نجيبة الهمامي *
( ثقافات )
دوّى صوت صفّارة سيارة الإسعاف للمرّة الثانية في البلدة مصحوبا بأزيز سيارة عسكريّة وسيارة للحرس الوطني. تماما كما كان قد دوّى في المرّة الأولى منذ أربعة أيّام لكنّه كان مصحوبا ساعتها بسيارات للحرس الوطني والشرطة العسكريّة ووكيل النيابة العمومية ومصوّر الجنايات وجرّار ولد العيفة وشاحنة الزغواني الطهّار وسيارة عبد الحقّ القادم من سكتلندا صحبة زوجته الأنقليزية العجوز وحفيدها، فحتى مدعوّي “وطيّة” بنت التباسيّة تركوا الفرقة تعزف للعروس التي تسمّرت على كرسيّ المنصّة واجمة، وخرجوا جميعا بقطع الحلويات في أيديهم وأحزمة الرقص في خصورهم وقوارير “القازوز” في أيدي الأطفال وعلب “البيرة” وراء ظهور الشبان وسجائر “الزطلة” بين شفاههم، كلّهم هبّوا يستطلعون خبر الصرخة المدويّة التي خرقت أسماعهم رغم صخب الموسيقى المرتفع.
من أيّ حنجرة انطلقت هذه الصرخة؟ من أي منزل في الحيّ؟ ما الذي حدث؟ أتكون ألفة ضبطت زوجها رضا راغب علامة مرّة أخرى مع صاحبته القبيحة، كما تصفها هي، وهما يشربان بسرعة نخب غيابها على أريكة الصالون؟ أم من منزل الشاذلي زواج وزوجته الأخيرة أشواق، في إطار تبادلهما لما تيسّر من اللّكمات والسّباب: تعيّره هي بفراغ بطّارياته وانتهاء صلوحيّته وخسارة شبابها معه ويعيّرها هو، ساخرا، بأنّه تزوّج ذكرا متنكّرا في هيأة امرأة، ويمنّ عليها بإنقاذها من العنوسة؟
ارتفع الصراخ متقطّعا ثانية وكأنه يحدث بين إغماء وصحو ينبئ بحدوث فجيعة ما، فهرعوا إلى المنزل الكبير الذي في آخر الحيّ، إنّها دار “الجبهة”. إنّه صوت كنّتها الذي يرتفع ويخبو بالصراخ لا شكّ في ذلك. الاثنتان كانتا في العرس أيضا، وغادرتا منذ قليل فقط لما حضر ابنها عبد الستّار لاصطحابها وزوجتَه وابنَه الصغير النائم إلى البيت. وقبل أن تغادر، لم تنس الجبهة أن تعلم كل الحضور من الأهل والأصهار والجيران جميعا بموعد زواج ابنها الأصغر أسعد في القريب فعليهم أن يستعدّوا ويحضروا، وأطلقت ثلاث زَغرودات تحيّة للمحفل وللعرس القادم.
****
زواج أسعد؟؟!! كيف ذلك؟؟ والأخبار التي بلغت بعض الآذان همسا، إثر رجوعه من البعثة، والتي تجلّت في تدهور حالته النفسيّة وتراجعه في عمله، أتكون شائعات؟؟ بدا الاستغراب على الوجوه ولكن أمام الجبهة لا يجرؤ أحد على التعليق.
وصل الجميع عند باب الدار فوجدوه موصدا، تنصّتوا فسمعوا نشيجا وكلاما متقطّعا غير واضح. هم لم يتعوّدوا على مثل هذه الأشياء تصدر عن هذه الدار المهيبة. طرقوا الباب بقوّة ولم يحاولوا الاقتحام، فالكلّ يعرف يقينا أنّ الجبهة لا تقبل من يدخل دارها دون إذنها لأيّ سبب من الأسباب فما بالك باقتحامها.
وصل إلى المكان سي بن حسين وأخوه سي صالح، أوسعوا لهم ممرّا إلى الباب فطرق سي بن حسين الباب بعنف وصرخ مناديا عبد الستار زوجَ أخته وابن الجبهة ليفتح الباب ويطلعهم عما جرى. وبعد بعض الوقت فُتح الباب فدخل سي بن حسين وسي صالح وبعضٌ من الأهل المقرّبين جدّا من الرجال فقط ثم أُغلق من جديد، فأدرك الناس المتجمهرون أمام باب الدار أنّ هناك أمرا جللا حدث: أتكون الجبهة انتقلت إلى جوار ربّها هكذا فجأة؟؟ ولكن ما الداعي للتكتّم على الخبر هكذا؟؟؟ فنّد الواقفون قرب الباب مباشرة هذا الظنّ تماما إذ أكّدوا أنهم سمعوا صوتها بين أصوات الرجال. ولا يبرز صوت الجبهة إلا بين أصوات الرجال بل ويعلوها قوة وصرامة في كثير من المناسبات أيضا.
“الجبهة” الكلّ يناديها هكذا، بل لا أحد يسأل إن كان هذا اسمها فعلا أم لا، كما لا يسألون عن سنّها بالتحديد. وإن كان كبار العائلة يؤكّدون أنها على هذه الصورة منذ أعوام، فحتى ترمّلها باكرا لم يؤثّر فيها كثيرا، بل على العكس بدا وكأنّه فرصتُها لتَبْرُز صلابتُها وقوّةُ شخصيّتها في تحمّل مسؤوليّة أبنائها بكل صرامة واقتدار والقيام بشؤونها دون الحاجة إلى من قد يحدّ من حرّيتها وسلطتها التي أخذت تُبسط على الأقارب والأصهار على السواء.
في المناسبات الكبرى المختلفة للعائلة يُشار إلى صدارة المجلس: “هذه الجبهة!” تنظر فترى امرأة مستقيمة الجسم، متوسّطة القامة، ممتلئة، قمحيّة البشرة، عيناها داكنتا الخضرة كعشب في عمق بركة صافية، شفتاها مزمومتان تحفّ بهما تجاعيد متوسّطة العمق، أنفها مستقيم شامخُ العرنين، ذات أوشام على الخدّين والذّقن وأرنبة الأنف. إنّها امرأة حسناء ووحيدة ورغم ذلك لم تسمح لأحد أن يتجرّأ عليها أو على أبنائها أبدا، بل أجبرت الجميع على احترامها فكانت السيدة المهابة.
أطنب الواقفون أمام باب الدار في سيرة الجبهة وأبنائها، منتظرين أن ينفتح الباب مجددا فيعرفون ما الذي حدث. سمعوا خطوات تبتعد وتقترب وأصواتَ من دخلوا ترتفع بالتكبير والتوحيد والاستغفار والاسترحام والحوقلة و”لماذا فعل هكذا؟ يموت كافرا؟ حرام عليه… ربّنا يغفر له ويسامحه”. فزاد اللّغط والهرج وعادوا إلى طرق الباب أقوى من السابق، وتسلّق رضا راغب علامة حافة سور المنزل وأطلّ برأسه إلى الداخل وصرخ: “يا عبد الستار، يا عم صالح، من الذي مات؟ من الذي الله يرحمه؟”. فجاء سي صالح راكضا وتوجّه إلى الباب وهو يقول ممتعضا: “أسعد يا ولدي… أسعد هو الذي مات… لقد وجدته نزيهة أختي يتدلّى كخروف مذبوح من حبل معلّق في سيخ الحديد المثبت في عرصة دَرَج السطح الخلفيّ… لقد شنق نفسه… مات كالجيفة… كافرا… حتى الصلاة لا تجوز عليه ولا الدّفن في مقابرنا”. فردّ عليه “قصد الله” تاجر الخمور المتجوّل متعجّبا ساخرا ملمّحا إلى يوم ضبطه خلف الجامع يتلصّص من نافذة مصلّى النساء على أرداف الساجدات في صلاة تحية المسجد قبل بدء التراويح: “لماذا لا يدفن في مقابرنا؟؟ هل تخشى أن يتلصّص على مؤخّرات الميّتات كما تلصّص غيره على أرداف النساء في الجامع؟؟ أم لك عليه دَيْن لم يُسدّد حتى لا نصلّي عليه؟؟ لا ينقصنا إلا أن تُفْتِينا أنت الآن في هذه الليلة المغبرّة… احذر إنه الأسعد عَسْكَر ابن الجبهة وما أدراك!” وحرّك إصبعه في وجه سي صالح مهدّدا، وكاد الوضع يتأزم بين الحضور بين مؤيّد ومعارض، لولا ارتفاع صفّارة سيارة الإسعاف وسيارة الحرس الوطني والشرطة العسكريّة وأعوان مختلفين وصلوا لمعاينة مسرح الحادثة ورفع الجثة والتحقيق في أسباب الوفاة ودواعيها.
دخل الممرّضان وأعوان الأمن ومنعوا أيًّا كان من الاقتراب إلى حين الانتهاء من إجراءاتهم. غابوا داخل الدار لأكثر من ساعتين، ثم فُتح الباب على مصراعيه وخرج الممرّضان وهما يحملان جثّة المشنوق على محفّة، وأسرعا بإدخالها إلى سيارة الإسعاف والمغادرة مخلِّفَيْن وراءهما موجة من الفضول واللغط والذهول والبكاء.
خرج أعوان الأمن والشرطة العسكرية بعد ساعة أخرى، فوجدوا أنّ أغلب الناس مازالوا عند الباب فطلبوا منهم الانصراف. ارتفعت أصواتٌ تسأل عن حقيقة ما حدث ودواعيه فأجاب ضابط التحقيق أنّ كل الدلائل تؤكّد عمليّة الانتحار وكفى، ولا يريد مزيدا من الأسئلة ولا حتى الإفادات منهم، فأَسْعَد زميلهم ويعرفون عنه كل شيء وسيهتمون بالأمر.
صرخت هيفاء خطيبة أسعد التي تركها بإصرار، حال رجوعه مع البعثة العسكرية التي أُرسلت إلى إحدى الدول الآسياوية ضمن القوات الأممية، دون أن يقدّم سببا مقنعا لذلك سوى أنه لم يعد يريد الزواج لا بها ولا بغيرها،: مادمتم تعرفون عنه كل شيء فأخبرونا لماذا رجع على تلك الحالة من الاضطراب والانطواء؟ ماذا فعلتم به حيث أرسلتموه؟ وأيّ أمر ستهتمون به وقد تركتموه فريسة الاكتئاب حتى انتحر؟ ثم انفجرت تنوح وتُعْوِل واتجهت لتدخل الدار.
ردّ أحد الأعوان: اسمعوا جميعا، نحن مقدّرون لهذا الظرف، لكن ليس معنى هذا أن نسمح بأي تطاول واستهانة. يجب أن تعرفوا مع من تتكلّمون.
فاقترب منه حمادي زَعِيم وردّ عليه بصوت منخفض وهو يصرّ أسنانه: نحن نعرف مع من نتكلّم، ونعرف أيضا ما تعرفون عن أسعد وغيره. لا شيء يخفى يا العزيز. فهل تعرفون أنتم مع من تتكلّمون؟؟ ثم أشار له إشارة ذات مغزى وقال: هيّا، تصبحون على خير.
****
في حدود منتصف النهار تقريبا، توقّفت سيارة الإسعاف أمام باب المنزل تماما ثم توقّفت على جانبيها سيارة الحرس الوطني وسيارة عسكرية. نزل أربعة من الأعوان ودخلوا الدار التي كانت تعجّ بالخلق بمن فيهم الفضوليين والأطفال المشاغبين، نادوا عبد الستار وطلبوا منه أن يُخْلي مكانا للجثمان، وأعلموه أنّ موكب الدّفن لن يتأخّر كثيرا، دقائق لتوديع الفقيد، ومن ثمّ يقع تشييعه إلى المقبرة.
دار عبد الستار على عقبيه ليدخل الصالون الكبير أين تجلس الجبهة منذ ليلة الحادثة، متوسّطة مجلس العزاء بعينين كقطعتي زجاج بلا بريق وملامح جامدة ويَدَيْن معقودتين حول الصدر كتمثال قُدّ من ثلج، ليبلّغها ما طلب منه الأعوان ويستأذنها في إخلاء الصالون لاتساعه ليقوموا بتَسْجِيَة الجثمان هناك لبعض الوقت ومن ثمة إلى المقبرة. وقبل أن يتقدّم خطوات، اعترضته الجبهة واقفة وسط الساحة الفسيحة وهي تحمل بين يديها غربالا وضع فيه الكفن كما جرت العادة. تقدّم منها مسرعا وهو يحاول كفكفة دموعه الغزيرة، وقبل أن يقول أي شيء سحبت مفتاحا كان مدسوسا في صدرها، مدّته إليه وقالت آمرة:
-افتح منزله، أسعد سيخرج من المنزل الذي أعِدّ له عريسا.
تناول عبد الستار المفتاح وهو شارِق بدمع ألهب جفونه، ومشى خلف أمّه صوب منزل صغير جديد تضمّه ساحة الدار المهيبة. ولمّا وصلا، وخلفهما الكثير من المعزّين، تنحّت الجبهة جانبا، فتقدّم عبد الستار وأدار المفتاح في قفل الباب، وقبل أن يفتحه، تخطّته أمّه وقالت:
-اذهب وجِئْ بأخيك… أدخله أنت… أسرع.
خرج عبد الستّار يصحبه بعض الأهل وأصدقاء الأسعد المقرّبين، ووقف كلّ من في الساحة متلاصقين وخرجت النساء من الصالون والمطبخ وباقي الغرف استعدادا لاستقبال الجثمان بما يليق به من الاحتفال الجنائزيّ الحارّ.
دخل الكثير ممن كانوا أمام المنزل مهرولين متدافعين، فغصّت الساحة. وما إن أطلّ التابوت محمولا على أكتاف زملاء الأسعد وأخيه حتى ارتفعت الأصوات تكبّر وتوحّد وتسترحم. واشتدّ البكاء والنوّاح والعويل والتّعديد. كل ذلك والجبهة واقفة في باب المنزل الجانبي الصغير، وغربال الكفن بين يديها، تنظر صامتة واجمة لا تطرف لها عين.
شقّ التابوت الساحة، ووصل عند الجبهة ففتحت الباب وأفسحت لحامليه حتى يدخلوا ويضعوه حيث طلبت: في غرفة النوم، وأن يخرجوا ولدها من التابوت ويضعوه على السرير الذي بسطت عليه فراش عرسه، ويخرجوا. ففعلوا. أوصدت الباب خلفهم وقد صمّت أذنيها دون قول الأعوان بأن الجثمان جاهز للدّفن ولا حاجة لإعادة تغسيله وتكفينه، ولكنّهم أذعنوا لعين أمّ لم تذرف دمعة لفَقْدِ صغيرها.
اتّجهت الجبهة حيث الجسد المسجّى. وضعت الغربال عند الرأس. وقفت بجانبه تتأمّله ملفوفا في قماش أبيض. بدا لها وكأنّه تضاءل قليلا، ونَحُل كثيرا، ومنكمشا على نفسه بعض الشيء كأنّه يريد الاختفاء من هذا العالم.
أخذت تنزع عنه القماش الأبيض وتناجيه:
-لقد أعددت لك ثيابك كالعادة… لقد خِطتُ كسوتك بيدي وسأُلبسها لك بيدي… إنّها ناصعة البياض كقلبك الذي كان، قبل أن تسافر وترجع جريح النفس والرجولة… نعم، كنت أعرف يا قلب أمّك أعرف… وقد جرحني جرحك. سامحني يا ولدي… سامحني لأنّي عجزت عن مداواة وجعك…
انتهت الجبهة من نزع القماش عن جسد ولدها، فامتد أمامها عاريا كيوم وُلِد وخُتِنَ. كان ذاك يومُ مولدٍ واليوم يومُ موتٍ، وما بينهما مسيرة جرح بدأ للرّجولة وانتهى في الرّجولة. وقفت تتأمّل جسده المزرقّ بفعل الاختناق فرأت أثر الحبل على عنقه، وانتبهت إلى أنه يضمّ كفّيه على عانته ليستر عضوا ضمُر حتى كاد يختفي تماما. فقالت في حنوّ ومواساة:
– لا تخجل من أمّك يا ولدي؟! أنا أعرَف الناس بك… وأنا الجبهة أمّك أعرف ماذا أنجبت، لكن الفاجرين في هذه الدنيا الفاجرة لا يرحمون رهيف الطباع السَّمْح مثلك.
فاربدّ وجه الميّت/ المنتحر وسالت دمعة من عينه رأتها أمُّه فقالت:
-لا تبك يا ولدي… لقد قضي الأمر وأنا لا ألومك… انتظر سأمسح دمعتك وأطهّر جسدك قبل أن تلبس كسوتك وتغادرني.
وقفت الجبهة واتّجهت إلى خزانة الملابس، فتحتها وأخرجت منها قوارير مختلفة ومنشفة بيضاء وقطنا. عادت وتناولت إناء بلوريّا كانت أعدّته جانب السرير، سكبت فيه محتوى القوارير ففاح مزيج من روائح الورد والعطرشاء والنسرين وزهر البرتقال والنعناع البرّي. تناولت نُدفًا كبيرة من القطن وغمستها في إناء المياه العطرية وأخذت تمسح بها الجسد الممدّد على السرير. ولمّا انتهت من ذلك تناولت المنشفة ونشّفته برفق، ثمّ تناولت قارورة عطر برائحة الياسمين ورشّته بها، وبعد ذلك تناولت الكفن الذي أعدّته وأخذت تُلبسه إياه قطعة قطعة تماما كما كانت تفعل معه وهو صغير، وفي الأخير لفّت جسده بقطعة القماش الكبيرة، ولمّا وصلت عند الرّقبة نظرت إليه بتمعّن ثمّ قبّلت جبينه وأرنبة أنفه، وسحبت الكفن على وجهه وربطته عند قمّة رأسه.
فتحت الجبهة الباب فتضوّعت في الجوّ روائح عطرة، لم تعرفها أنوف الحاضرين في الجنائز. نادت ابنها عبد الستار وبعض الشبان، وأمرتهم أن يحملوا الجثمان ويضعوه على النعش الذي كانوا قد أحضروه ووضعوه وسط الساحة. دخلوا، رفعوا الجثمان المسجّى وخرجوا به. مدّوه على النعش الخشبيّ وأصوات التكبير والتوحيد تتعالى. رفعوا النعش على الأكتاف وساروا باتجاه الباب والنواحُ والعويلُ يشتدّ ويرتفع إلا “الجبهة” تسير خلفهم صامتةٌ كجبهةٍ صامدةٍ.
خرج المشيّعون في اتجاه المقبرة، ووقفت الجبهة عند الباب الخارجيّ تشيّعه بالعين والقلب، وقد صاحت في النائحات بالكفّ عن البكاء، فران صمت ثقيل مطبق، ثمّ أطلقت ثلاث زغرودات قيل، فيما بعدُ، إنّ صداها سُمِع في أطراف البلدة وظلّ يتردّد في أرجاء المقبرة لثلاث ليال. وفيما كان موكب الجنازة يبتعد، كان أنف الجبهة الواقفة في الباب يقطر دما كأنّها تلقّت عليه لكمة كسرته. وحدّث بعض المعزّين هناك بأمر غريب وهو أنّ الدّم النازف بغزارة من أنفها كان يسيل إلى حدود رقبتها ويختفي هناك بلا أثر.
ولمّا رجع المشيّعون من المقبرة أخبروهم بالأمر، فحدّث هؤلاء بما هو أغرب. قالوا إنّهم رأوا بقعا حمراء كالدم ظهرت على الكفن في مستوى الأنف والمؤخّرة. وأنّ هذه البقعَ كانت تزداد اتّساعا كلّما ابتعدوا عن الدار واقتربوا من المقبرة
* قاصة من تونس