كيف عُوقبت الفلسفة في التراث الإسلامي؟


*عبدالله الرشيد

لن تكون مجازفة علميّة، ولا تعميمًا إذا قلنا بأن مصطلح “الفلسفة” منذ القرن الثاني الهجري وحتى اليوم مازال مصطلحًا مشبوهًا، منبوذًا، محاطًا بإرث تاريخي يلاحق الكلمة باعتبارها بوابة للفتنة والغي والانحراف، أو في أخف الأحوال يغلف النظر إليها بعين مليئة بالارتياب.

الحرب ضد “الفلسفة” في التراث الإسلامي مرَّت بأطوار متعددة، وطرق مختلفة، كانت في جزء منها ذات بعد علمي، وفي البعض الآخر ينطوي على جانب المنافسة، وصراع النفوذ السياسي الذي يأخذ صورة علمية وحجاجية.
على الرغم من أن اتصال الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية كان عميقًا وشكَّل جسرًا تاريخيًّا فريدًا، تجلَّت فيه الفلسفة اليونانية داخل العقل الإسلامي في صورة جديدة متطورة بنت إنتاجها وسجالها وإضافاتها العلمية على الأسس العقلية التي نسجها فلاسفة اليونان، إلا أن هذا الاتصال ازدهر وتفاعل في مسار، وحورب وجوبه في مسارات أخرى.
حين بدأت بواكير “العصر الذهبي الإسلامي” تتشكَّل، وتنبع من خلال مؤسسة “بيت الحكمة” في بغداد التي كانت أول جامعة في التاريخ تربط بين الحضارة اليونانية والإسلامية، وبدأت الترجمات من اليونانية والفارسية والسريانية إلى العربية تترى، والمأمون في مطلع القرن الثالث الهجري يكافئ كل مترجم بوزن الكتاب الذي يترجمه ذهبًا، بدأت تتغلل أفكار فلاسفة الإغريق إلى النظر العقائدي، وتعزز تأسيس المذاهب الكلامية، التي انفتحت على منهج عقلي يغوص في ماورائيات الوجود، في ظل بيئة علمية يسيطر عليها النظر الفقهي المادي الذي يتعامل مع أحكام المكلفين؛ بوصفها حالة مادية، بعيدًا عن عالم الميتافيزيقيا والرؤية الكليَّة للكون؛ فجاءت كالمطر في أرض عطشى تشرَّبتها بقوة… ومن هنا بدأت معركة التأثر والممانعة!
يمكن القول بأن “علم الكلام” -الذي يسعى إلى تأسيس النظر العقلي في “الله”، والانتقال من دائرة التقليد في العقائد إلى اليقين- هو البداية الأولى لممارسة الفلسفة في البيئة الإسلامية، لكن الفلسفة بطبيعتها أشمل وأوسع، لا تنحصر فقط في جانب الإلهيات، وإنما تدخل في كافة العلوم، وفي مرحلة ما كانت الفلسفة هي المعنى المقابل للعلم، فشملت الفلسفة بجلبابها الواسع العلوم العقلية والنظرية والتجريبية؛ فهي في بعض تعريفاتها: منهج شامل يسعى إلى الوصول للحقيقة دون التقيد بمسلَّمات مسبقة.
فاشتراك الفلسفة وعلم الكلام في المنهج العقلي لا يعني أنهما يسيران في مسار موحَّد متصل يمضي وفقًا لتطور تاريخي واحد، فإذا سلمنا بأن الفلسفة اليونانية قد طوَّرت وعمَّقت “علم الكلام”، وعزَّزت من توسع الفرق والمذاهب الكلامية، فهي أيضًا طوَّرت (العلم التجريبي) في الحضارة الإسلامية، حيث كان للمنهج العقلي اليوناني دور كبير في تأسيس النهضة المادية للحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي.
يؤكد فؤاد زكريا في كتابه “التفكير العلمي” هذه النقطة، فهو يقرر أن “العلماء التجريبيين كالبيروني، والحسن بن الهيثم، وجابر بن حيان، وابن سيناء، وابن النفيس، وغيرهم كان منهجهم العلمي يدور في إطار يوناني صرف”. حيث كانت الفلسفة اليونانية تعتمد على العقل النظري البحت، وتزدري التجريب المادي، وتخرجه من إطار العلم، ولذلك لم تكن الحضارة اليونانية متميزة عمرانيًّا ولا ماديًّا، بخلاف نهضتها العقلية، ولذلك جاء العلماء “التجريبيون” المسلمون فاستلهموا المنهج العقلي اليوناني، ووظفوه في فهم أسرار المادة الطبيعية عبر الممارسة والتجريب، وأُدخل “التطبيق” في حقل العلم، وهذا مايفسر ازدهار علوم الطبيعيات في الحضارة الإسلامية، التي لا تجد مواجهة أو تضييقًا من السلطة الدينية الإسلامية، كما حدث مع الكنيسة التي احتكرت العلم، بل العكس من ذلك؛ فهي تشترك مع الفقهاء في مجال الماديات، لكن لا تتنازع معه في النظر إلى العقائد والأصول الدينية.
ومن هنا نفهم التناقض حين الحكم على علماء الطبيعيات في التاريخ الإسلامي الذي يغلب على مجملهم التأثر بأفكار الفلسفة اليونانية، من خلال الإشادة بمنتجهم المادي، والافتخار به، ثم إطلاق أوصاف الزندقة والتبديع أو التكفير عليهم.. على الأسس العقلية اليونانية التي تشربوها. لذلك جاء ازدهار الحضارة الإسلامية غير مكتمل، فهو نشط متطور في مجال الفلسفة الطبيعية التجريبية، مليء بالصراعات والمواجهات وربما القمع في إطار الفلسفة العقلية، وهذا ربما يمكن أن يعزى إليه سبب عودة التخلف الثقافي والعلمي للحالة الإسلامية، التي لم تؤسس نهضتها المادية على أسس فلسفة عقلية تنبع من ذات البيئة الثقافية والحضارية، وهذا ما تنبه له فلاسفة النهضة، والتنوير، الذين بنوا النهضة التجريبية على أسس عقلية أولاً، نبعت منها فيما بعد الحضارة المادية والتقنية الحديثة.
معاقبة الفلسفة بـ”علم الكلام”
في فترة انتعاش الجدل الكلامي الذي بدأت منذ القرن الثاني الهجري، كان هجوم الفقهاء عنيفًا ضد الموروثات الثقافية التي أمدت “علم الكلام” بالازدهار، بالطبع المقصود بذلك الثقافات الوافدة وعلى رأسها “الفلسفة اليونانية”، فنشأ شبه إجماع بين فقهاء المذاهب الأربعة على كراهة “علم الكلام”، وتحريمه أحيانًا، ويصل الأمر إلى حد الإقصاء والملاحقة عند الإمام الشافعي الذي قال: “منهجي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد”، وفي رواية أخرى: “حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام”.
فوضع “علم الكلام” في مواجهة مباشرة مع “الكتاب والسنة”، فإما أن تكون مؤمنًا ملتزمًا نقيًّا من شرور هذا العلم، أو تنغمس فيه وتتهم بالزندقة، ولذلك يروى عن الإمام أحمد قوله: “علم الكلام زندقة، وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه دغل على أهل الإسلام؛ لأنهم بنوا أمرهم على أصول فاسدة أوقعتهم في الضلال”.
ذا التأسيس المبكر للمفاصلة مع “علم الكلام” انسحب على من بعده، وعلى كل من جاء يمضي على منوال منهجه ولو كان في حقل آخر، فعوقبت الفلسفة بأسرها، من خلال جناية “علم الكلام” على الإسلام، فبجذورها نشأت “الفرق والبدع، وخاض الناس في أسماء الله وصفاته بعقولهم”، وانتهى الحال بعلم الكلام إلى “أن يكون علمًا جافًّا لاحياة فيه، وتسبب في إحداث شلل للفاعلية الزمنية عند المسلمين”، كما يقرر ذلك المفكر الأردني فهمي جدعان.
توسع محمد إقبال فهاجم وانتقد ما يوصف بأنه المرجع والمؤسس لـ”علم الكلام”، (الفلسفة اليونانية)، فقال:” صحيح بأنها (أي الفلسفة اليونانية) وسعت من آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، إلا أنها غشت على أبصارهم في فهم القرآن، والسبب في ذلك هو اختلاف نهج القرآن عن نهج الفلسفة اليونانية، فالمعرفة عند المسلمين تبدأ من المحسوس، وتنزع إلى الملاحظة، بخلاف المنهج الإغريقي الذي انحصر في الاستنباط من مقدمات جاهزة، وابتعد عن الطبيعة المحسوسة”.
ومن هنا بدأت المواجهة العقائدية والفقهية تتحول من “علم الكلام” إلى “الفلسفة”، فسحبت الأوصاف المطلقة على المنشغلين بعلم الكلام، وعممت جميعًا على المنشغلين بالفلسفة، واعتبر الحقلان في مسار واحد كلاهما يؤدي إلى ذات النتيجة.
مصارعة الفلاسفة
يصف عبد القاهر الجرجاني -وهو من أعيان فقهاء الشافعية- الفلسفة بالكفر، وأدرج المنشغلين بها في عداد “أهل الأهواء” الخارجين على الإسلام، فهم من “الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية ويقتلون”.
وفي كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي، قال موجِّها انتقادًا شديدًا للفلاسفة، “إنما تمكن إبليس من التلبيس على الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم، وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات للأنبياء”.
أما ابن القيم الجوزية فيصف المنشغلين بكلام المعلم الأول “أرسطو” بأنهم ملاحدة، حيث قال في (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)، : “والمقصود أن الملاحدة (أي الفلاسفة) درجت على أثر المعلم الأول (أرسطو)، ثم انتبهت نوبتهم إلى معلمهم الثاني (أبي نصر الفارابي).. الذي كان على طريقة سلفه من الكفر بالله تعالى، وملائكته ورسله واليوم الآخر”.
وإذا كانت الفلسفة تقوم في جوهرها وأصلها على تحرير العقل واستعماله بدون قيد، فإن الشهرستاني في مقدمة كتابه (الملل والنحل) قال بأن أول شبهة وانحراف وقعا هي حين عصى الشيطان أمر ربه؛ وسبب ذلك أنه استعمل العقل والحجة ولم يكتف بالتسليم.. لذلك -وفقًا للشهرستاني- فإن كل انحراف وشبهة سببه هو إعمال العقل، “فشبهة إبليس لعنه الله مصدرها استبدادها بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر”.
الشهرستاني الذي كان يصارع الفلاسفة دائمًا -كما فعل قبله الإمام أبو حامد الغزالي- لم يترك أية فرصة سانحة في مجرى حديثه عن الفلاسفة إلا ويقارنهم بالمتكلمين. فهو -كما يقول الباحث العراقي ميثم الجنابي- “أراد بيان التأثير المتبادل بين الفلسفة والكلام في الوسط الإسلامي. ويكشف تتبعه لنشوء الفرق الإسلامية وكيفية تأثرها بالفلاسفة عن رؤيته لما يمكن دعوته بالمسار التاريخي، والصيغة النظرية لتأثير الفلسفة في علم الكلام بشكل عام. وإذا كان الشهرستاني قد ربط هذا التأثير بفرق المعتزلة، فلأنها كانت التيار الأكثر قابلية له. وهو استعداد مرتبط بمنظومة الفكر المعتزلي ونزوعها العقلاني الشامل، الذي جعلها أكثر تجاوبًا مع حكمة الفلاسفة القولية (العقلية)”. لم يشر الشهرستاني إلا إشارة قليلة على أثر الفلسفة على الأشاعرة، كما أنه صمت عن أثرها في نشوء فرق أخرى “كالمرجئة، والشيعة، والخوارج، والجبرية، والمشبهة والكرامية”، مما يدل على أن الهجوم على الفلسفة يأتي في أحد سياقاته العنيفة كصراع بارز بين الأشاعرة والمعتزلة.
يزيد الأمر جدلاً محمد عابد الجابري الذي نفى بقوة أي تأثير للفلسفة اليونانية على فكر المعتزلة، أو وجود علاقة بينهما، فهو يرى أن أبا الهذيل العلاف -منظر مذهب المعتزلة- ومن جاءوا بعد من أبناء المذهب، قد “استعملوا خطابًا ابتدعوا كثيرًا من مفاهيمه من خلال الاحتكاك مع خصومهم من المانوية والفرق غير الإسلامية. أما دعوى بعض القدماء والمحدثين بكونهم تأثروا بالفلاسفة وبأرسطو بالذات، فهي محض تخمين! والواقع أنهم قد قاوموا بشراسة المبدأين اللذين يقوم عليهما الفكر الفلسفي اليوناني : مبدأ “لا شيء من لا شيء”، (ويعني أن العالم قديم غير محدث ولا مخلوق)، ومبدأ “الطبع والطبيعة” الذي لا يعترف بتدخل الإرادة الإلهية فيما يحصل في العالم من تأثير بعض الظواهر في بعض”.
يدلل الجابري على فكرته المثيرة بأن أبا الهذيل العلاف كان معاصرًا لأبي يوسف الكندي (أول فيلسوف في الإسلام)، ومع ذلك فإنه لا شيء كان يجمع بينهما. فالكندي أكد على ثوابت الدين الإسلامي، مثل فكرة الخلق وحدوث العالم، وعلى أن كل ما جاء به الرسول لا يخالف العقل إذا اعتُمِد التأويل الذي لا يتجاوز حدود “التجوز” أو المجاز لدى العرب الذين خاطبهم القرآن، لذلك لا نجد أي أثر لـ”فيلسوف العرب” (الكندي) في خطاب المعتزلة، لا على صعيد المضمون ولا على صعيد المصطلح. “لقد أنشأ هذا الجيل الجديد من المتكلمين خطابًا خاصًّا بهم، واعتمد مفاهيم ومصطلحات ابتكروها داخل حقلهم الكلامي، بعيدًا عن المصطلح الفلسفي. لقد كانت هناك بين الطرفين مسافة كبيرة تفصل بينهما أفقيًّا وليس عموديًّا. والواقع أنه لم يحدث الالتقاء بين الكلام والفلسفة إلا في القرن الخامس الهجري مع الإمام أبي حامد الغزالي”، كما يقرر الجابري.
إذا كان علم الكلام قد انغمس في مجالات دقيقة تتعلق بالعقائد الدينية، والذات الإلهية، وحمل على عاتقه كثيراً من أوزار الانقسام والتفرق الإسلامي، فإن الفلسفة آفاقها رحبة واسعة، هي بطبعها متجددة متطورة متغيرة، لا يمكن أن تُحصر في قالب واحد، أو يحسمها ويختصرها حكم واحد.
_______
*أكاديمي وإعلامي سعودي/ مجلة المجلة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *