الطفل الملتحي: هوامش القراءة الرابعة لمكاتيب علي السوداني


عبد الحفيظ العدل *

( ثقافات )



علي السوداني شاعر وقاص وجع . تقتنصك كلماته المضمخة بالفرح ، لتزيح عن جدران قلبك المغلفة بابتسامات رعناء ستائر الوهم ، فترى الماحولك ، كما هو عارياً حدّ الألم ، واهناً حدّ الفزع .
قد يعنُّ لك ، أن تترك مجسات هذا العراقيّ المجبول بتاريخ بلاده ، منذ اول الحرف في فضاء سومر ، حتى آخر عنّة شحذ سكّينها بوش الصغير ، وماتناسل من رعونته . ولكنك حتماً لن تفعل ذلك ، فشبّاك حروف علي السوداني ، لاتستطيع منها سمكة القراءة فكاكاً ، ومع كل حرف تقرؤه ، وبعد كل سطر تغوص داخل دلالاته ، تكتشف أن هذا الطفل الملتحي ، يجرّك نحو اكتشاف نفسك ، سيّان في ذلك أكنت من بلاد الرافدين ، أو من بلاد في المغرب العربي ، فكلنا في الهمّ شرق . يمسك بتلابيب تفكيرك ، ليقول لك في وداعة شقية ” فيك أنطوى العالم الأكبر ، فلاتكن مجرد عابر ، في دروب التيه ، إنما عليك ان تكتشف طريقة للخروج ” وتعرية الواقع ، هو خيط إريان ، الذي يمدّه لك علي السوداني ، حتى لاتلتهمك متاهات الحزن ، وكأنه يصفعك حتى تستيقظ من غفوتك .
لا أدري كيف وجدتني أكتب هذه الكلمات ، وأنا انتهي من القراءة الرابعة ، لمكاتيبه العراقية في مجلدها الثالث – صدرت ببيروت في اول السنة – هذه المكاتيب التي يفتتحها بالحديث عن بعضٍ منه قائلا بطفولة صارمة :
” ستجدون أناي عالية متضخمة صائحة مشعة ” 
وهل كنّا ياسيد علي ، لنكتشف بعضا منّا بداخلك لولا هذه الانا ؟ 
هل كنّا لنكون بعضاً من الحروف التي تكتبها ، أو أننا نريد ذلك ، لو لم نجدك مختلفا عنّا حد التشابه؟
كلّنا ياصديقي ، ذلك الكسول الذي عناه هيرمان هسه ، لذا نقرؤك لنتعلم أن نكون مثلنا !!
هذا المجلد كما يقول راعيه :
” مكتظ بالأسماء ، حتى ليخيّل إلى القارىء الرائي ، أننا لم نوفّر إسماً من أسماء جمهرة الأدب والفن والشارع والحارة والحانة ، إلّا وجئنا على ذكره ، مدحاً أو قدحاً أو ضرورة . حشد من الناس المختلفين ، وكأنهم بين دفتي محشر ، لاحدَّ له . لاتنزعجوا كثيراً من المسألة ، فهي أيضاً ليست من باب المحاشي ، أو لوك الكلام ، بل هي من ضرورة الواقع ، مع وجود وسيلتها او مفتاحها ، تاريخ لطيف لكائنات قامت وأخرى بادتْ “
فما الذي يريد علي أن يقوله لنا ؟
تتعدد الاجوبة ، ولكن ما لا يمكن ان يختلف فيه اثنان ، هو أن الواقع اشد اضطراماً بالعجائبي من المتخيل ، مهما اشتد شطط هذا الاخير ، وتفاصيل هذا العجائبي ، بحاجة الى براءة طفل ، يملك الجرأة لأن يقول للملك ” انت عارٍ “
وإلى قلب شاعر سارد ، يكتشف المعنى في قلب اللامعنى ، والعكس صحيح.
إقرأ بخلاء علي السوداني – فصل من كتاب المكاتيب – حتماً ستكتشف أن كثيراً من هولاء ، قد تعرفت على أشباه لهم ، ولكنك لم تكن لتدرك ذلك ، لو لم يقل علي السوداني ، أن الجاحظ لم يغلق كتاب بخلائه ، وإنما تركه مفتوحاً لنضيف إليه مايشبه مافيه ، وإن اختلفت الرواية ، وأحياناً العين الباصرة ، ومن لها في زمن ملتحف بالرياء ، إلا قلب شاعر ملؤه الحب .
أجل ، إنَّ المؤلف يحب كل الشخوص التي كتب عنها ، حتى وإن أوسعها سخرية ونزع عن عوراتها ماتبقى من اوراق التوت . يحبهم حد كراهية أن يبقوا كما هم ، وأن يرتضوا بما هم عليه ، لذلك على الرغم من الصور القاتمة التي قد تكشر لك عن انيابها بين سطور علي السوداني ، إلا انه يظل دائماً مشفوعاً بالأمل والحب .
قد نغمط الكتاب حقه ، إذا مازعمنا أننا نريد الحديث عنه في هذه العجالة ، ولكنني أزعم أن من يقرا مايكتبه علي السوداني ، ولاتستبدّ به الرغبة في الكتابة عنه ، هو أمرؤ لايدرك قيمة وجوده ، فعليّ السوداني ، يعرّي ذلك الوجود ، لتعرف مكانك فيه ، أو لتختار أين تكون فيه .
فسلاما لعليّ ، وسلاماً لثرى جلجامش الذي أنجبه ، وسلاماً لربّة عمّون ، التي تحتضنه حتى الآن …
** كاتب من ليبيا 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *