المرآة


نجوى الزهار *

( ثقافات )

    يمشي بين السيارات ، عند انطفاء الاشارة الضوئية يتخذ ركنا ما … وأحيانا زاوية ما . لديه مواقيت محددة… أبحث عنه أياما ليكون اعتقادي خاطئا ، فأنا التي لم تتعرف على جدول مواعيده بعناية .

عندما أراه تتوالد الصور في ذهني ، وتتعارك المشاعر في قلبي .

يرتدي بذلة بنية ، ربطة عنق خضراء … حذاء أسود ما من بقايا غبار عليه .

تلك البذلة البنية، حاولت خيوطها أن تحتفظ بصلة القرابة للون البني على قدر استطاعتها ، ولكن ! .

ربطة العنق الخضراء ، اشعر بها ، أراها مثل عشب أخضر شق رمال الصحراء ليرتدي ثوب الحضور الراهن .

( نطق ما . رغبة ما . اختلاف ما )

في وجوده هنا ، في تحركه ما بين صفوف السيارات ، يمتلك خطا مستقيما ، لا ينظر الى سائقي وسائقات السيارات ، انما يدرس خطواته التي تتناسب مع مواعيد الاشارة الضوئية . حمراء يمشي، صفراء يبتعد قليلا ، خضراء يركن الى مكانه .

بضاعته التي يحملها لها مواسم. في الشتاء هنالك الدفاتر والأقلام . في الصيف هنالك قصص الأطفال . في الأعياد هنالك المراوح المتلونة والطائرات الورقية . واذا ما امتد النظر اليه ، يشعر به فيمد يده بالبضاعة الى شباك السيارة . يعطي أولا بيد ثم يستلم باليد الأخرى . لا ينظر بتاتا الى النقود التي استلمها ، انما يضعها بأناه في جيبه .

كأن هذا ا لمكان هو مكتبته الخاصة به … ولكن تلك الخطوط التي يرتديها وجهه ، هي كحزوز برتقالة قشرت على مهل . تلك الخطوط هي التي أشعلت نيران الأسئلة في قلبي .

هل له بيت ؟ هل له أبناء ؟ هل يعاني من عقوق الأبناء ؟ أهي الحاجة الملحة ؟ من تركه هكذا ؟ . مشاعري نحوه تتجه أحيانا الى خطواته . ان كان سيره منتظما وكانت أكتافه منبسطة أشعر أنه بخير. وان تراخت يوما ما خطواته أشعر بأن أموره قد ساءت .

أهي مهنة التسول ؟ ولكن ليس لديه أي صفة منها . ان امتدت يد اليه ، يمدها بالبضاعة ، وان لم تمتد فهو في مكانه ، ما من امتداد لنظراته ولا تتحرك أي دعوة منه للشراء .

هذا الحوار ما بين قلبه وقلبي كان لا بد له من ايضاح وتفسير ! .

كانت الابتسامة هي المفتاح . وكان السلام هو الباب .

– كيف الحال ؟

– – الحمد لله

– الجو حار جدا .

– – الحمد لله

– الأمطار غزيرة .

– – الحمد لله خير وبركة .

احترامي لطريقة تحركه ، لأسلوبه ، يزداد يوما بعد يوم .

ذاك الوجه المشع الذي نمت وما زالت خلايا الكبرياء دفعتني للاقتراب منه .

لوضع تساؤلي وحيرتي بين يديه . ولكن قبل أن تطفو الأسئلة من أعماقي ، كان هو المبادر لكل ذلك .

– هنالك استغراب وتعجب يطفو على وجهك ، بل هو أكثر من هذا ! .

– ماذا ؟

– بل هو التقدير والاعجاب لطريقتك ، لخطواتك .

– ابتسم

– ابتسمت

أي جواب باستطاعته أن يبني جسورا ما بين تلك الأيام المتباعدة وهذه اللحظة الراهنة .

لقد كان لي وضعا ما ليس باستطاعتي أن أشرحه لنفسي أولا ، فكيف لي بالمقابل أن أشرحه لك .

لا تراودك الظنون أو الشكوك . فأنا انسان عاشق للمعاني …كان العطاء هو الهواء الذي أتنفسه ولكن !! .

هذه ال لكن ! دعينا لا ندخل في تفاصيلها . انني انسان محب ، محب لرغيف الخبز المعجون بالشمس والمطر .

أفهم . أعرف . واسمع . ان ما أقوم به يطلق عليه مهنة التسول .. ولكن مرآتي التي أرى روحي فيها تقول لي كلاما غير هذا الكلام .

ان التسول الحقيقي هو أن تمتد يداي الى رزق من حولي وهما ما تزالان في بستان العطاء ، وقدماي تعرفان الطريق الى دكاني عند الاشارة الضوئية .

شعرت به يهز شجرة العطاء بيد ، وباليد الأخرى يحمل قصصا مصورة للأطفال .

رجعت الى ذاتي ،لأستعيد ما رأيت ، وما سمعت ، ولكن عدت للحقيقة الواضحة . فنحن لا نرى الا أطياف من الضوء ولا نفهم الا جزءا قليلا مما نسمع .

وآه يا مرايا الروح

يا مرايا


* كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *