أوَّلُ لَمْسة


*علي جازو


جدَّتي العزيزة. 
إنها المرة الأولى التي أكتب فيها رسالة إليكِ، وقد فات أوان الاعتذار، ولن تلومي ضعفي وكسلي، لأن المصائب تمحو العتب، وتبدِّل من الشكوى، وتُحِلّ محلّها العطفَ الذي هو شكلٌ من أشكال التبرير. 
تذكّرتكِ طوال الشهر الماضي، آناء اقتراب الفجر خاصة، وخجلت ألا يكون كلامي على وجه تذكُّري نفسه. ذلك أمرٌ ليس بالسهل، لاسيمّا أنني أستعيد ذاكرتي ببطء وعسر. لا أشهد فجراً في بيروت، بدل ذلك، أرى مصباحاً كبيراً تغطّيه قلنسوةٌ قرب حجرتي في الطابق الثالث. الآن أستعيد حديثك مرّة عن زيارة بيروت مع أبي عندما كان شاباً، وكنتِ قادرة على التنقُّل بيسر. 
تأخَّرتُ طويلاً، ولم يكن سبب تأخُّري ضئيل الشأن. لذا لن أستسمحك الآن، فأنا أعرف أنك تحبيني كما كنت، وأشعر أنك تحبيني الآن كما أنا، بعيداً في حجرة مربَّعة أكتب إليك كلمات كثيرة لن تقرئي منها إلا القليل الذي سبق أن علَّمتِني إياه. 
تعلمين كما أعلم أن كلماتي لا تصلك الآن، فأنت لا تسمعين أحداً، ولا يمكنك الإحساس بأيّ صوت، كما أنك عاجزة عن القراءة. غير أنني أشعر بحاجةٍ ماسّة إلى الكتابة إليك. لديَّ إيمان، لا يمكنني تبريره أبداً ولا الدفاع عنه، يحملني إلى أن هذه الكلمات المتعثّرة والمستعادة ستصل إلى مسمعك، وستفكّرين بها كما أفكّر أنا بك الآن. سيفرحني ذلك كثيراً، وآمل أن تفرحي أنت أيضاً، ولا ينشغل بالك بشأني، فأنا بخير. لقد كبرتُ. إنني أخدم نفسي بنفسي.. 
أشكرُ عيني لأنها احتفظت بطيفٍ صغيرٍ من ذاك اليوم الصيفيّ البعيد. «- أكانت جدَّتُك هي من رافقتْكَ إلى عيادة الطبيب؟». 
ظلّت الجَدّة على الدوام تذكّرني بالعصافير؛ كيف تخفض أعناقها لتشرب الماء، ثم ترفعها كي تنظر إلى وجه الله. كانت تضرب لنا مثلاً عن التواضع، عن الرأفة، وعن الامتنان. عرفتْ كيف تحبُّ، كيف ترأفُ، كيف تخضُّ الحليبَ داخل مخاضة من جلد الماعز لتجني منه زبدة بيضاء كالثلج، لتحوِّل الفجر إلى موسيقى حليب مخضوض. كان يكفي أن تسمع صوتها فتشعر على الفور ماذا تعني العفوية، وأين يمكن لمن لم يجد غير القسوة والجفاء، أن يحظى بروح آمنة. 
منذ ثلاثة أيام وأنتَ في بحثٍ متعبٍ ترجو ذاكرتك، تتوسّل إليها أن تعينك: «أكانت هي الجَدّة أم الوالد الشابّ»؟ تعلمتَ المزيد، نجحتَ في الدراسة، فشلت في العمل، لم تتوظف، لم تتزوج، ليس لك بيت ولا طفل. آن لك الآن أن تتذكّر ما لا يمكن لأحد أن يتعلّمه من أحد. 
أغلقتَ الباب، أغلقت النوافذ. من خلفها ترى أوراق شجرة ورد؛ تراها تتموَّج مستسلمةً لهبّات الريح. تستغرب أن يأتي الجمال من الضعف..، من مُجَرَّد استسلام ورقة خضراء. أفلا يكون التذكُّر، واللهفة المضنية إلى استعادة يومٍ واحدٍ من حياة ماضية، علامةً أخرى على الضعف؟ وهل من تلاؤم بين ورقة شجرة الورد المتموِّجة مع الريح وبين قلبك التائه في وجه ذاكرتك؟ هل الأخيرة هي ريحٌ أخرى؟ 
ظنّنتَ نفسكَ في منأى عن وحل الحياة. لكن الحياة تطاردك. تخافُ أن ترى، أن تحسّ، أن تشعر. لكنك غفلت عن أن ذاكرتك حَيّة، تتعذّب في مكان ما من جسمك. سوف تُلاحقك وتعيدك إلى بيتك. لا تتذكّر عدد السنوات التي مرّت على ذلك النهار الصيفي. يبدو العدد بلا قيمة إزاء التذكُّر العاطفي والحنين إلى طفولة كانت قريبة مثل الوجهِ واليدِ، اليومِ والغَدِ ممتزجين في ساعة واحدة. ساعة لم تغرق في ماء الزمن. ها هي تطفو من حولك فيما أنت وحيدٌ مثلها. كأن العاطفة في إشراقها الغريب عملٌ ضدّ الأرقام، ضدّ ما يدخل في دائرة الربح والخسارة. مريضاً في الطريق إلى قامشلو، برفقة جَدّتك (أو ربما والدك)، شعرك يتجمّع خصلات عالية فوق جبينٍ منقّطٍ بحبات عرق صغيرة. قبل ذلك وقفتَ هادئاً صامتاً أمام سيارة مرسيدس صفراء، موديل 1959. كان الخجل درعك القديم، سيظل يرافقك ويحجبك حتى هذه اللحظة التي تهترئ فيها عيناك كما لو كنتَ طوال أربعين سنة تنظر في لونِ صباحٍ واحد. بعد قليل، ستلاحظ أن ثمة ذراعاً رقيقة تلمع في الكرسي الخلفي، وأن شعراً ناعماً يرقّ ويظلّل ذراع فتاة لم ترَ وجهها بعد. 
كان كلّ شيء أملس خفيفاً أمام عينك. كنتَ تطفو داخل هذه البقعة الضئيلة المضاءة بشمس الصيف الصباحية. الظلال خفيفة، والهواء يسيل ببطء عبر مفارق شوارع صغيرة. بقيت تـــراقب الذراع النـــاعمة طوال الطريق، وبحثت -بصبرٍ تفتقر إليه الآن- عن منفذ ما، يصل إصبع يدك المتردّدة إلى أرض ناعمة ساحرة. ما عرفت حينها ماذا تعني الرغبة، ما هي الشهوة. كانت أموراً غريبة عنك، وجذّابة على نحو خجولٍ ومتردِّد. كنت تنمو في داخلها مثلما ينمو جنينٌ في رحم، كنت تُصاغ وتُنسَج مزيجَ ذوبانٍ وخجلٍ، توقٍ مكتوم، وحاجة غريبة إلى التخفّي: غناء لن تشفيه أية كلمة. كنت أنت نفسك جسدَ الأغنية التي تبخّرت من دون ندم، من دون صراخ، لكنها الآن تدفّئك مثل يدِ رحمة طيِّبة. 
ستتذكّر الخيط، رغم هشاشته وضعفه، وسيدلّك على بيت الجَدّة المتواري، سيريك الشوارع صغيرة متموِّجةً كما كانت تطفو وتتلاقى خلف نظرات طفلٍ صامتٍ مريض.
________
*الدوحة

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *