فاروق جويدة:الشعراء ماتوا!


*صفاء عزب

منذ نصف قرن وفاروق جويدة حاضر بقوة في المشهد الثقافي العربي ليس فقط من خلال مجموعاته الشعرية، ومسرحياته الشعرية التي شكلت إضافة مهمة في مجال المسرح الشعري مثل «دماء على ستار الكعبة» و«الوزير العاشق»، لكن أيضا من خلال مقالاته اليومية التي تسببت في دخوله في مواجهات عاصفة مع النظام الأسبق، كان من بينها تعرضه لأزمة كبيرة كادت تكلفه حياته عام 2005. وكانت الهموم العربية جزءا أساسيا من اهتماماته وكتاباته، وشكلت قصائده عن قضية فلسطين ربع أشعاره كلها.

التقيناه في القاهرة عقب لقائه بالرئيس السيسي بمناسبة عيد المعلم، وكان هذا الحوار حول جملة من القضايا الفكرية والثقافية.
*بداية ما انطباعك بعد لقائك أخيرا بالرئيس السيسي، وكيف ترى المشهد الآن بعين المثقف؟
– إن ما يحدث في العالم العربي من صراعات وتفكك وحروب أهلية غيرت الصورة تماما ووصلت بالناس إلى حالة من الإحباط بعد الثورات العربية. فما يحدث في العراق منذ سنوات والحادث في سوريا وليبيا واليمن وكذلك ما يحدث في سيناء المصرية، كلها أشياء تدعو للأسى لكنى أعتقد أن الجيش المصري استطاع فعلا أن يقف مع الشعب وأن ينقذ مصر من كل هذه الكوارث، لذلك فإنه على الرغم مما يبدو في الأفق من غيوم وسحب إلا أنني أرى أن هذا الواقع يدعو للتفاؤل، فمصر بعمقها الحضاري والثقافي كان لا بد وأن يكون لها موقف مما يجرى حولها والحمد لله أنها نجحت في تجاوز المحنة. ورغم كل الأمراض التي أصابت الجسد الثقافي المصري إلى أنني أعتقد أنه لا يزال متماسكا. وقد تكون نقطة البداية التي تجعلنا ننطلق إلى آفاق أوسع وأفضل هي قضية التعليم. فخلال حضوري لقاء الرئيس السيسي احتفالا بالمعلم – وهو الأمر الذي لم يحدث منذ زمن طويل – شعرت بالتفاؤل لأن التعليم قضية أساسية حيث إنها هي حجر الأساس بالنسبة للثقافة وتليها قضية الإعلام، وهى أيضا مؤثرة جدا خاصة وأن الإعلام تحول إلى جهاز خطير جدا يسبق مؤسسات كثيرة وكلها مؤثرات مهمة في الثقافة كي تعود لدورها الأول في توجيه المواطن المصري وتثقيفه وتنويره وإعادة تشكيله بعد أن ساهمت تلك العناصر الثلاثة في انهيار سلوكياتنا وتدهور لغة الحوار في الشارع وسلوكيات الشباب والأجيال الجديدة التي حرقت مدرجاتها وضربت أساتذتها واعتدت على مقدسات جامعاتها وكلها ظواهر سلبية أساسها الثقافة.
*يبدو لي أنك غير راض عن واقع الثقافة. إلى أي مدى يتحمل المثقف المسؤولية في تدني هذا الوضع؟
– اللوم يقع أولا على المؤسسات الثقافية لأنها تخلت عن دورها أو أنها أدته بكفاءة محدودة جدا فركزت الاهتمام على المهرجانات والاحتفالات والشكل الظاهري للثقافة على حساب المكونات الأساسية والثوابت الثقافية وفى نفس الإطار أهملنا الدين وتركناه للزوايا والتطرف وللإرهاب أحيانا، وتركناه لشباب ما بين الفقر والعشوائيات في ظل إعلام وتعليم متدن فكانت ثمار كل ذلك مرة.
*لكن ألا يتناقض ذلك مع العدد الكبير الموجود على الساحة ممن يسمون أنفسهم المثقفين، حيث يفترض وجود علاقة طردية بين واقع الثقافة وعدد المثقفين. أم إن العدد في الليمون على حد المثل الشعبي؟
– للأسف الشديد هو «عدد في الليمون» بحسب المثل الشعبي.. وكما تقولين! لأن النخب الثقافية في العالم العربي تجني ثمار سلبيتها ومعاركها غير الحقيقية فنحن اليوم نعاني واقعا ثقافيا رديئا لأن مثقفينا تخلوا عن دورهم الأساسي فتحول بعضهم لمناصرة نظم استبدادية وحكام فاسدين، بينما انسحب جزء آخر انسحابا تاما وترك الساحة كاملة ومن ثم لا أحد منهم أدى دوره على الإطلاق، وكانت النتيجة ظهور ثقافة التطبيل والمهرجانات والزمر التي ابتعدت تماما عن تشكيل الواقع العربي. ولو تأملنا الحال في مصر مثلا نجد المسرح التجاري سيطر على الساحة كما سيطرت أفلام المقاولات على السينما الجادة ذات التاريخ العريق.
*هل تم كذلك بفعل فاعل؟
– نعم أعتقد ذلك! لأن دور مصر الثقافي مستهدف بلا شك.
*ممن؟
– يعنى هناك أطراف داخلية وخارجية وراء ذلك
*وأين دور النخب في مواجهة تلك المحن، أم إنها «نخب ورقية»؟
– لا شك أن تلك النخب في عالمنا العربي نخب من ورق وما حدث بعد الثورات العربية يؤكد ذلك حيث إنهم فشلوا في الإمساك بزمام الأمور لأن تشكيلهم ورقي ضعيف؛ ولذلك رأينا كيف سحقت النخب بعد الثورات بتيارات وأفكار وآيديولوجيات متطرفة جدا! فلم يكن أحد يتوقع أن يعصف «الإخوان المسلمون» بالنخبة المصرية ولكنه حدث! لأنها نخبة هشة وغير مؤمنة بدورها.
*هل تؤيد اقتراب المثقف من السلطة أم ترى ضرورة وجود مسافة بينه وبينها؟
– لا بد أن يكون المثقف على مسافة من السلطة لأن مؤثرات السلطة قد تصيبه بضرر كبير جدا خاصة لو كانت السلطة فاسدة. وبالتالي فدور المثقف أن يضئ الطريق لا أن يتحول إلى بوق للسلطة لأن أبواق السلطة أجهزة فاسدة.
* هل تعرضت للمشكلات بسبب نقدك الدائم السلطة السابقة؟
– لقد طرحت قضايا كثيرة خاصة بفساد السلطة وبالفعل تعرضت لأزمات كثيرة ووصل بي الأمر أنني أصبت بأزمة قلبية بسبب مقال كتبته في جريدة «الأهرام» القاهرية عام 2005 وانتقدت فيه توريث القضاء فاتهموني بأنني أقصد توريث الحكم أيام مبارك!! فهاجمتني أزمة قلبية، وأنا في مكتب النائب العام دخلت على إثرها المستشفى ونجوت والحمد لله.
*هل أثرت تلك الأزمات على كتاباتك وجعلتك تؤثر السلامة؟
– لا بالعكس لم يؤثر هذا على موقفي على الإطلاق حتى الآن وفى كل مرة كنت أخرج أكثر صرامة بل وأكثر عنفا في مواجهة الفساد.
*نلاحظ الآن أن قلمك صار أكثر هدوءا وتفاؤلا؟
– نحن لا نملك رفاهية الكآبة الآن! فالبيت محاصر بالنيران وكل من حولنا يحترقون ومن ثم لا بد أن نقوم بعمل سياج من الحماية لهذا الشعب وأن يكون لدينا الأمل بما بقي فيه من حكماء وعقول مفكرة وشباب واع ونساء عظماء. كما أنني بحكم العمر الذي وصلت إليه أمتلك قدرا من الحكمة مع صوت مبشر يدعو للتفاؤل سيما وأن هناك مؤشرات إيجابية وطيبة في محاربة الفساد والارتقاء بالثقافة والتعليم.
*بما أنك من رواد جيل الستينات هل تعتقد أن الحقبة الناصرية قابلة للتكرار، خصوصا في جانبها الثقافي مع تولي الرئيس السيسي كما يردد البعض؟
– أولا السيسي ليس عبد الناصر ولا ينبغي أن يكون عبد الناصر! فالسيسي إنسان مصري موجود في حقبة زمنية مختلفة وأوضاع دولية مختلفة، كما أن عليه مسؤولية أخطر كثيرا للتصدي لتجربة حكم فاشلة من «الإخوان المسلمين». وأعتقد أن السيسي يجب أن يترك لفكره وإذا ما ظهر في المسيرة أي نشاذ هنا أو هناك فعلينا أن نخبره. عبد الناصر غير قابل للتكرار كما أن ظروفه كانت أفضل بكثير من الظروف التي تولى في ظلها الرئيس السيسي من الناحية الاقتصادية والإنسانية. فحينما تولى ناصر كان لديه نخبة عظيمة جدا من الحقب السابقة لها تشكيل ثقافي وفكري محترم، إنما السيسي تولى اليوم والطلاب يضربون أساتذتهم في الجامعات! ولذلك أفضل أن يظل السيسي هو عبد الفتاح السيسي.
*هل أدى استغراقك في الهموم الوطنية إلى ابتعادك نسبيا عن الشعر؟
– أنا لم أنس الشعر وسأبقى على إخلاصي له؛ لكنى أعترف أنى «كرفته» بعد أن أصبح البيت كله محاصرا بالنيران. فكيف أكتب شعرا في ظل هذا المناخ الصعب! المناخ العام فرض نفسه علي بسبب أحداث كثيرة شهدتها السنوات الأخيرة في المنطقة من مظاهرات وتجربتي حكم وعالم عربي يتمزق فالعالم كله تغير وفى ظل هذه الظروف لا أنكر أنني قد أكون حزينا على شعري خاصة الشعر العاطفي لكنى في نفس الوقت أكثر حزنا على وطني.
*هل معنى ذلك أن الشعر لم يعد يراودك ولو خلسة؟
– بالطبع ما زلت أكتب شعرا.
*هل تعتقد أن تلك الظروف التي أبعدتك عن الشعر بعض الشيء هي نفسها التي أدت إلى تراجع الشعر لصالح فنون أدبية أخرى؟
– بالفعل. كما أن الشعراء أنفسهم ماتوا!! فمات محمود درويش ومات سميح القاسم ونزار قباني وغيرهم ممن خلت ساحة الشعر منهم.
*لكن في المقابل هناك عشرات الأسماء من الشعراء الجدد.. كيف تقيمهم؟
– لا أعتبر أنها فترة خصام أو غياب عن الشعر بل هي فترة ضروريات وسيعود بعدها الشعر من جديد. ولا ننسى أننا نعيش في واقع جديد ومختلف له معطيات مختلفة عن فترة كتابة القصائد العاطفية. ولذلك كتبت في القضايا الوطنية، وربع كتاباتي عن القدس.
*أعربت عن تفاؤلك بمستقبل مصر، فهل أنت متفائل بالنسبة لمستقبل الثقافة العربية؟
– لا يمكن أن أتفاءل وأنا أرى العراق يحترق وسوريا في حرب أهلية ولبنان فيه ما فيه فلا شك أن الصورة قاتمة وحقيقة الأمر أن الواقع السياسي العربي دمر الواقع الثقافي، لأن مراكز الثقافة في عالمنا العربي تم استهدافها وتكسيرها سواء في بغداد أو بيروت أو دمشق فكلها تأثرت بما فيها من أحداث ساخنة فحرمنا من الشعر العراقي والدراما السورية والكتب المطبوعة في بيروت.
*تجربتك في كتابة المسرحية هل من عودة إليها؟
– بالفعل لدي مسرحية شعرية كتبتها وتتناول سقوط بغداد وواقعنا العربي بما فيه من أحداث.
*«شيء ما سيبقى بيننا» عنوان لأحد دواوينك الشعرية. فما هذا الشيء الذي سيبقى في رأيك؟
– هناك أشياء كثيرة ستبقى منها الإنسان العربي القادر على صنع حياة أفضل في ظل حالة أكثر كرامة وأكثر إنسانية ومنها أيضا أن مصر ستبقى المنارة.
_________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *