الترجمة بوصفها عملاً إبداعياً..(مقبرة براغ) لإمبرتو إيكو أُنموذجاً..


*خضير اللامي

في هذه الورقة أريد ان اقدم شهادة شخصية عن تجربتي في حقل الترجمة مركزًا على الجانب الإبداعي فيها ، تاركا ما يتعلق باختصاصاته الاخرى الى وقت آخر .. وسأركز على عمل روائي واحد اعده من اصعب الاعمال التي واجهتني في مجال تجربتي في الترجمة الا وهو رواية( مقبرة براغ) ومن يقرأ نصها العربي والانجليزي سيرى الجهد الواضح المبذول في هذه الرواية..

بداية ، اقول إن ثمة نسيجا مشتركا بين المؤلف والمترجم ، يتيح للأخير أن يجترح نصه الخاص أو تأويله ، من النص الآخر بوصفه نصا مفتوحا او بمعنى آخر نصا حمال أوجه استنادا على مفهوم النظرية النقدية الحديثة ؛ وصولا الى الارتقاء بالنص المنقول اليه . شريطة ان يحافظ على روح النص ، وبما يتماهى مع اللغة المنقول اليها . وهذا يعني ضمنا ، مايسمى بالأمانة في الترجمة. 
صحيح ، أن لكل لغة خصائصها ، ومكوناتها وانحدارها التاريخي ، ونموها الحضاري والاجتماعي فضلا عن الثقافي . وقد يواجه المترجم صعوبة في التعامل معها ليماهي بينها وبين لغته الأم وخصائصها كما حدث معي في رواية مقبرة براغ التي سنتحدث عنها بعد قليل .
وصحيح ، أن لكل مترجم رأيه الخاص وفلسفته في العمل الترجمي ، بخاصة في الاعمال الابداعية الحديثة ؛ ولكني لا اتفق تماما جملة وتفصيلا مع من يتخذ من الترجمة الحَرْفية مسارا له ، ذلك انها اي الترجمة الحَرْفية تنقل لنا نصا مهلهلا ، وتقتل الابداع فيه ، فضلا عن أنها في النتيجة ، تعطينا نصا لا حياة فيه .
والترجمة فضلا عن ذلك كله ، هي عملية تلاقح بين لغتين قد تكونا متكافئتين في تقدمهما الثقافي والحضاري والتكنولوجي ، مثل لغات اوروبا الغربية كاللغة الانجليزية واللغة الفرنسية على سبيل المثال ، وقد لا تكون كذلك بينها وبين احدى اللغات الشرقية مثل اللغة العربية ؛ وصولا الى ، بناء لبنات لمعرفة الآخر من خلال ترجمة ثقافته او ادبه الى لغتنا او ثقافتنا . وتعد الترجمة هنا ، الوجه الآخر ولا بد من معرفته لغة وسلوكا وتاريخا وحضارة واختلافا وتشابها . و تعلقا بالذات” المترجم ” هي اكتشاف لابداعات ذلك الوجه الآخر او تلك الأمة ، بخاصة اذا كانت من تلك الأمم التي قطعت شوطا كبيرا في نهوضها الحضاري وتقدمها الاجتماعي وتقنياتها العلمية والتكنولوحية وانعكاسات ذلك على العمل الابداعي . 
وعلى الذات ” المترجم ” التعامل مع النص على وفق هذه الخصائص وعلى وفق خصائص امته ليعطينا نصا ابداعيا لا يبتعد كثيرا عن النص الأصلي احيانا يحوم حوله واحيانا يقترب منه ليجترح نصه الخاص بيد ان الابتعاد كليا عن النص هو عملية مسخ تماما للنص الأصلي .
يقول امبرتو ايكو في كتابه الجديد المترجم الى العربية المعنون ” ان نقول الشيء نفسه تقريبا :وهذا العنوان يختزل لنا مفهوم الترجمة الابداعية. يقول ايكو في كتابه هذا : يتحتم على المترجم أن يتفاوض مع شبح مؤلف هو في أغلب الأحيان غير موجود، ومع الحضور المهيمن للنص المصدر (الأصل)، ومع الصورة التي لا تزال غير محددة للقارئ الذي يترجم له، وأحياناً، عليه، هذا التفاوض؛ المتعدد الأوجه والأطراف، هو الذي يقود، في النهاية، إلى تحديد خيارات المترجم من ناحية التأويل والحذف والإضافة والتعديل ونقل ظلال الكلمات، وحرارة العبارات في الأصل، فعملية الترجمة محمّلة بخصوصيات دلالية وجمالية تجعل منها، لا مجرد نقل، بل «محاولة إبداعية» أخرى موازية للنص الأصل، على اعتبار أن الترجمة، وكما يقول إيكو: «لا تعني، فقط، مروراً بين لغتين، بل بين ثقافتين، أو موسوعتين، وعلى المترجم أن لا يأخذ في الاعتبار فقط القواعد اللغوية البحتة، بل وأيضاً عناصر ثقافية، بالمعنى الأوسع للعبارة”
وثمة جدل او وجهات نظر فيما يزعمه المترجم الأدبي أن الترجمة الأدبية هي عملية ابداعية لا تقل اهمية عن العمل الإبداعي في مجال الرواية والقصة والشعر والمسرح وحتى النقد .. اذ ان المترجم حين يشرع في عملية الترجمة – وهنا اتحدث عن تجربتي المتواضعة فيها – يعيش حالة من التجلي كما المبدع وهو ينغمر مع النص المنقول منه الى النص المنقول اليه والذي يتعامل معه ومع لغته السردية واسلوبه وسيمياء عباراته ، وكيف يوازن بين اسلوبه واسلوب النص الاصلي لغة وتقنية وسمات بنيوية واسلوبية . وهنا هي الاشكالية .
اذا ، الترجمة فضلا عن انها عمل ابداعي فهي حضارة تبطن في داخلها علما ، وحقل نظريات ومعارف ووعيا وتاريخا ، وعلى المترجم القدير ان يكتشف هذا الاثر من خلال استثمار الشحنات الدلالية والشفرات والايحاءات الاخرى مثل ذائقته الجمالية والحسية واللغوية و تسلحه بمعرفة ابداعية تؤهله على التعامل مع الاخر .
وثمة سؤال يطرح نفسه هنا او قد طرحه بعض المترجمين ونقاد الترجمة هل ان الترجمة فضلا عنها انها ابداع هي موهبة ؟ لا اعرف جوابا لهذا لكن كل ما اعرفه انني حين انتهيت من ترجمة مقبرة براغ لم اصدق نفسي ابدا ان هذا النص العربي لرواية مقبرة براغ هو النص الذي ترجمت اياه ؟ّ
ومن هنا ، ومن هذا كله ، تعاملت مع نص رواية مقبرة براغ لامبرتو ايكو ، اذ انه، اي نص امبرتو ايكو، مفعم بالعبارات السيميائية والتاويلية والايحائية وما يقابلها من تلك السمات في لغتنا العربية ، فضلاعن تعقيدات السرد وتقنيته العالية جدا ذلك ، لان الرواية تتناول احداثا جسام حدثت في اوروبا معقدة ومتشابكة واحيانا ضبابية بسيمائيتها واسلوبها فضلا عن شخصياتها التي قلتَ عنها خرافية خاصة وان بطل الرواية سيمونيني يعاني من ازدواج في الشخصية فاحيانا لا تعرف انت كمترجم او كمتلق او حتى كناقد ان كان هو الشخصية الحقيقية ام الشخصية الاخرى او مزدوجه التي يعاني منها . وهنا ، تكمن الصعوبة في التعامل مع عمل امبرتو ايكو .
ولا اكتمكم ان اقدامي على مثل هذا العمل العظيم يُعد مغامرة حقيقية امام قامة كاتب عظيم مثل امبرتو ايكو ؛ لكنني شعرت بعد ان قرأت نصها الانجليزي ان ثمة نداءً داخليا يدعوني الى الانسجام مع مثل هذا العمل الشائك وانجازه . وقبل المباشرة بالترجمة ، اعدت قراءة بعض اعمال ايكو لاكون تماما في اجوائها كما ساحر يحرق بخوره قبل عمل السحر، وتمضي الايام والليالي والاسابيع والاشهر ثم تجاوزت السنة ونيف . وهاهي الرواية بنصها العربي ترى النور . 
ومما ساعدني اكثر ، انني شعرت ان القارئ العربي وبالذات السارد بحاجة الى مثل هذا الجنس من السرد الروائي .. ومع انني لست مختصا بسيميائية امبرتو ايكو ، بيد انني ازعم ان اقول ان لدي اهتمامات متواضعة في هذا الشأن فضلا عن قراءاتي لايكو امبرتو، مما مكنني التعامل مع نص مقبرة براغ ، واجتراح نصها العربي ، على وفق مقاربات النص الانجليزي ، وامل ان اكون قد وفقت في ذلك .. 
وحين انتهيت من ترجمة الرواية ، تركتها جانبا لبعض الوقت ، عدت الى قراءتها مرة اخرى ورايت ان ثمة غموضا يكتنفها لا لخلل في ترجمتها او سرد احداثها ؛ ولكن لبنية نصها المعقد وسيمائيته في سرد احداث جسام وقعت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولان كاتبها امبرتو ايكوسيميائي بامتياز فضلا عن انه ذو عقل مركب كما رايت ان محاولة تبسيط ما يمكن تبسيطه هو مساس او احداث خلل في العمل الروائي هذا وتسطيح احداثه واسلوبه وتقنيته وفضلت ترك العمل كما هو ورأيت ان اكتب مقدمة له لتفكيك بعض سمات هذا العمل الروائي العظيم كما لو انه نافذة يتطلع من خلالها القاريء العربي الى عالم امبرتو ايكو الروائي . ومبرر كتابة هذه المقدمة وكما جاء في المقطع ادناه من المقدمة :
إذ من الصفحات الأولى يدعونا إيكو الى تعضيده تأويليا في فهم ما يكتبه السارد الآخر في الرواية : ” لا يعرف السارد نفسه حتى هذه اللحظة ، من هو هذا الكاتب الغامض ، ويقترح أن يكتشف ( جنبا إلى جنب مع القارىء ) وكلانا ينظر ويتابع بفضول ماذا يدوِّن هذا السارد على صفحات هذا الورق. ” إذا ، من خلال ندائه هذا ، هناك صوت داخلي آخر كتب هذا العمل الروائي غير صوت إيكو؟ ” وعلينا هنا في هذا العمل الروائي لإيكو التعامل ” التعاضد ” مع هذا الصوت الداخلي ” النداء ” ، للوصول الى رؤوس خيوط هذه الرواية لفك تشابكها . الروائي ايكو بوصفه ساردا آخر ، من جانبه حاول قدر امكانه أن يكتب إضاءة مقتضبة )وهذا نادرا ما يحدث في العمل الروائي ( . عن تداخل الأحداث وتشابكها وغموضها وزمنها الاسترجاعي flash back ، وحبكتها المعقدة واسلوبها الملتوي، فضلا عن شخصيات الرواية ، بخاصة بطلها الرئيس سيموني سيمونيني الشحصية المتخيلة الوحيد الذي يعاني من انفصام الشخصية ، ومزدوجه آبي دالا بيكولا ايضا ، وكلاهما لا يعرف أحدهما الآخر، أنهما شخصية واحدة في جسد واحد .
إن التعامل مع هذه الرواية ، رواية ” مقبرة براغ ” لمؤلفها الايطالي امبرتو ايكو حفيد دانتي ، ذو العقل المركب ، والاسلوب المعقد ، وفيلسوف ، وسيميائي ، وناقد ادبي ، ومؤرخ ، واكاديمي ، وموسوعي معرفي بامتياز، هوتعامل مع عمل ابداعي لرواية تنطوي على احداث جسام متداخلة حدثت في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين ، تحتاج الى قارئ نوعي متمرس. والرواية قد تبدو سلسة ومرنة ومفهومة وقد ينطلي هذا على القارئ العادي ؛ لكن القاريء المحترف النموذجي كما يقول ايكو قادر على التعامل مع اسلوب الرواية ، أما القاريء الهاوي ، فانه يسهم في انهيار هيكلية الرواية باكملها نظرا لعدم تمكنه من استيعاب اللغة الخيالية المحبوكة بدقة متناهية .
يقودنا امبرتو ايكو في سفر روائي لا يُنسى عبر احداث روايته “مقبرة براغ ” التي اشتق اسمها من مقبرة يهودية قديمة في براغ ، كان قادة حاخامات يهود الأمم في جميع انحاء العالم يلتقون فيها كل مئة سنة تقريبا لوضع خطط التآمر للسيطرة على مقدرات البشرية وحرفها عن مسارها الانساني الأصيل ومنهم من يقول إن هذه البروتوكولات هي محض كذبة فبركها الروس لاضطهاد اليهود . أطلقوا عليها ” بروتوكولات حكماء صهيون ” . وتمكن سيموني سيمونيني بطل الرواية من صنع مقبرة براغ إيّاه واعادة صياغتها وبما تتناسب مع مفاهيم وافكاروالتحولات الدراماتيكة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . 
هنا ، يحاول ايكو ، تفكيك مفاهيم وآليات الكراهية بين السلالات والأمم والأقوام عبر التاريخ وراهنه وبخاصة ما كان تمور به نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين من احداث جسام ودور اليهود الشيطاني ضد المسيحية والديانات الأخرى كما السلالات الأخر وتدنيس مقدساتها .
وما قد يلاحظة المتلقي ، من ما يشبه الإساءة أو الإساءة ذاتها ، لشخص المسيح وصليبه والديانات الأخرى، انما هو يأتي من موقف يهودي شيطاني تاريخي من المسيح أو المسيحية ليس إلا ، في محاولة منهم لتهويد المسيحية ، أراد الروائي هنا ، أن يُظهر كراهية اليهود ضد البشرية عبر التاريخ واظهار الجرائم التي يرتكبها شياطنة اليهود هي الأكثر بشاعة وخسة في الخداع .. وجسّد هذا كله في موقف البطل الرئيس المتخيل سيموني سيمونيني إزاء كراهيته وحقده وإزاء الأعمال الشنيعة والمخططات الجهنمية والتغلل بين اوساط المجتمعات العالمية والتآمر عليها وبين المنظمات التجسسية والماسونية التي يقوم بها اليهود عبر التاريخ ..
______
*المدى

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *