* محمود الرحبي
يرسل نباحه (طلقتين طلقتين) إلى الرقاب والمؤخرات الهاربة.
كان يدفع الشياه لتخرج من المضيق الذي ينفتح على السرح الممتد بساطا شوكيا أصفر، حيث ستبدأ رحلة المسير الطويل إلى وادي النجوم، أو المرعى الذي سيقضون فيه أيام الليالي البيض بنهاراتها وصمتها.
الراعي انتهز فرصة الصراع بين القطيع والكلب، وانتأى بنفسه
متقرفصا فوق صخرة مستوية اعتاد الالتجاء إليها في مثل هذه المواقف من كل رحلة يشرع في قطعها من قريته ( غرابه) إلى مرعى النجوم.
كشف حزاما جلديا كان يخفيه تحت دشداشته ويوثق به الهاتف الخلوي والإزار الهابط إلى ركبتيه، وأخرج منه صرة تبغ قماشية وفك عقدتها، وبأصبعيه السبابة والإبهام رفع مضغة وأسكنها تحت لسانه ثم شرع في تأمل بقية المشهد أمامه.
كان الكبير منها يعرف طريقه من نبحتين فيجر قوائمه المسرعة دون تردد ويغوص في فتحة المضيق، بينما الأصغر قليلا تكون مشاكسة ولا تعير للنباح بالا إلا حين يلح عليها الكلب وهو يدور حول آذانها يمنة ويسرة إلى أن تجفل وكأنما سمعت النداء متأخرة وتشق طريقها من بين الفرجة الصخرية. بينما الرضيعة والتي لم تعتد بعد على فهم معاني نباح الكلب، فإنها تدور حول نفسها حائرة قبل أن تفطن إلى جادة المضيق .
وحين أنهى الكلب مهمته، اعتراه القلق على قطيعه الذي اختفى عن مرمى بصره، ولم يبق منه سوى ثغائه وهو يصل ضعيفا من خلف الجبال، فانثنى راكضا إلى حيث يجلس الراعي، وهو يطلق النباح من حلقه القلق ( أربع طلقات. أربع طلقات). لم يستجب الراعي في البداية، فوثب إليه الكلب وجره من طرف ثوبه، فرفع الراعي عصاه وهو ينهض، والكلب ركض أمامه كي يلاقي القطيع ويجمع تبعثره في مرامي الوادي.
كان السرح القاحل ممتدا وتلتقي نهاياته الواضحة بالأفق، وباستثناء الأشجار الشوكية التي تسمق معزولة عن بعضها، تنبطح تحتها ظلال قصيرة ونثار بعر يابس، فلا يوجد أثاث يذكر. حيث تنبو الصخور ذات الأغلفة الصفراء القاسية، وينام الغبار الذي لا يلبث وأن يصّاعد ثائرا إثر أدنى لمسة من قدم أو حافر. و تسمق الجبال برؤوسها المسننة التي أضاءتها شمس الصباح، وفي صدورها تنفتح جروف أزلية، كأنما مخابئ للظلال، حيث تُرى أعماقها مظلمة حتى في قيض الظهيرة.
الكلب أبطأ في سيره وأخذ يراقب الشياه من بعيد وهو يترنح يمنة ويسرة كأنما ليقيس – من الجانبين – المسافة المطلوبة لسير قطيعه.
لم يكن الراعي يحمل سوى مزودة جلدية بها تمر وماء يعلقها على ظهره، وعصى يتأبطها أو يلوح بها حين تدفعه النشوة لأن يزجر بأغنية تخرج كلماتها واضحة من بين شفتيه وكأنها تتمرأى في ذلك السكون الصافي الذي لا يطوقه شيء.
ثم يتقرفص قليلا ليمضغ تبغه، تاركا القطيع يتمدد بحرية ليتدبر بنفسه أمور الطاقة المحركة لمسيره، حيث تجود بين فينة وأخرى بعض الأشجار الشوكية بغصن واطىء يمكن للشياه تسلقه وهي تدلي أثداءها التي تتخاطف عليها الصغار وتمص في جرعات عشوائية سريعة ما تبقى في جوفها من حليب. أو تجود الأرض بعشبة ملقاة على قارعة الطريق لا يلبث القطيع أن يتزاحم عليها ويمسحها من سطح البسيطة .
الطريق طويلة وهناك وقت كاف لكل شيء، حتى للالتفات مليا للوراء حيث يتسلى الراعي بمراقبة المسافة التي قطعها، والنظر إلى هيئة الجبال العارية وراءه، والتي تناطح الشمس، والرقصة الصامتة للزوابع وهي تكنس الأرض وقواعد الجبال وتسحب في طريقها ما صادف من لحاءات شجر وأغصان ميتة ستكبر الزوبعة بسببها ويكبر ظلها الذي تجره وراءها في عبورها السكران إلى أن تتوارى مبتعدة عن مدى النظر.
الطريق الطويل لا يحمل أكثر من معنى الوصول وبأقل جهد، حيث أن المكان ومسافته محددان سلفا في ذهن الراعي، وذلك بسبب تعوده على اجتيازه كل شهر جيئة وذهابا، ما أن يكمل القمر دورانه.
يتقدم الراعي بعينيه الضيقتين ووجهه الصارم ذي القسمات الخشنة المتصلبة كقناع في وجه الشمس.
وفجأة سمع نباحا متواليا من حلق الكلب، الذي كان يقف تحت شجرة شعثاء ورأسه مرفوعا وهو يرسل نباحه بغضب وبطلقات عالية متوالية ( خمس طلقات، خمس طلقات)، فغذ الراعي خطاه ناحية تلك الشجرة، ليجد في أعلاها بومة كانت تنظر بتحد واستفزاز إلى الكلب وبدون أن تبدي أدنى تأثر من نباحه الغاضب، وحين حرك عصاه ناحيتها طارت مبتعدة .
ثم رفع طرف دشداشته، ومن بين المساحة الضيقة لبطنه وصرة الإزار، استل هاتفه الخلوي، ومسح بكمّه العرق والشعر الملتصقين بمينائه، ثم أدخل رقمه السري وكتب: ((تحركوا الآن)).
فقد اقترب هو وقطيعة من مرعى النجوم الذي سينيخون فوق بساطه الرطب طيلة أيام الإشراق القمري. وفي هذا الوقت من كل شهر، ترعى الشياه بصورة كافية وتسمن مطمئنة لضوء القمر الوافر الذي سينير الظلام ويكشف أي خطر قادم يكون مصدرة الزواحف والضباع والذئاب التي ترسل أصواتها من بعيد. وهنا يكون نباح الكلب وقلقه ورشاقتة وثباته على أشدها.
فمرعى وادي النجوم، بالإضافة إلى امتلائه بالعشب طوال العام، حيث تنبس من الأرض ينابيع هزيلة بالكاد ترى حتى أنها دون الحصى في ارتفاعها، ولكنها أزلية في تدفقها وكافية لأن تنبت حصرا خضراء من العشب اللامع الذي تنكب عليه الماشية طوال الوقت وكأنها لتروي جوعا لا يهدأ. وهو كذلك مكان خال تقريبا من تلك الحجارة القاسية المصبوغة بالغبار، كما أن جو المكان، بسبب تلك المياه، يكون معبأ برطوبة باردة تبث راحة في النفس وتجعل من المكوث الطويل محتملا.
* * *
في تلك اللحظة التي وصلت فيها الرسالة، كنت ارتشف من ثمرة السفرجل الناضجة التي قدمتها لي زوجة أخي وكأنما أرتشف رشفات بطيئة من كأس، بينما كانت نظرتي ملقاة على أطراف أصابع قدمي، حين نبهني رنين الهاتف من شرودي لأرمق الأظافر التي نسيت تقليمها وقد ذكرتني حوافها المشققة بمخالب النسر.
صور متتابعة من معركتي تلك عبرت في توال سريع مع كل جرعة أتجرعها من تلك السفرجلة/من ذلك الكأس الأخضر.
مخالب النسر المغروزة في كتفيّ وهو يحاول رفعي إلى السماء، ثم رقصة المذبوح المترنحة بعد أن جززت رأسه بجرة من سكيني، ليسقط جسده الضخم هاويا أمام قدميّ، وقد ظلت نظرتاه جامدتان للحظات في رأسه المفصول عن جسده والمحصور بين جماع قبضتي المنتصرة وكأنما ليتجرع ويستوعب هزيمته، بعد أن كان شامخا فوقي بكامل قامته وحرابه الحادة.
وقد حدثت هذه الواقعة منذ عامين تقريبا، وكان القمر مكتملا حينها، ولم يكن غيري في البيت، حيث شق أخي طريقه إلى مرعى النجوم، حينها قررت أن أهزم النسر. فبعد أن تعبت قريتنا( غرابه) والقرى المتاخمة لها، من غزوات النسر الذي كان يمخر سماءنا بحرية بين حين وآخر ويسرق ما صادف في طريقه من دجاج ومواش صغيرة وكل ما تحرك تحته وخف وزنه، وقد ضاق أهل القرى ذرعا به، فما أن يأتي عابرا السماء إلا ويهرع الصبية زاعقين منبهين من قدومه، حيث سيخفي الأهالي أطفالهم وحيواناتهم، بعد أن كانت آخر غنائمه طفلة رضيعة. وقد حدث ذلك في قرية ( جدرمانه) المجاورة لقريتنا، حين انسلت الطفلة خارجة عن محيط أهلها في لحظة الغداء، فهجم عليها النسر وخطفها. وفي اليوم التالي قررت أن أنتقم، فحملت سكينا وغدوت إلى طرف القرية، وعلى ربوة غير بعيدة عن الطريق الذي اعتاد أن يسلكه النسر، جلست مستندا على صخرة وأنا أشحذ السكين بطرفها، وعينيّ لا تفارقان السماء .
أربعة أيام قضيتها منتظرا، وكنت حين يحل المساء وتدكن الرؤية، أعود إلى بيتنا لأتعشى وأنام وأنا أحلم بتفاصيل جديدة عن المعركة التي لم يستطع خيالي القلق فوق الرابية أن يرسمها. ثم أشق منذ الفجر طريقي عائدا إلى أرض المعركة. وفي اليوم الخامس، وكان الوقت ضحى، حين ظهر النسر مبحرا في السماء وهو يقترب من محيط قريتنا؛ حيث بدى كنقطة سوداء ما برحت معالمها تتسع، فانكمشت على جسدي راسما وضعية الجنين لتمويه النسر بإشارة خادعة أو صورة جامدة تحمل معنى أني لست سوى طفل صغير أو صيد سهل، وذلك حين أخفيت جميع أطرافي تحت جسدي.
دار النسر عدة دورات في السماء، وكنت ألمحه بطرف عيني، ثم اقترب وقد أسقط ظلا كبيرا من حولي، وكانت هجمته مباغته وهو يغرز مخالبه في لحمي ليرفعني، و دار بيننا صراع عنيف، ثم فاجأته بحجمي وأنا أقف لأتناول رقبته من خلال غابة الأجنحة التي كانت تحيطه كحرس. نهش بدوره جلدي وغمس مخالبه الحادة في رقبتي وطعن رأسي بمنقاره، ثم وفي لحظة مباغتة، عبرت كما يعبر طيف في حلم، أخرجت السكين المسنونة من خصري وجززت الرأس الصغير ثم قربته من عيني وأطلقت نظرة انتصار في عينيه المشدوهتين وهما تنوسان بين وجهي والسماء حيث أسلمتا النظرة الأخيرة .
ظللت طريح الفراش أياما وقد شارفت على الموت. كانت رقبتي وكتفيّ تشتعلان بالألم، ولكني تحولت في نظر أهل القرى إلى رمز للشجاعة. زارني الكثيرون وحملوا هدايا ومواشي ودجاجا وتمرا، وتحول اسمي من سالم إلى الذيب، وهكذا سيكون اسم أبنائي من بعدي ( أبناء الذيب) وسيسمى كل من سيخرج من صلبي وصلب سلالتي ببيت الذيب. فرسم لي اسم جديد بسبب تلك الواقعة ونسي إسمي الحقيقي نهائيا ولم يعد أحد ينطق به. كانت تلك مكافأة قدمتها لي قريتي والقرى المتاخمة على انتصاري على النسر، الذي دار رأسه بين القرى قبل أن يعود إليّ لأعلقه في رف معتم بغرفتي، وأجده بعد أيام وقد غزاه النمل وأكل حتى تلك العينين اللائي أتذكر معنى بريقهما جيدا .
أخرجت الهاتف من جيب دشداشتي وقرأت رسالة أخي ثم كتبت الرد:
( مرحب ..سننطلق بعد قليل).
كانت زوجة أخي قد أعدت مؤونة الرحيل، وربطت الخيمة والحصير والأفرشة والملاهب السعفية وأواني الطعام وقصدير اللحم المقدد وعتلة التمر وسلة الخبز المغطاة بخرقة ناصعة البياض، كما سدت بالفلين فخاريات الماء المنداة، وبدوري رفعت كل ذلك إلى المؤخرة الصفيحيّة لسيارتي البيكاب ووثقتها جيدا.
وفي الطريق المسفلت الذي يمتد طويلا تحت أقدامنا، أخرجت زوجة أخي من صرة كانت تحملها، خرقة دائرية بيضاء وشرعت في إشعالها بالنجوم*.
كان أخي يأخذ مع شياهه طريقا علويا طويلا، وحين يكون على مشارف وادي النجوم، يرسل في طلبنا برسالة من هاتفه؛ ونكون نحن قد أعددنا العدة لتلك الرحلة التي لا تأخذ مني بالسيارة سوى ساعتين ونصف، بينما يشقها أخي منذ الفجر وحتى مشارف العصر هو وشياهه وكلبه. وكان أخي اعتاد أن يذهب إلى هناك ما أن يكتمل القمر في السماء، فأشعته هي من تضيء له لياليه البيض، وكان حين يقترب من مرعاه، أقوم أنا بحمل زوجته ومؤونة تلك الأيام التي سيقضيها، بسيارتي البيكاب، وحين نصل فإننا ننصب الخيمة ونفرش الحصيرة، ثم تطبخ زوجة أخي العشاء وحين نأتي عليه، أتركهم هناك وأعود وحيدا إلى ( غرابة).
شقّت الإبرة طريقها البطيء في تطويق النجمات الخيطية ، فما أن تنتهي من إشعال إحداها إلا وتنزع مقصا من صرتها وتقطع نهاية الخيط ثم تبدأ في رسم نجمة أخرى. وكانت هذه الكوفية تظل في صرتها أياما وأحيانا أشهرا، ولا تخرجها زوجة أخي إلا لمداعبة الصمت في أوقات فراغها، كما يحدث الآن في طريقنا إلى زوجها. بطنها بارز في حملها الأول، تستخدمه في هذه اللحظة كمسند مناسب لأدوات خياطتها، فلا تخفي المقص في صرتها حين تنتهي منه بل تضعه في إحدى زوايا كرشها، الذي غدا صحنا للخيوط والخرق وعدة الإبر.
أخي تزوج منذ عامين، وها هو ينتظر مولوده الأول الذي يتمناه صبيا ليساعده في حياته. وإن جاءته بنت فإنه سيستنفر أمله في ولادة مقبلة. وإن زاره ولد فإنه سينتظر أن يردفه بولد آخر. وهكذا ستظل زوجة أخي تحمل في بطنها كل عام مولودا، فهذا قدر الفتيات في هذه القرى الجبلية حيث أعيش، وهن مع ذلك قد استمرأن هذا القدر وتعاملن معه كشيء لابد منه، أو كشيء لا يثير فيهن أدنى اهتمام أو سؤال، فهو جزء ليس فقط من طبيعتهن البشرية التي توارثنها، إنما كذلك من طبيعة المكان الذي يفرض قوانينه الصارمة بدون ضجيج.
وقفت لأملأ خزان الوقود الذي كان مؤشره يتقد منذ انطلاقنا، وفي هذه السانحة خرجت لأشتري قنينتي عصير من حانوت قريب، وحين رجعت رأيت زوجة أخي وقد أرخت يديها عن عدتها ورفعت رأسها منتظرة العصير البارد.
في قريتنا لم تصل خطوط الكهرباء بعد، لذلك فإن أول ما نفعله مع قناني العصير الباردة – كما يحدث الآن- هو أن نتحسس درجة برودتها. وإذا كان الطقس حارا، فإن أول ما نفعله هو الاستفادة قدر الإمكان من تلك البرودة او ما تبقى منها، فأخفت زوجت أخي العلبة، بعد أن أفرغتها، تحت لفاعها. حيث صدرها المعروق، وألصقت ما تبقى من برودتها بقلبها الخافق، وأنا ملست بالعلبة الباردة جبهتي ورقبتي المعروقة قبل أن أقذف بها .
* * *
كنا صغارا حين مات أبي. لم يره سوى أخي الذي رسمه ذات يوم بالفحم على جدار بيتنا الطيني، فظلت صورته معلقة هناك حتى اليوم. أبي ترك لنا قطيعا كبيرا من الأغنام كانت أمي ترعاها قبل أن تلتحق به، ثم جاءت زوجة عمي من قرية (هندروت) لترعانا، وكانت تأخذنا على ظهر حمار وضعت في أحد خرجيه ماء وتمرا وفي الخرج الآخر كتبنا؛ حيث كنا نقطع طريقا طويلة إلى المدرسة التي بنتها الحكومة لجميع تلك القرى المتشابكة. وفي الفصل كنا نجلس صامتين أنا وأخي، فرغم أنه يكبرني بعامين إلا أننا وضعنا في نفس الفصل حيث لا يوجد سوى أربعة فصول في تلك المدرسة وقد انهينا ثلاثة منها طيلة ثلاث سنوات. وحين بدأنا نجمع الحروف في معان واضحة ونقرأ شيئا من جزءي عمّ وتبارك، اكتفت عمتي بهذا القدر ولم تعد تحملنا إلى المدرسة. بل كانت تصحبنا بدل ذلك للمرعى لنتعلم كيف نهتم بشياهنا. وحين كبر أخي وبلغ الحلم، زوّجته ابنتها ورجعت إلى بيتها. بعد ذلك استلم أخي زمام القطيع، ثم تلقنت فنون قيادة السيارات على يد شقيق زوجة أخي الذي كان يأتي قاصدا بسيارته (الزنوبة) كي يعلمني، وهي نفس السيارة التي زفّت فيها زوجة أخي من قبل، ثم قادني إلى (ولاية إبرا) لأختبر قدرتي على القيادة على يد شرطي هناك، حين نجحت منذ الاختبار الأول.
فرحنا بذلك النجاح أكثر حين ذهبنا أنا وأخي إلى العاصمة لنشتري سيارة. وفي الطريق حلمنا باقتراب الأعياد التي سوف نحمل فيها رؤوس الماشية ونرصفها في مؤخرة سيارتي لنبيعها في الأسواق المتاخمة لقريتنا، أو نأخذها إلى (مطرح) حيث يمكن أن تباع بسعر أعلى، وبدون مجادلات كثيرة. ثم اشترينا السيارة وهاتفين خلويين. ونحن نأكل السمك على شاطئ مطرح وقد وضعنا هاتفينا في ثقوب شحن كهربائية، أكملنا حلمنا، فبالإضافة إلى ما سوف نجنيه من تربية وبيع المواشي، فسوف نأخذ معنا كذلك كل ما خاطته زوجة أخي من كوفيات، ونعرضها بسعر جيد.
وفي طريق أوبتنا وقفنا في سوق (فنجا) لنتعشى وأكملنا أحلامنا وجددنا شحن هاتفينا اللذين سيظلان مغلقان أياما كاملة ولانفتحهما إلا في مثل هذه الضروريات التي يكون الخلوي فيها الوسيلة الوحيدة للتواصل من بعيد، وذلك عندما يختفي أخي هو وقطيعه شاقين طريقهم إلى مرعى النجوم، وحين يزف المساء كنت أفتح ميناء هاتفي وألقمه الأرقام السرية انتظارا لرسالة أخي المبشرة بوصوله، ونكون حينها قد أعددنا عدتنا، وقد حملت له حتى زوجته ليمكثا هناك أربعة أيام، أعود إليه في نهايتها لأرجع زوجته والأوعية الفارغة، ويشق هو طريق عودته الذي جاء منه بصحبة قطيعه.
* * *
أزيز السيارة الذي يصاحبها كلازمة، والذي جعله الثقل وبطء السرعة عاليا، كان يكسر حدة الصمت في ذلك الطريق، حيث أنني لا أضغط كثيرا على دواسة البنزين بسبب ما أحمله من جرار ماء وأوان في الخلف. أخذت أتحسس بطرف الدواسة ظفر إبهام رجلي الذي نسيت تشذيبه. أضغطها به فيستقيم الأمر. أبتسم في داخلي منتصرا لكل هذا الحجم الضخم الذي يتقدم في الشارع بفضل تلك الزائدة الميتة التي أنوي قطعها ما أن أصل إلى مرعى النجوم.
بدأ المساء يهطل والقمر المكتمل الذي كان يتبعنا استقر في كبد السماء، ليرمقنا من هناك بعينه الواسعة وينعكس على زجاج السيارة. والنجوم التي بدأ الضوء الواضح للقمر يخفي ملامحها، لم يعد يبدو منها سوى آثارها الباهتة وكأنها تركت – مؤقتا – مكانها لتذهب في عطلة كونية لن تعود منها إلا بعد أن يضمر القمر وتخفت سطوته.
سوف ألتقي اليوم براية تحت رأس شجرة الحب .
(راية) هي أخت تلك الرضيعة التي أختطفها النسر. فما أن رأى أبوها رأس النسر وقلّبه بين يديه، إلا وسعى في إثري ثم دعاني في بيته عدة مرات، وهناك تعرفت على راية وتبادلنا النظرات ثم اختلسنا لحظات عابرة لنتحدث. فاكتشفنا شجرة سفرجل بعيدة عن الأنظار خلف تلة مرتفعة وأسميناها بشجرة الحب.
في لقائنا الأول قالت لي بأنها تتمنى أن أصير شرطيا، وفي آخر لقاءاتنا كانت تتمنى أن ترى عضلات جسدي التي استطعت بها أن أهزم النسر. وقد مسدت حالمة رقبتي، كان كفها ناعما وأحسست به يشعل قلبي، ثم سحبت يدها بسرعة وركضت هاربة إلى بيتها.
خف أزيز السيارة حيث خفت سرعتها، ولمحنا من بعيد الكلب مستلقيا في عرض الطريق، نهض ما أن لمحنا وشرع ينبح ويحرك ذيله طربا.
كان أخي يحمل في يده حزمة حطب جمعها من أماكن متفرقة من الوادي، ثم قذفها حيث يجب أن تنصب الخيمة.
فاعتكفنا على معالجتها ودفن أسنة أطنابها في بطن الأرض، وفرشنا الحصير بداخلها ورتبنا عليه المؤونة، ثم تمدد أخي وقد أخرج رجليه الحافيتين من باب الخيمة، وشرعت زوجته في إعداد الطعام. كان القمر حينها قد تربع على عرشه في كبد السماء، وبدأ من هناك يسيطر على الكون بضوئه المسالم الذي يضفي مسحة من الحنين على كل ما يقع عليه. والشياه بدأت تتناوم كيفما اتفق، بعد أن أشبعت بطونها من المرعى الذي يمتد كبساط أخضر محفوفا بصخور لامعه بفضل الماء الذي يتدفق من تحتها دون انقطاع. كما شرعت الضفادع والجداجد في إرسال غناء ليلي لن تفتر وصلاته حتى حدود الصباح. وأنا أخذت ذلك المقص الذي كانت زوجة أخي تقطع به خيوط نجومها، وانتأيت جانبا، ثم شرعت في قص أضافر قدمي وأنا أتذكر يد راية التي حركت قلبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تنجيم كوفيات الرأس هي عادة عمانية، تعتبر عملا جانبيا ضمن ما تقوم به فتيات القرى من أشغال، حيث يرصعن خرقة بيضاء بدوائر ملونة تسمى نجوما تتوج بها رؤوس الرجال والصبية.
_____
*قاص من عُمان/نزوى