«بشرى» وظلال أخرى.. *



هزاع البراري *



السحَرةُ يفرّون إلى الكهوف المعلّقة في صدور الجبال العارِية، والرعاة يواقعون الحمى تغافلاً، فتستعر الشِّجَارات مع الفلاحين المثكولين بموت المحاصيل، المواسم شحيحة كحذاء ضيق، والربيع صار ذكرى بعيدة، منذ زمن لم تمرّ أسرابُ الفرَاش، ولم تحبل الأرض بالفطر الذي يغْني عن شحِّ اللحم، عند أهالي القرى المثقلة بالفقر والتعب.. الأطفال العراة إلا من العورة المستترة عن لدغة الأبصار، يتسلّون بِعَدِّ أضلاعهم الناتئة، وينتظرون طعاماً غير كسرة الخبز أو “جريش” الذرة، لكن المواسم انكمشت، والبيادر تحولت إلى أكوام صغيرة تنهبها الريح، وتنهشها دفاترُ أصحاب الديون المؤجَّلة.
«إنها سنين عجاف، الله يسترنا»، هكذا قالت أمي وهي تدثر أبي المحموم، كانت أسنانه تصطك، ولحيته البيضاء كالثلج ترتعد، وجهه غائر أسفل اللحية كصخرة تختبئ بين الأشواك، أثقلت أمي عليه الغطاء، وبقيت قرب رأسه تتمتم بتعاويذ غير واضحة. كنتُ ممسكاً بثوبها الأسود الكالح، المسكون بأشكال صغيرة وملونة، مطرزة من زمن غابر، وعصبة رأس مزركشة بورود صغيرة. رفعتْ رأسها نحوي، فبانت بوضوح ثلاث نجمات صغيرة خضراء دقت أسفل شفتها السفلى، شعرت بتجاعيد جبينها الكبيرة، والغائرة كأخاديد غامضة ومهمومة.
قالتْ تطرد الخوف الذي تلبَّسني وأنا أُناهِزُ العاشرة: «هو هيك لما يتأخر عنه الشيخ المصري، لا تخاف».
يهدأ جسد أبي، ويغط في نوم يشبه الموت، تنهض أمي وتمسك بي، وتقودني إلى خارج المغارة التي تفغر فمها الكبير بجانب بيتنا الحجري الصغير، الذي بناه جدي بعد خروج العثمانيين بسنوات، هكذا كان يحدثني أبي في أيام الصحو، كان يضبطني وأنا أتحسسُ حجارة البيت الكبيرة، أو أتأمل القناطر المعقودة على شكل أقواس ضخمة، فيقول: 
– جدك كان جندياً عثمانياً شجاعاً، أتذكره في آخر أيامه كالحلم، خبرته كهلاً موشكاً على الموت، نعم لقد جئته في زمن متأخر، كان وهو على فراش الموت، يتأملني وأنا ألهو قربه بسن أصغر من عمرك هذا، كان يداري دموعه عني، وأسمعه يقول لأمي الفتية: «يا حسرتي عليه، وُلد يتيماً». لقد تزوج جدك بعد السبعين، تزوج وأنجبني وبعد سنوات قليلة أخذته إغماءة الموت.
– هل القبر في عمق المغارة هو قبره يا أبي؟
– نعم قبره يا إبراهيم، لقد أسميتُك على اسمه، إبراهيم غيث إبراهيم، فلقد أسماني «غيث» لأنني جئته في آخر العمر كغيث متأخر، هذه المغارة عاشَ فيها أجدادك، وعاشَ فيها جدك قبل أن يبني هذا البيت في أواخر أيامه، بناه وبقي ينام في المغارة، حتى مات ودفنه الرجال فيها. كان جدك شاباً قوياً، لكن الحروب الطاحنة وسنين الحصار والأسر كسرتْ شبابه، وتركت في قلبه حسرات وندوباً أوجعته حتى وفاته، أخذه عسكر العثمانيين في التجنيد الإجباري، فوجد نفسه يحارب في البلقان البعيدة.
– أين هي البلقان يا أبي؟
– بلاد بعيدة… يقولون عند الأجانب في أوروبا، قاتَلَ في البرد والوحل والجوع، وعندما خسروا الحرب، أخذوه بالسفن إلى ليبيا ليحارب الإيطاليين، وقد ذاع ذكرُه بين الليبيين، كان شجاعاً لا يخشى الموت، وذاق مرارة الحرب وقسوتها مرة أخرى في معركة السويس مع البريطانيين، كانوا محاصرين بلا مؤن، يجمعون الحبوب من روث الدواب، ويجففونها ويأكلونها.
لقد قصَّ علي أبي القصة وأعادها لياليَ طويلة. عندما يرويها تبتهج ملامحه وتشرئِبُّ لحيته، كأنما يقصُّ سيرته أو يتحدث عن شيخ الطريقة الصوفية التي فتنته عن الحياة.
لقد نُقلَ جدي إبراهيم من السويس إلى الجبهة المستعرة مع روسيا القيصرية. عندما أقرأ عن هذه الفترة الآن في كتب التاريخ تغمرني مشاعر متضاربة، أحسّ باختناق وضيق، وبدهشة تسري في عقلي كصعقة الكهرباء. فقد أسر الروس جدي إبراهيم، وساقوه مع عدد من الأسرى إلى معتقل في سيبيريا البعيدة، موطن الأجواء القطبية المتجمدة، حيث تندر الحياة، ويصبح الموت هو الأكثر حظاً بالحياة هناك. أمضى في هذا المعتقل القطبي النائي أياماً قاسية، ذاقَ فيها المرارة وشَهِدَ من العذاب والجوع والبرد القارس، ما يجعل الموت هو المخلِّص الوحيد، فعقد العزم مع رفيق له من فلسطين على الهرب، لأن الموت محققٌ هنا، وإن كان احتمالُ نجاح الهروب والنجاة في الطريق الطويلة، والطقس الجليدي، شبه مستحيل، لكن كان لا بد من المغامرة، فهربا بلباس حرس بالٍ جمعاه قطعةً قطعةً حتى اكتمل، فأصلحاه وهربا في ليلة شديدة البرودة، والحرس يستدفئون باطمئنان.
وسارا مسافة طويلة حتى صادفا قروياً يجرُّ عربة ثلج، أوصلهما إلى حدود الصين مقابل نقود قليلة، فعبرا إلى الصين، مشياً على الأقدام حتى أركبهما مزارعٌ على حصان له إلى أقرب قرية، فتنقّلا من قرية إلى أخرى وقد غمرهما شعورٌ دافئ بالأمان رغم البرد الشديد، وبعد أيام من رحلة الجنون، وصلا إلى ميناء صيني، وهناك عثرا على سفينة شحن تأخذهما إلى الهند، فركباها مقابل عملهما على ظهر السفينة، وفي الهند أمضيا أياماً يعملان من أجل لقمتهما في الميناء، حتى وجدا سفينة متجهة إلى السويس، فركباها وعملا على متنها، متحملين العمل القاسي ومشاق الرحلة الطويلة.
عندما نزلا في السويس، كانت الحربُ العالميةُ الأولى في الرمق الأخير، في حين بسط البريطانيون نفوذهم على فلسطين. كانت الثورة العربية قد وصلت شمال حلب.
قطع جدي مع رفيقه المسافةَ إلى فلسطين سيراً على الأقدام، ومن فلسطين عبرَ النهر إلى “بشرى”. استغرقت معه رحلة الهرب خمسة أشهر، وكان الناس في “بشرى” قد فقدوا الأمل في عودته، غاب سنين طويلة قاربتْ الخمسة عشر عاماً، ظنوا أنه مات في مكان ما، وقد أنساهم بؤس الحياة وشظف العيش إبراهيم الذي خطفة عسكرُ العثمانيين قبل سنوات طويلة، وانقطع خبره منذ ذاك اليوم. أحدُ العرافين الذين يطوفون بين القرى، قال:
– هو في مكان ضيق وبارد.
سألوه برجاء:
– هل هو عايش؟
صمتَ وحدق في الفراغ، تمتم بقراءات غريبة، ثم قال:
ـ ربما، هو كالميت.
عندما دخل جدي القرية مع خيوط الفجر لم يعرفه أحد، كان نحيلاً كعصا رفيعة، بخدين غائرين من الجوع والتعب، وبدا كهلاً ومتهالكاً، وجدَ نفسه بلا أهل، فقد قضتْ الأمراضُ وكبرُ السن والحسرة على والده ووالدته. سكن المغارة فترة، والناس يحملون له الطعام ويتمسحون به، فقد تحول إلى شيخ في عيون الأهالي، فهو يحفظ أجزاءً من القرآن الكريم، ويتحدث بأمور الدين، ويقصُّ قصصَ الحروب والبلدان، وصار يقرأ على المرضى فيُشفى بعضهم لسبب ما، فقد التقى في ليبيا ببعض الصوفيين من السنوسيين، وأخذ عنهم بعض مبادئ الصوفية، وقد شرع ببناء البيت، بمساعدة أهل القرية فقد وجدوا أخيراً من يؤذّن بالمسجد الصغير ويصلّي بالناس.
بعد فترة جمع رجال القرية في مغارته وقال:
– العلم بحر، والدين علينا تعلمه وتعليمه.
هزوا رؤوسهم وقالوا:
– نعم.
– أنا مسافر إلى مصرَ لأزورَ الأزهر، لقد سمعت عنه كثيراً، وبعدها أعود بعلمٍ وافر ومعارف جديدة.
سافر جدي إبراهيم إلى مصر، حضر عدداً من حلقات الأزهر، وبعدها ذهب إلى مدينة طنطا وأقام بجوار مسجد “سيدنا البدوي” يمضي معظم الوقت معتكفاً في المسجد، يغوص بروحانيات الصوفية، وتأخذه حلقات الذكر والدروشة إلى حدود الإغماء، سنوات ليست بالقصيرة أمضاها هنالك، حتى قيل إنّه كان يقود بعض حلقات الذكر وصار له مريدون، وكانوا ينادونه بالشيخ إبراهيم الشامي المبروك.
اعتقدَ كثيرون أنه تزوج واستقر هناك، فقد تعوَّد على السفر والغربة، ومنهم من قال بموته ودفنه في تُرَب الفقراء في مصر، لكنه ظهر بعد ما يقارب العشر سنوات، عاد بلحيته البيضاء ووجهه الأبيض الوضاء، وكرش صغير مدور، وصار يبشر بالصوفية، وتحولت مغارته إلى حلقة ذكر أيام الاثنين والخميس، كما زادت مقدرته في العلاج بالقرآن والرقية، فتحمِل على يديه العاقر، وتتزوج العانس، ويشفى المريض.
لم يسكن بيت الحجر ليلة واحدة، بناه لسبب غامض وبقي أسير المغارة، تحضر له النساء الطعام، ومن حَملنَ بفضل قراءاته كن يهبنه قطعاً من مصاغهن، وعندما سرقته الأيام، وأكلت جسده السنون، وبدأ الوهَنُ يتسلّل إلى قواه، قال له رجال القرية: تزوج واترك لنا من ذريتك الصالحة مَنْ يبارك مواسمنا ويشفي مرضانا.
قدموا له عذراء ثلاثينية، أنجبت له أبي “غيث”، أنجبته بعد ثلاث سنوات من وصفات عسل السدر بالأعشاب الغريبة، كان يعدّ الوصفة بنفسه له ولها، وعندما بانتْ عليها أمارات الحمل، اعتكف في المغارة ثلاث ليالٍ، لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد، كانوا يشاهدون دخاناً أبيض خفيفاً يصعد من فوهة المغارة، ويتشبع الهواء برائحة البخور النفيس.
وُلدتْ جدتي في المغارة، ترددت في جوف هذا الكهف الغريب صرخة طفل وليد، سُمي «غيث»، سماه جدي بهذا الاسم ليغيثه في آخر العمر، لكنه لم يعمّر طويلاً بعد ذلك، خانه قلبه وهو فوق صدر جدتي، محاولاً ارتكاب «غيث» آخر، لكن أنفاسه توقفت فجأة، شعرتْ بجسده ثقيلاً على غير العادة، تجمدت أعضاؤه، حرَّكته فوجدته جثةً هامدة، دفعته عنها بصعوبة، ارتدتْ ملابسها دون ارتباك أو حزن، حملتْ طفلَها النائم وخرجت من المغارة، وضعتُه في غرفة بالبيت الحجري، وعادت إلى جثته فرتبت الثياب عليها، لتخرج مع خطوط الفجر الأولى فتقف أمام المسجد الصغير، لتخبرَ شيخ المسجد قبيل أذان الفجر. يأتي الأذان بصوت حزين متحشرج، يعلن بعدها المؤذن وفاة الشيخ إبراهيم. في الصباح الباكر تتكوم النساء المتشحات بالسواد أمام البيت الحجري، يولولن بمرثيات حزينة، ويمزقْنَ ثيابهن ببكائيات تفجر البكاء في القلوب المفجوعة.
الرجالُ حملوا الجسد المغطى بعباءة الشيخ البيضاء، وأخرجوه من فم المغارة ليصلّوا عليه بعد صلاة الظهر، ثم عادوا ودفنوه في الجوف العميق من المغارة. وغصّتْ القريةُ بحزن تدمع فيه العيون، وتبكي القلوب، أحجموا لأشهر عن معاشرة النساء، وصدّوا الأطفال عن اللعب في الكروم والحقول، وضربت مواسمُ قحطٍ متتابعة قوتَ الناس، حتى جزعوا وقالوا «روح الشيخ إبراهيم رفعت البركة»، فتجمعوا ذات يوم بعد صلاة المغرب أمام بيت الشيخ إبراهيم الحجري، حاملين البخور والطعام، خرجت جدتي تقود غيث الصغير، ووقفت أمامهم، فقال شيخ المسجد:
– يا أم غيث، احتجبت السماء، وجفت الآبار، عطِشَ الشجر ومات الزرعُ، وضمر الضرع، فمنذ مات صاحب البركة لا مطر ولا بيادر، فأغيثينا يا أم غيث.
نظرتْ إلى طفلها الذي بالكاد يعي ما حوله، ثم تأملتْ العيون المكتنزة بالأمل والرجاء، وهزّتْ رأسها موافقة، ثم قالت بصوت واثق:
– مَن خلَّف ما مات.

* الرأي الثقافي
• فصل من رواية «أعالي الخوف».

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *