِّح أخطاءها في الشروق والغروب، في الغيوم التي تحجب، والعواصف التي تمزّق، مقدِّمةً لتصحيح لغاتها الأخرى.
غير أنّها لا تزال في طور التّجريب.
ماذا يحدث لِلُغات بيروت لو أنّها فقَدَت ذاكرتها فجأةً؟
ماذا يحدث لبَرِّها؟ ماذا يحدث لبحرها؟
وماذا تفعل حين يكون الدّواء
هو نفسه الدّاء؟
ماركوس كاميلّوس Marcus Camillus، القائد الروماني، بنى هيكلاً خاصّاً من أجل «الكلام الذي يتكلّم داخلَ الكلام».
مدرسة الحقوق في بيروت، في العهد الرومانيّ، كانت في حوارٍ دائمٍ مع هذا الكلام، قبل ذلك الهيكل وبعده.
لكنّ هذا القائدَ ترك لمن جاء بعده مهمّةً صعبة، ولعلّها أن تكون مستحيلة:
هدمُ الهياكل التي بُنيَت وتُبنى من أجل «الكلام الذي يتكلّم، لا داخلَ الكلام، بل خارجَه».
واسـألوا اللغة العربيّة، إن كنتم في شكّ.
– 2 –
بيروت؟ كلاّ ليست مستودع أجوبة. إنّها بالأحرى رحِمٌ لتوليد الأسئلة. ذلك سرُّها المُقْلِق، الفريدُ، المعَذِّبُ، الآسِر بين أخواتها العربيّات.
كلاّ، لا يقدر العنف، في شتّى أشكاله، أن يحميَها أو أن يدافع عنها. والمذهبيّةُ، بخاصّةٍ في شكلها الدّوغمائيّ المتعصّب المُنغلِق، عاجزةٌ عن ذلك، عاجزةٌ، عاجزة.
بيروت أفقٌ.
لا شيءَ يقدرُ أن يُغلِقَ الأفق.
– 3 –
ما هذا النّهار الذي لا يتكلّم إلاّ مع الليل؟ ما هذا الليل الذي لا يتكلّم إلاّ مع نفسه؟ وها هو الإنسان الفَرْد، ليلاً ونهاراً، يحمل على كتفَيهِ وفي عقله وقلبه، صخرةَ سيزيف.
سيزيف، أنت الظّاهر الآن في صورةٍ عربيّةٍ، هل حُكِم عليكَ حقّاً أن تبيع السّماءَ من أجل سُلّمٍ أو من أجل كُرسيٍّ؟ أم حُكِم عليك أن تبيع الأرضَ من أجلِ أن تشتريَ السّماء؟
ولم يعُدْ أحدٌ يعرف: هل البشر هم الآمِلون، والأرضُ هي اليائسة؟ أم هل البشرُ هم اليائسون والأرض هي الآمِلة؟
وانظرْ حولكَ، إلى «شعبك»: إنّه اثنان – شخصٌ كمثل جذرٍ لا ثمرةَ له، وآخرُ كمثل ثمرةٍ لا جذرَ لها.
أهناك ثالث؟
أهو «مُخبّأٌ» ؟ أهو «مُختَبىء» ؟
– 4 –
طفلٌ وُلِد أمس، بعيداً عن بيروت، لكن في أحضانها. سُمّيَ باسمٍ يبدأ بحرف الألف A.
أتخيّلُه، بعد سنواتٍ يسير في شارعٍ، يجلس في مقهى، يدخل إلى مكتبة، يزور مُتحَفاً، يؤاخي بين شطآنها وعينيه.
ها هو يعرف كيف يقيس بقلبه المسافةَ الغامضةَ بين نجمةٍ ونجمة.
ها أنا أرى إليه، يحاول أن يُمسكَ بيمامةٍ، تفرّ قافزةً. تظلُّ قريبة إليه. يلاحقها، كأنّه يلهو معها.
فجأةً يبكي. يرسم بدمعه جناحاً.
– 5 –
عندما يستيقظ الفجر في بيروت، يكون غالباً، أنثى.
في بيروت، عرفتُ حياةً كانت تلبس ثياباً مُمزَّقَةً لا تقدر أن ترتقها أيّةُ إبرةٍ.
كنت أتحرّك في منعرجات الكآبة، وأرتاح في قيعان المُخَيِّلة.
كان الفجر يرسمُ قناديله، بعيداً، في أمكنةٍ أخرى، وعلى دروبٍ أخرى.
فجأةً، مدّ لي الضّوءُ ذراعيه،
فجأةً، فوَّضَتْني الرّيحُ لكي أكتبَ سيرتَها الأولى.
عندما يستيقظ الفجرُ في بيروت يكون غالباً، أنثى.
– 6 –
امرأةٌ جميلةٌ همسَت في أذنيّ مؤخَّراً:
«قلتَ. كتبتَ كثيراً، حول بيروت وعنها. سمّيتَها أسماءَ عديدة.
لماذا لم تُطلِق عليها أيضاً اسمَ «عبقر» – وادياً أو جبلاً – مهبِط
«الوحي» ، لكن غير الدّينيّ ؟».
معها الحقّ. الجمالُ دائماً على حقّ – وإن أخطأ، انتماءً إلى المتعة في ذلك الكذب الذي تمجّده العبارة الشّهيرة: «أعذبُ الشِّعرِ أكذبُه».
معك الحقّ، يا سيّدتي. لكن أسألك: كيف يمكن الإصغاءُ إلى بيروت، وادياً لعبقرَ، أو جبلاً، وليس في فضائها غيرُ الهدير الصّاخب الموحى، من جميع الجهات، ومن جميع الآفاق؟
عبقر رمزٌ لفنّ الوحي الشعري، غير أنّه كذلك رمزٌ لفنّ الإصغاء. للتذكير، أعيدُ لك ما يقوله المُعجَم الضخم، «لسان العرب»: «عبقر موضعٌ بالبادية كثيرُ الجِنّ (…) عبقر قريةٌ تسكنها الجنُّ في ما زعموا. فكلّما رأوا شيئاً فائقاً غريباً ممّا يصعب عملُه ويدِقّ، أو شيئاً عظيماً في نفسه نسبوه إليها، فقالوا: «عبقريّ (…) والعبقريُّ الكذِبُ البَحْتُ. كذبٌ عبقريّ، أي خالصٌ لا يشوبه صِدْقٌ (…) وعبقريّ القوم سيّدهم. والعبقريّ، الذي ليس فوقه شيءٌ «. (مادّة: عَبْقَر).
إنّها «عبقريّةُ» اللغة العربيّة: الكلمةُ هي نفسُها ونقيضُها في آن.
والمسألةُ، إذاً، هي أوسعُ من «كيف نقرأ» ؟ إنّها أيضاً «كيف نُصغي»؟
مع ذلك: الجمالُ دائماً على حقّ.
– 7 –
الطّاغيةُ دينيس السّرَقسْطيّ Denys de Syracuse (الذي تعرفه بيروت)، علّق – لكي يجعل داموقليس Damoclès يتذكّر أنّ حياة الطّاغية ليست سلسلةً من الملذّات المتواصلة، – علّق فوق رأسه في إحدى الولائم سيفاً مربوطاً بذنب حصان. كأنّه كان يقول له، ما تقوله بيروت يوميّاً:
« تنبّهْ للخطر الذي يُحْدِق بك،
لكن، دون أن تهربَ منه».
كأنّه كان يقول أيضاً، ولكن على مستوى آخر:
«لا ينفصل الإصغاء عن الانفعال. وليست المعرفةُ قوّةً فقط. إنّها كذلك لذّةٌ ومتعة».
– 8 –
ما أبعدَ الواقعَ في بيروت عن الواقع.
ومَن هذا الإنسانُ الذي هو في آنٍ: موجودٌ وغيرُ مَوْجود؟
– 9 –
كيف يمكن أن يكون صحيحاً قوْلُ «سانت – جوست»:
«فوق أكداسٍ من الجُثثِ تنبعثُ الأمَم»؟
وأنتَ يا جَبَلَ الغَيْب في بيروت،
لماذا لا يتصاعَدُ منكَ إلاّ الهَباء؟
بيروت، ضعي ولو متاخِّرةً، إصبعَك على الجُرح.
ثِقي بالمعنى.
وليتَ عينيكِ تمنحانكِ ولو دمعةً واحدةً تسكبينها على الصفحة الأولى من الكتب التي أمَرَتْكِ الأديانُ الوحدانيّة أن تقدّسيها،
دمعةٌ واحدةٌ، باسم أولئك البشر الذين ماتوا ذَبْحاً، وباسم الخراب الهائل
الذي أَرَّخَتْ له المرحلةُ العربيّةُ الرّاهنة.
– 10 –
تعرّفتُ في بيروت، سرّيّاً، في أثناء الحرب الأهليّة، على نباتاتٍ وأعشابٍ تخلقُ أرباباً تسقيهم، شاكيةً عطشها الدّائم.
وكنتُ كلما نشرتُ، يهرب الماء من بين شفتيَّ كأنه يجْري لكي يسيل بين شفَتَيْ عشبة أو نبتة.
وكنت أكّدت للطّفل الذي يبدأ اسمه بحرف الألف أنّه سيرى في بيروت شمساً أُخرى، لا عمل لها غير ابتكار الطُّرقِ في اللّهو معهم على الشواطئ، وفي أحضان الموج.
*
هل بَدأ الماءُ مع بيروت يشكّ؟
*
سأرجو هذا الطّفلَ أن يعمل معي على اكتشاف ذلك العازف الغامض الذي يقود الأوركسترا الخاصّة بهجرة الأجنحة.
– 11 –
أخذتني الرّيح التي صادقتُها باسم بيروت، وقذفتني بعيداً حتّى عن مَجْراها، ولا أعرف لماذا، وكيف؟
أعندك جوابٌ أيّها الأفق؟
– ماذا تقرأ؟
– لا أقرأ. أتصفّح الكتاب الأخير الذي كتبه ضوءُ بيروت.
_____
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *