* ترجمة: لطفية الدليمي
عقد محرران في مجلة ( باريس ريفيو ) الذائعة الصيت حوارا مطولا مع الكاتبة الكندية ( أليس مونرو ) قبل قرابة العقدين من فوزها بجائزة نوبل ، وقد رأيت أن أنقل هنا بعضا من أجزاء الحوار التي أراها الأكثـر دفئا والأبعد عن الجزئيات المكتظة بالتفاصيل التقنية لأعمالها القصصية، كما أن هذه المقتطفات تكشف بعض ملامح من عالميها القصصي والنفسي على حد سواء..
ليس ثمة من رحلة طيران مباشرة بين نيويورك و مدينة كلينتون ( ذات الثلاثة آلاف نسمة ) في مقاطعة أونتاريو الكندية حيث تقضي أليس مونرو معظم أيام السنة ، غادرنا مطار( لاكارديا ) مبكرا صبيحة يوم حزيراني و استأجرنا سيارة باتجاه تورونتو، ثم مضينا في رحلة امتدت لثلاث ساعات في طرق كانت تغدو مع الوقت أكثر ضيقا وأقرب إلى الطرق السائدة في الريف الكندي الفائق الجمال، و مع الغسق وصلنا إلى المنزل الذي تقيم فيه أليس مع زوجها الثاني ( جيري فريملين ) .
للمنزل ساحة خلفية شاسعة مع حديقة أزهار تتوسط الفناء ، و هو المنزل ذاته الذي ولد فيه ( فريملين ) كما حدثتنا أليس التي وجدناها منشغلة في المطبخ بإعداد وجبة من الأعشاب المحلية العطرية الرائحة ، كانت غرفة الطعام مليئة بالكتب من الأرضية و حتى السقف في أحد جوانبها ، و هناك في الجانب المقابل منضدة صغيرة عليها طابعة يدوية حيث اعتادت أليس أن تكتب …
أليس مونرو التي وصفتها ( سينثيا أوزيك ) بأنها ( تشيخوف عصرنا ) الذي ستخلد أعماله أكثر من أي كاتب من معاصريه.
الحوار:
* زرنا هذا الصباح المنزل الذي نشأت فيه . هل قضيت طفولتك كلها في ذلك المنزل؟
نعم . عندما توفي والدي كنت لا أزال أقيم في ذلك المنزل القائم وسط مزرعة لتربية الثعالب و حيوانات المنك Monk ( المنك : حيوان يستفاد من فرائه لصنع المعاطف الثمينة ، المترجمة ) . أما الآن فقد تغير الحال تماما ، فهناك مركز للتجميل يشغل الجناح الخلفي من المنزل كما تمت إزالة المطبخ بالكامل .
* و هل حدث أن زرت منزلك ذاك منذ أن غادرتِه ؟
كلا لم أفعل ، و لكن لو طلب مني زيارته لفكرت فورا في زيارة غرفة المعيشة حيث المدفأة Fireplace التي بناها أبي هناك ، أفكر أحيانا بالذهاب إلى مركز التجميل للعناية بأظفاري .
* قلت لنا في سياق حديثنا أن أعمالك لا يراها أحد من الأصدقاء إلا بعد أن تكتمل .
نعم صحيح تماما ، أحرص أن لا أعرض أعمالي قبل اكتمالها على أي أحد.
نعم صحيح تماما ، أحرص أن لا أعرض أعمالي قبل اكتمالها على أي أحد.
* كم تعتمدين على المحررين في أعمالك؟
كانت (النيويوركر) هي تجربتي الجدية الأولى مع عالم التحرير و المحررين ، و قبلها لم تكن العملية سوى كتابة بضعة اقتراحات ، و ليس أكثر من هذا , ينبغي دوما أن يكون هناك نوع من اتفاق بيني و بين المحرر حول نوع العمل الذي يتوجب أداؤه . أقول بوضوح : ينبغي للمحرر أن تكون له عين ثاقبة تجاه الوسائل التي يمكن لي من خلالها أن أخدع نفسي .
* و كيف تتواصلين في العادة مع محرريك : عبر الهاتف أم البريد الإلكتروني؟
عبر البريد الإلكتروني غالبا ، على الرغم من أننا قد نتناول أحاديث مثمرة عبر الهاتف ، لكني لم التق ِ محرري أعمالي إلا بضع مرات.
* متى بدأت النشر أول مرة في النيويوركر؟
كانت ” الهزائم الملكية Royal Beatings ” هي قصتي الأولى التي نشرتها في النيويوركر عام 1977 ، و بالرغم من أنني اعتدت إرسال قصصي المبكرة منذ الخمسينيات إلى النيويوركر لكنني أحجمت لاحقا عن إرسال أي من قصصي اللاحقة اليها، و اكتفيت بإرسالها الى مجلات كندية ، مازلت أذكر حتى اليوم واحدا من ردود النيويوركر على قصصي و التي لم تثبط عزيمتى على نحو قاتل :” أنت تكتبين بشكل جميل ، لكن ثيمتك تبدو مألوفة إلى حد بعيد ” ، كانت قصتي كذلك في الحقيقة، إذ كانت تحكي قصة علاقة رومانسية بين شخصين مسنّين : امرأة عانس و مزارع ، ثمة الكثير من العوانس المتقدمات في السن في معظم قصصي ، كتبت هذا عندما كنت في سن الخامسة و العشرين ، و لا أدري ما الذي دفعني لكتابة شيء كهذا و أنا في ذلك العمر المبكر .
* تزوجت و أنت شابة ، مع أنك كنت تتوقعين أن ينتهي بك المطاف عانسا مسنّة ؟
تلك مسألة أخرى تماما .عندما أكتب عن العوانس المتقدمات في السن فإنني أكتب من أعماق قلبي كما لو كنت واحدة منهن .
*هل كنت تكتبين دونما توقف منذ بداياتك ؟
نعم منذ سنتي المدرسية السابعة أو الثامنة ..
*هل كنت كاتبة جادة حين دخولك الجامعة ؟
نعم ، فلم يكن لي ثمة سبيل آخر لأنني لم أكن أملك مالا . كان بإمكاني الحصول على منحة دراسية و بحسب النظام السائد آنذاك لم يكن بوسعي الحصول على المنحة إلا لسنتين دراسيتين . كانت سنوات الدراسة في الكلية أجمل سنوات عمري ، لأنها أتاحت لي التخفف من التزاماتي المنزلية الثقيلة التي ألقيت على عاتقي منذ سنوات يفاعتي المبكرة .
* و هل تزوجت مباشرة بعد إكمال سنتيك الأوليتين في الكلية ؟
نعم تزوجت بعد إكمالي السنة الثانية من الكلية ، كنت في العشرين آنذاك ، و قد ذهبنا وقتها الى فانكوفر ، يمكنني القول إن الزواج أتاح لي تلك الميزة العظيمة التي أعدها مغامرة كبرى : تلك هي القدرة على الحركة و التنقل .
* هل كنت تكتبين طيلة فترة زواجك؟
كنت أكتب تحت ثقل شعور طاغ باليأس طيلة الوقت الذي كنت فيه حاملا لأنني كنت أعرف أن الوقت الكافي للكتابة لن يكون متاحا لي بعد الولادة .
* هل هناك وقت محدد أعتدت الكتابة فيه ؟
عندما كان أطفالي صغارا ، كان وقتي المفضل للكتابة مباشرة بعد مغادرتهم الى المدرسة ، لذا عملت بجد طيلة سنوات دراسة أطفالي .كنا أنا وزوجي نملك مخزنا لبيع الكتب ، و حتى في الأوقات التي كنت أعمل فيها في المخزن كنت ابقى في البيت حتى الظهر ،فالمتوقع مني أن أنجز أعمالي المنزلية ، لكنني عوض ذلك كنت أنغمس تماما في الكتابة .
* لطالما أراد تشيخوف كتابة رواية كان يتوق أن يسميها ( قصص من حيوات أصدقائي ) ، فماذا عنك؟
أعلم هذا ، و أنا على دراية بذلك الشعور المبهج الذي يتملكك عندما تضع كل خبرات البشر الذين تعرفهم في حزمة واحدة .
* عندما تشرعين في كتابة قصة ، هل تعرفين الى أي مآلٍ ستنتهي ؟ و هل أن حبكتها واضحة المعالم لك تماما منذ البدء؟
لا أبدا ، إن أية قصة ترمي لأن تكون عملا جيدا – بأي شكل من أشكال الجودة – هي حتما عمل يتغير باستمرار أثناء الكتابة .
* هل تستخدمين دفاتر ملاحظات؟
لدي أكوام من دفاتر ملاحظات تحتوي مسودات كتابات خرقاء إلى درجة لا أكاد أصدق أنني أنا من كتبتها ، و كم أندهش عندما القي نظرة على المسودات الأولية لأعمالي و أتساءل : هل كان هناك هدف ما وراء كتابة هذه الأعمال ؟ أنا أقف في الجهة المعاكسة تماما للكاتب الذي يرى في الكتابة نوعا من ( الموهبة المباشرة ) التي يراد منها ان تعمل مثل مضخة للأفكار الجاهزة .
* و كيف تدركين أنك في المسار الخاطئ؟
عندما أشعر بنوع من الممانعة الفظيعة للاقتراب من العمل ، أو بنوع من الإكراه على فعل الكتابة ، أفهم حينذاك أنني أكتب كتابة سيئة ، و في الغالب فأن في ثلاثة أرباع ما اكتب توجد نقطة أشعر بعدها أن ليس من سبيل لمواصلة ما أكتبه ، و عندها ينبغي أن أرمي ما كتبت جانبا .
* على مستوى ثيمة العمل ، كيف تفهمين ما تقومين به؟
الحق أن ذلك لا يحصل بطريقة واعية ، يمكنني دوما أن أرى السبل التي يمكنها ان تقود العمل في مسالك خاطئة ، أنا بطبيعتي أرى الأمور السيئة أسهل بكثير مما يمكنني رؤية الأمور الجيدة ، بعض القصص لا يمكنني الاشتغال عليها بصورة جيدة مثلما أفعل مع قصص أخرى ، كما أن بعض القصص يمكنني أن أقول عنها أنها أخف ( وطأة مفاهيمية ) من بعضها الآخر .
* أخف وطأة ؟؟؟ ما قصدك بهذا؟
أقصد أن بعض القصص تبدو أخف وقعا عليّ لأنني لا أشعر بالتزامات ثقيلة الوطأة تجاهها ، عندما كنت أقرأ في السيرة الذاتية لـ ( موريل سباركس ) وجدتها تظن ان الله هو المؤلف الحقيقي بسبب من عقيدتها المسيحية الكاثوليكية ، و أنه لا ينبغي لنا أن نتجرأ على سلطة الله الكلية ، و أن نكتب في حدود ما يفيد في فهم الحياة التي نعيش ، أعتقد إنني أكتب أحيانا قصصا أرمي منها أن تكون باعثة على التسلية فحسب .
* هل ثمة من أمثلة ؟
أظن أن عملي ( فندق جاك راندا Jack Randa Hotel ) الذي أحبه تماما يمثل عملا يرمي الى بعث التسلية ، و أنا أريده كذلك تماما ، لكن قصة مثل ( صديق شبابي Friend of my Youth ) لا يتجه إلى التسلية حسب ، بل يشتغل على مستوى الغوص في أغوار سحيقة .
* مع أنك كثيرة الأسفار غير أن أعمالك تبدو أساسا مشبعة بحساسية ريفية . هل تجدين الحكايات التي تدور في مجتمعك الريفي اكثر تناغما مع ما تحبين سرده في أعمالك ؟
عندما تعيش في مجتمع صغير تسمع أشياء اكثر حول كثير من الناس . في المدينة تسمع أشياء فقط عن أناس هم على شاكلتك . و متى ما كنت امرأة سيكون متاحا لك سماع الكثير من الأصدقاء. أن حياتي في أرياف ( فكتوريا ) جعلتني مختلفة تماما ، فقد حصلت مثلا على فكرة أحد اعمالي من ملابسات حادثة قتل و انتحار حقيقية لثنائي في الستينات من العمر. لو كنت أقطن مدينة لما تسنى لي أكثر من القراءة عن الحادثة في الصحف ، و لما كان بإمكاني التقاط كل خيوط الواقعة مثلما فعلت .
هل كنت قارئة نهمة منذ بدأت القراءة؟
القراءة كانت كل حياتي حتى بلغت الثلاثين . كنت أعيش في الكتب . كتاب الجنوب الأمريكي كانوا أوائل من أثاروا روحي لأنهم أبانوا بوضوح أن بوسع المرء أن يكتب عن البلدات الصغيرة ، و الناس الريفيين ، و ذلك النمط من الحياة الذي كنت أعيشه و أعرفه تماما، لكن ما أثارني أكثر هو أن معظم هؤلاء الكتاب الجنوبيين و الذين أحببتهم بحق كانوا من النساء .
* هل ترين ان ثمة توسع كاف في أقسام الكتابة الإبداعية هنا في كندا بالقياس إلى الحالة السائدة في الولايات المتحدة ؟
لا أرى توسعا بالقدر الكافي ، و لا أظن أن لدينا في كندا ما يماثل قسم الكتابة الإبداعية في جامعة ( أيوا Iowa ) مثلا ، لكن في الأقل توجد وظائف للتدريس في أقسام الكتابة الإبداعية رغم إنني أشعر و لو لبرهة بالأسف لعدم مقدرة هؤلاء التدريسيين على نشر نتاجاتهم.
* لم نسألك للآن حول طقوسك الكتابية . كم يوما في الأسبوع تعملين فعليا؟
أكتب كل صباح ، سبعة أيام في الأسبوع . أبدأ الكتابة منذ الثامنة صباحا و انتهي قرابة الحادية عشرة ، ثم أنصرف لأعمال أخرى لبقية اليوم مالم أكن منشغلة بإعداد مسودة ختامية لأحد أعمالي حيث يمكن لي أن أعمل طوال اليوم مع فترات استراحة قصيرة .
* كم تمشين في اليوم؟
ثلاثة أميال يوميا ، لذا إذا كان علي أن أفوت يوما فينبغي أن أحسب للأمر حسابا كبيرا . والدي كان معتادا على القيام بهذا الأمر . أنت تحمي نفسك بفكرة أنك طالما تؤدي هذه الطقوس و الأمور ( التي تبدو روتينية ) فليس بإمكان أي شيء أن يهزمك.
_________
*( المدى)