*ناصر الريماوي
( ثقافات )
دمشق وقطرات الندى على غصن أخضر بلون العمر مهما طال، ووردة تفوح بلون الحب، تزين مزهرية الوقت، على خرير “بردى”، هذا الأزلي حين يجري حتى بعد رحيلنا ننصب خيمة الذكريات هناك لكل من يأتي بعدنا، للعابرين فوق آثارنا، للتائهين في ظلال الحور لمن غرسوا تحت ظل النهر ناراً لمرة، على مشارف بلدة نائية تطلُ على ضفة النهر تشرب من حشاشة الماء ولا ترتوي… كنت أشرب معها قهوتي.
تبعتها إلى المطبخ، وأخذت أتأملها عن قرب أكثر، وضَعَتْ دلة القهوة على النار، ثم التفتتْ إليَّ قائلة: كالعادة تحبها مُرة.
رددت بالإيجاب بحركة سريعة من رأسي، دون أن أتفوّه بكلمة، كنت خلالها أواصل تأملاتي في شيء من التدقيق وكأني أراها للمرة الأولى.
كانت تبدو مستسلمة لهذه الرغبة، وهذه الابتسامة الهادئة على وجهي لم تترك لها مجالا للتمادي في الحوار، فتؤثر الصمت والانتباه لإتمام صنع القهوة.
ومثلما هي العادة، تبدأ بالترنم بلحن جميل لأغنية لا أعرفها، لحظات قليلة وتكون القهوة قد أصبحت جاهزة، تسبقني إلى قاعة الجلوس الرحبة فأتبعها إلى هناك مرة أخرى، تناولني فنجان قهوتي وهي لا تزال تترنم بذلك اللحن الجميل وأنا أراوح بين التأمل والإصغاء لها طرباً، كنت في كل مرة أحاول الوصول إلى شيء يسكن وراء تلك العيون، علها تكشف عن آفاق مسكونة بخيالات وأسرار، تقبع خلف هذا الصدّ المزمن…
ما أجمل ما تنطوي عليهما من سحر وروعة!
وما أجمل أن تبحر فيهما عبر هذا الوقع الرتيب المتناغم لهذا اللحن المنساب عبر الشفتين، كلّما ضمتا إليهما حافة القدح لترشفا منه، انقطع ذلك الهديل، لتمر لحظات يصبح التوغل فيهما أكثر صعوبة.
رائحة القهوة تصعد إلى أنفي ثم إلى بقية حواسي لتنبه آخر الخلايا التي لم تستيقظ بعد في جسدي.
لم أجد ما أجيبه به عندما أفقت من شرودي وهو يهزني بيده قائلاً: ماذا بك إلى أين ذهبت، أظنّك ذهبت إلى أبعد مما أتصور، اشرب قهوتك قبل أن تبرد، ثم أخبرني إلى أين وصلت.
كيف يمكنني أنْ أتجاوز به كل هذه النقلات الزمانية، لأعيده إلى الوراء أياما وشهورا، أيمكنه أن يحيا معي ولو للحظات وأنا أشتمُّ الرائحة المنبهة القادمة من خلال هذا الركام الكبير لكل تلك السنين؟ وبُعد المكان أيضاً وهو الذي لم يرها ولا لمرة واحدة في حياته، ولم تعبق بها أجواءه…
ارتد إلى الوراء في احتجاج واضح على شرودي في حضرته، مرة أخرى، أظهر الضيق وتمتم بكلمات لم أفهمها، ثم أفصح في هدوء مفتعل: أنا لا ألومك أن يظل قلبك معلقاً هناك في “دمشق”، لكن وأنت هنا بـرفقتي في “عـمـان” ليس أقل من أن يظل عقلك معنا، أما
الاثنان هناك… فلا وألف لا ….
فابتسمت له وأنا أحاول أنْ أوضح: هي القهوة يا صديقي، مرتبطة بداء قديم، تعاودني أعراضه كلما قدم لي أحدهم قدحاً، فسرعان ما ترتقي برائحتها إلى أبعد من أنفي، لتوقظ شيئاً يسكن في أعماق الذاكرة… حيث يكمن الداء.
أجاب وهو يعدل في جلسته فوق كرسيه المعتاد، وكأنه يعي ما أعنيه.
إذن ينبغي بنا العودة إلى الوراء سنوات عدة، إلى أيام الدراسة الثانوية، أما زلت تذكر مقهى (السنترال)؟ أعني مقهى الناصية كما كنت تسميه سابقاً، تصور حتى هذا اليوم ما زال يحيرني سر تعلقك بذلك المقهى!!!
ربما إطلالته المتشعبة، لوقوعه على الناصية مطلاً على تقاطعات عريضة في وسط البلد، وربما بساطته، واحتفاظه الدائم بأجواء كانت تروق لي… ربما.
في دمشق… ألم تجد مقهى بديلا يوازيه في مثل هذه الأمور؟؟؟؟
ماذا أقول له؟ لقد عرفت الكثير من المقاهي بحكم تعلقي بهذه الأجواء وتلذذي الدائم بهذا المشروب المتعدد الألوان الذي ندعوه القهوة، ولكنها تختلف، والسر يكمن في زخم الرائحة، وبالترنم التلقائي أثناء إعدادها، كتقليد حرِصَتْ عليه، وبالشفتين المصبوغتين بحمرة قانية، حين تضمان إليهما حافة القدح، وبلذة التأمل… خفت إن حاولت إطلاعه بأني لا أتلذذ إلا بشربها في ذلك المكان البعيد من تلك الضاحية النائية… ومن صنع يديها… خفت أن يسألني عن الجنة …أهي المقهى البديل؟؟؟
في هذه المرة لم يؤنبني على شرودي، بل اكتفى بهزة من رأسه معلنا انفلات الأمر من بين يديه، وهو يقول في هدوء رزين:
اشـربْ… اشــربْ قهوتـك قبـل أن تبـرد.
____________________
* قاص من الأردن