الجــــــــــرار


* سماء عيسى

(1)

ربما تكون الجرة بعد موتنا، الرمز الوفيَّ لعظامنا، أحياناً تظل الرمز الوفيَّ لذكرياتنا أيضاً، احتفظ أسلافنا بعظامهم في الجرار، وفي الجرار احتفظوا بأوراقهم القديمة أيضاً. تظلُ الارواح تبحث عن العظام البشرية التي كانت تسكنها، لا بدَّ ان احتفاظ أسلافنا بها كانت لتضليل الارواح التي انحدرنا منها. ذلك بالطبع تأكيداً للاعتقاد بأن الارواح تبحث عن العظام البشرية التي كانت تسكنها، كان البدائي يخترع طرقا لتضليلها احتفاظاً بعظام سلالاته التي انحدر منها، كي لا يعود أسلافنا الى الأرض وكي تبقى ارواحهم في تيه وهيام دائم في الفضاء
سأشرب من مياهكِ النقية الباردة، بعد ان استقت خالتي من أطراف النبع البعيد، سأضع اصبعي وسط القعبة، كي لا يتسرب الماء واشرب هانئاً، يوماً ما سأسكن بكِ رماداً أو عظاماً، أنتِ مسكن مياهنا في الحياة ومسكن عظامنا في الموت، هل ضاقت بالميت الأرض حتى يتخذ منكِ مسكنه الابدي؟ بعد أن كان وطنه الارض وسقفه السماء.
نستطيع دفن كل شيء بكِ، عدا الحزن والفرح والألم والدمع والدم، كلُّ ذلك يجول في الفضاء، تلبسه الروح وترحل به الى المجهول، لكِ العظام واللحم، الذي كان كسوة العظم.. سيجف حتماً ومنه ستخرج الديدان لتأكل اللحم، تبقى العظام ريقاً دون كساءٍ يجمل محياها.
هنا يتساوى بكِ ايتها الجرار الانس والحيوان، لم يكن الأنسُ حققوا انتصاراً على الحيوان من قبل، عدد كبير من ساكني الجرار كانوا مضغة للحيوان، لم تعد السيادة الآن لأحد منهم، هناك مخلوقات لا مرئية تدعى الفيروسات، هي سيدة الارض والسماء، معها ينتهي كل شيء ويتحلل كل شيء…
ربما يكون ذلك تجاوزاً ان يتجاوز الكائن نفسه، من وجوده الحي الى وجوده العظمي في الجرار، وتيه روحه في الفضاء. عشق أسلافنا القدماء التيه، ولولا التيه لما أنتشرنا في بقاع الأرض البعيدة، والتيه إياه ما سيحمل أحفادنا الى الكواكب السيارة في آفاق الدروب والمجرات.
(2)
( عندما تخرج من السجن يا بني، ولا تجدني حية، اتجه الى جرة تجدها في الغرفة المظلمة، التي انجبتك وربيتك فيها، هناك تجد ما أودعته لك طيلة عمري)
كانت تلك رسالة قصيرة من أم عجوز لأبنها السجين، كانت مخاوفها في محلها، إذ عندما خرج السجين الى الحياة ثانيةً اتجه الى القرية، وكان قد علم بوفاة أمه في السجن، وقتها حاول مع ادارة السجن السماح له بحضور جنازتها والصلاة عليها، ومن ثم العودة ثانيةً، لكنهم رفضوا، كان البيت مقفلآً ومظلماً، اقتحم المنزل دون ان يخبر احداً، إذ كان وصوله ليلاً، وهناك من شدة تعبه نام حتى ساعات الفجر الاولى، استيقظ بعدها وذهب الى المسجد، بعد ان رحب به الجميع وصلى معهم الفجر، قال له امام المسجد : ابق قليلاً، أود التحدث معك، قال له امام المسجد : هل وصلت رسالة امك إليك في السجن قبل موتها ؟ لقد كتبتها لها وكانت بمثابة وصيتها إليك ! قال السجين : نعم وصلتني، قال له الامام : إذن عد الى منزل أمك وافتح ما تحويه الجرة، تلك كانت وصيتها.
عدت الى المنزل في خوف، دخلت غرفة ولادتي، كانت مظلمة مهجورة، لم يكن بها غير ملابس قديمة ممزقة، ودفاتري المدرسية البالية، وفي الزاوية المظلمة اقتربت محاولاً رؤية الجرة..
كأنني أرى طفلاً يحبو، يتجه اليَّ من الزاوية المظلمة حيث الجرة، كان ينظر إليَّ بحزن وهو يتجه إليَّ.. كنت ارتعش خوفاً من ان يكبر، عندما يصل إليَّ، فيقوم بلطمي وتعذيبي، لأنني هجرت أمي وتركتها وحيدةً تبكي، حتى أخذها الموت. سأقول له : رفض السجان السماح لي بزيارتها قبل الموت أو على الاقل حضور دفنها، لكنني كنت وما زلت أحب أمي، حاولت الهرب قبل وصوله إليَّ، لكنني وجدت الغرفة قد تحولت الى جدران صماء، ليس بها باب او نافذة او حتى فتحة لدخول الهواء، الطفل يقترب ويكبر تدريجياً، وأنا اتراجع حتى التصقت بالجدار، وظللت أصرخ حتى اصبح الطفل رجلاً مفتول العضلات، اقترب مني ورفعني بيده إلى الاعلى ثم قذفني جهة الجدار، الذي من هول ارتطامي به انشق، ووقعت خارج الغرفة في فناء الدار.
أنا صديق لكل اولئك الذين رحلوا قبلي، والذين سيرحلون بعدي، صديق للطفل الذي تحوَّل الى وحش رماني في فناء الدار، بعدها عاد الوحش طفلاً والطفل سكن الجرة الممنوحة لي من أمي، ووصيتها إليَّ هي ذلك الطفل الذي اصبح وحشاً، هذا ما ارادت أن تقوله لي أمي : ستجد وحوشاً في كل الكائنات، وفي كلَّ بقاع الأرض، تريث دائما قبل أن يأخذك غرور ما، قد تختفي نوافذ وابواب المنزل، ويغدو المنزل جدران اسمنت صماء تحاصرك من الجهات الاربع كلها، ان صرخت لن يسمعك احدُ ولن يجيب على صراخك احدُ أيضاً، ستبقى هناك حتى يأتيك الموت أو مع قدوم غزاة الصحراء، لأنهم سيكونون بحاجة إليك، ولكن افهم يا بني انكَ حالما تدلهم على الطريق وتنتهي حاجتهم إليك سيطلقون عليك الرصاص، أو ربما أكثر سهولة لهم : دفنك حياً في رمال الصحراء !
(3)
خرجتْ من الجرة المغلقة لكنني لم ارها، لا أعرف ما اذا كانت جسداً طيفاً أم روحاً عبرت أمامي وكان ثمة نور يضيء عتمة الارض يحيط بها، ثم من النور قادني شعاع انبثق منها حتى وافينا المقبرة، دخلنا بها وكان ظلام يسود الارض والسماء، إلا نورها الذي يحيط برقعة من الضياء، كنت اتبعه حتى وافينا قبراً مغلقاً وآخر مفتوحاً، إذ ذاك توقفت خطواتها، توقفت هالة النور فتوقفت أنا معها، سمعت صوتها: بلّـلْ قبر أمك بالماء فهي عطشى.
اتجه الى البئر القريب المحاذي، وأحضر ماءً في دلو سكبه على القبر، أعطته صُـرًة تمر قالت : كل أنت جائع، وجد نفسه مسوقا لتنفيذ اوامرها، ثم اقتادته الى قبر مفتوح بجوار قبر أمه، قالت : هنا مرقدك النهائي، لا أجمل في الارض من أن تنام بجوار أمك، نام فهالت عليه التراب، غطت قبره بالحجارة، ثم مضت…
(4)
كلُّ شيء ابتدأ غامضاً قدسياً في آن، لا تجهر الجرة بأسرارها، لكنها تضم ما يفنى وما يغيب وما يندثر، الحرمان الذي لا تعرفه الجرار، فهي تضمـُك إليها، تحتويك، يضيق الكون بها ويتسع، عندما الحياة تأخذ كل شيء، بعد ان تعطي او قد لا تعطي شيئا ما، في هذا الكون الذي يضيق ولا يتسع.
________
* شاعر من عُمان . الملحق الثقافي لجريدة(عُمان)

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *