“ها؛ من نشر البكاء على الشّرفات؟”


*لانا المجالي

( ثقافات )

إلى روح د. بركات زلوم: 

كيف تنعى صديقًا شاطرك البُكاء لأجلِ البُكاء؟ ، كما قاسمك الضّحك؛ على سبيل العادة. 
كيف تنعى صديقًا لم تُجِب على مكالمتهِ الهاتفيّة الأخيرة؛ لأنّ المفاجأة التي تحملها له أثقل من أن ينقلها فراغ بين هاتفين؟. 
كيْفَ تَنْعى “الحنين على قدمين”؟ والشّوق طازجًا؟ والعدل والصّبر والألفة والأستاذ والأب والقارئ والكاتِب والمفكِّر والباحِث والطيّب والنّبيل والكبير؟ 
كيفَ تنعاهُ “رحمهم الله”. كلّهم. في رجل واحد؟. 
لَنْ أفْعَل. يكفي، فقط، أن أعيد هذا النص الذي كتبته في عام 2013 إلى صاحبه، بانتظار ابتسامته تطالعني من خلف مكتبه، كما كانت عندما قرأه أوّل مرّة.
***
إنهاء مكالمة هاتفية مع د.عرفات لا يتطلب مجهود استخدام كلمات مِثل:” إلى اللقاء” أو “وداعا”، كذلك الأمر كانَت صداقتنا؛ لَم أقُل لَهُ ” كُنْ صَديقي”، و لَم يَقُل!. 
كُنْتُ أُقلِّب صفحات ” شُرُفات بحر الشمال” لـ”واسيني الأعرج” أمام كشك كُتُب “خزانة الجّاحظ” في وسط البَلَد. سَمعتُ صَوتًا دافئًا يقول: ” ذائقة دامِعة!”.
تأملتهُ؛ في منتصف الستين مِن عمره. طَويل القامة، وقورًا بملامح مَليئة بالألفة، وعينين فيهما حزنٌ مُعتّق.
قُلتُ: أُقلِّبُ خيانة زُليخة لقناعتها أن ” ياسين، يا خُويَا ، لازِم تِتعلَّم، عِندمَا تُحِبّ، لا تُحِبْ بِكُلِّك وَإلّا ستَموتُ مَغْبونًا. خَلِّ دايماً شْويّه ليكْ حَتَّى تِقدَرْ توقَفْ عَلَى رِجليك”.
كيفَ لم تترك “شويّة ليها” كَفاف الوقوف؟ كَيفَ ماتَت انتحارًا بالحُبّ؟.
قالَ: تَشبهين حُزني. 
-“هَل تعرف مكانًا صالحًا لِلبُكاء؟”؛ قلتُ. 
قال:-كلّ مكانٍ يصلحُ للبكاء، لكنّنا بِحاجةِ مناديل لا تَخذِلُ دموعَنا؛ حَتّى لا تخذلنا دموعُنا. 
هوذا؛ كان لقاؤنا الأوّل. قبل سنوات قليلة. عندما افترشنا رصيفًا مُحايدًا وبكينا بشكلٍ مجانيّ.
تعددت المواعيد، والأماكن، والأسباب، وتنوّعت ” ماركة” المناديل حتّى اكتشفنا المناديل بلون ورائحةِ الخوخ. ولون ورائحةِ الفراولة،ولون ورائحةِ التّفاح، … وحدهُ البُكاء ظلّ بكاءً دون ألوان ولا روائح.
***
في مكتبهِ الصّغير في كليّة الآداب، و جدتني أمام شخصية فذّة، شخصيّة الأستاذ الأب الذي يُحاسب ويعاقب، ثمّ يمنح “صكوك الغفران”!؛ 
دخلت فاتن تَسأل عن علامتها في الامتحان، فوهبها الاطمئنان لكنّهُ اعترضَ عَلى عدستي عينيها اللاصقتين الملوّنتين ؛ قال: “جميل هذا الأخضَر، يُناسبكِ تَمامًا “. ابتسمَت. أضاف: ” الأخضَر تطفَّل عَلى البهجةِ في عينيكِ و استخلصَها لنفسه. عاشَ الأخضر و ماتَت عيناكِ. لا أُرحِّبُ بالمَوتى في مُحاضراتي”. 
عِندما خَرَجَت فاتن وشاهدَ تعبير الاستياء مرسوما عَلى مَلامحي قالَ: ” كُنتُ أحمي دموعها من الخذلان يا لَميس، وقلبها من القَسوة، ووجهها مِن الرِّياء، وعينيها مِن المَوْت؛ (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)، ثمَّ أخرجَ علبة مناديل مربعة الشَكل وجميلة من درجِ مَكتبهِ مُبتسمًا، ليضيف: “هذا النّوع الجديد بِرائحةِ “الفانيلا”. اقترحي بُكاءً للدّموع. 
– ” المَوت في عَينيّ فاتِن”، قلتُ. 
قال: لا بَل، حياة الأخضر عَلى عَينيها. 
– لا فَرق!.
– “البُكاء عَلى الأموات يُعذّبهم. دَعينا نُعذِّبُ القَتلة فَقَط”؛ قال.
وبَكيْنا. 
*****
البُكاءُ في بِلادنا مَعصية؛ نَهَت عَنْها الرّجولة في كتاب التّقاليد، والأنوثة في كتابِ الخُرافات، وَكُلُّنا عُصُاة وجنيّات. اسألوا وُسُدَ النَوْم المُبَلَّلة، وما تحتها مِن تَمائِم!. 
البُكاءُ شَهوَة غَزيرة في بلادٍ شَحيحة الصّدق والماء، وأنا أُمارِسُ بُكائي جَهرًا، وأدَّخِرُ بعض الصّدق في الثلاّجة!.
هَل قُلتُ بِلادَنا؟. 
أنا لا بلاد لي!. 
* شاعرة ومديرة تحرير ” ثقافات “

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *