*
يؤكّد الباحث دياغو غامبيتا، وهو أميركي من أصل إيطالي، يعمل أستاذا لعلم الاجتماع في جامعة أكسفورد، بأنّ الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الذي عاش محنة المعسكرات النّازيّة، وعنها كتب أعنف الوثائق وأكثرها تأثيراً، لم ينتحر في مدينة تورينو في الحادي عشر من شهر أبريل/ نيسان 1987، كما أكّدت ذلك التّقارير الطبّيّة، وإنّما توفي نتيجة حادث.
فقد شعر بضيق بينما كان يهمّ بالاستناد إلى دربزين الطابق الثالث حيث كان يقيم. وقد كان في ذلك الوضع لأنه كان ينتظر عودة زوجته، أو أنه كان يتأهّب لمناداة حارس العمارة لغرض من الأغراض.
غير أن دياغو غامبيتا لا ينفي أن بريمو ليفي كان يعاني من اضطرابات عصبيّة خطيرة ناجمة، أساساً، عن السنوات الطويلة، والقاسية التي أمضاها في المعسكرات النازية خلال الحرب الكونيّة الثانية.
ثمّ إنّه كان يعيش وضعا سيّئا للغاية إذ أن والدته، ووالدة زوجته اللتين كانتا تقيمان معه في الشّقّة نفسها، كانتا مريضتين. وكان وضعهما يذكّره بالأيّام السّوداء التي عاشها وهو يرى الناس يموتون أمام عينية بأعداد كبيرة.
إلاّ أنّ دياغو غامبيتا يؤكّد أن بريمو ليفي لم يكن يعتقد أن الانتحار هو الوسيلة الوحيدة لوضع حدّ لحياة قاسية ومريرة.
وقبل السّقطة القاتلة في الدرج، كان قد قام بجولة في شوارع تورينو، ووضع رسالة في البريد، ثمّ قفل راجعا إلى شقّته، ومعه الجرائد التي لم تكن تحتوي على أيّ خبر يمكن أن يعكّر مزاجه.
ثمّ إنّ رجلا متحفّظا مثله لا يمكن أن ينهي حياته بطريقة استعراضيّة.
أمّا الرسالة التي وضعها في البريد في ذلك اليوم، يوم 11 أبريل/ نيسان من السنة المذكورة، والتي كانت مرسلة إلى صديقه فارديناندو كامو، فقد كانت مفعمة بالحيويّة، وبأفكار حول مشاريع جديدة، وفيها كان يطلب من صديقه أن يرسل له مقالة صدرت في شأنه في جريدة فرنسيّة.
وقبل ذلك بأيّام كان قد تحاور مع ناشره الذي نصحه بتعلّم الكتابة على جهاز الكمبيوتر. وهناك كثيرون يتّفقون الآن مع أطروحة دياغو غامبيتا.
كان سيزار موزاتي أوّل من شكّك في انتحار بريمو ليفي. وقد كتب عام 1987 يقول:”لا أعتقد أن المعسكرات النازيّة لها صلة بانتحار الكاتب.
والحقيقة أنه كان مريضا، وكان يعاني من انهيار عصبيّ حادّ. ونحن لا نعرف إن كان ما حدث انتحارا أم غير ذلك. إلاّ أنني مقتنع شديد الاقتناع بأن شيئا آخر هو الذي هشّم روح بريمو ليفي”.
سيزار بافازي
وكان الكاتب الإيطالي المرموق سيزار بافازي قد اختار الانتحار في غرفة بأحد الفنادق في مدينة تورينو في اليوم الثاني من شهر أغسطس/ آب 1950.
وقبل أن يقدم على ذلك، كان قد حصل على جائزة أدبيّة مرموقة. وأمام أصدقائه والمقربين منه، كان يبدو سعيدا، واثقا من موهبته الأدبيّة العالية.
وقد فسّر البعض عمليّة انتحاره بفشله في قصّة حبّ جنونيّة مع ممثّلة أميركية فائقة الجمال.
وآخرون زعموا أن خيباته السياسيّة، وابتعاده التدريجي عن الحزب الشيوعي الذي كان منخرطا فيه، كان السبب الأساسيّ في انتحاره.
غير أن دفتر يوميّاته الذي اكتشف بعد رحيله يكشف بدقّة أنه كان يفكّر في الانتحار منذ أمد بعيد.
وفي الصّفحة الأخيرة من دفتر مذكّراته، كتب سيزار بافازي يقول: “لم أعد أرغب في شيء على الأرض. فقط أرغب في ذلك الشيء الذي سوف يتحقّق بعد إخفاقات استمرّت خمسة عشر عاما.
تلك هي حصيلة هذا العام الذي لم ينته بعد، والذي لن أكمله”.
هيمنغواي وتسيلان
ومن أشهر المبدعين المنتحرين في القرن العشرين، الكاتب الأميركي أرنست همنغواي الذي فجّر رأسه برصاصة بندقيّة في بيته في الثاني من شهر تموز/ يوليو عام 1961 وهو في قمّة المجد والشّهرة.
ولا أحد يدري سبب انتحاره. هل الشيخوخة الزّاحفة، أم نضوب قدرته الإبداعيّة؟
وفي العشرين من شهر أبريل/ نيسان عام 1970، ألقى الشاعر الروماني باول تسيلان نفسه في نهر “السين” بباريس إثر نوبات عصبيّة حادّة، قد تعود بأسبابها إلى المحنة التي عاشها مع عائلته في المعسكرات النازيّة خلال الحرب الكونيّة الثانية.
ميشيما وكاواباتا
واختار الكاتب الياباني يوكو ميشيما المولود عام 1925 الانتحار هو أيضا في العام نفسه الذي انتحر فيه تسيلان. وقد ارتكب فعلته الشنيعة تلك بشكل استعراضيّ معيداً الاعتبار إلى الطريقة اليابانيّة في الانتحار المسماة “الهاراكيري”.
ولعلّ الخوف من الشيخوخة وعاهاتها، وأمراضها المزمنة هي التي دفعت ميشيما إلى الانتحار، فهو كان يقول: “من بين معتقداتي التي لا يمكن أن تتزعزع، الإيمان بأنّ كلّ شيخ قبيح أبدا، وأن حكمة الشيخ سوداء دائما، وأن أعمال الشاب نيّرة دوما. وكلّما تقدّم الناس في السنّ، كلّما ازدادوا قبحا وسوءا”.
وانتحر، أيضا، الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا الحائز على جائزة نوبل للآداب. وفعل ذلك يوم 16 أبريل/ نيسان عام 1972، وكان في الثالثة والسبعين من عمره. والواضح أن الشيخوخة كانت السبب في ذلك الاختيار الدرامي.
خليل حاوي
وأمّا المنتحر الأكثر شهرة في أدبنا العربي فهو الشاعر خليل حاوي الذي كان يتمتّع بثقافة عالية. وكان مؤمنا منذ سنوات الشباب بما كان يسمّيه بـ”الإحياء العربي”. لكن عندما غزت إسرائيل لبنان في صيف 1982، فجّر رأسه برصاصة. والذين كانوا على صلة به لم يتفاجأوا فقد سبق لهم أن عاينوا كيف كان يعدّ نفسه لذلك منذ سنوات طويلة، بعد أن أيقن أن “الإحياء العربي” سيظلّ حلماً صعب المنال.
________
*( العرب)