آية مهنا.. ( بكير يا ورد)


* مروان العياصرة

(ثقافات)
لبعض الاسماء كما للقصائد المعتقة رائحة ( لا تنقضي أبداً أو ينقضي الأبدُ )، وللشام رائحة الياسمين والقصائد المعتقة، وحروفها التي تتورط بجدارة مع الزمن والقصائد تتحد في الكلام شام، وفي الروح مدينة لا تفتح أبوابها للطارئين والمارين المصابين بالسهو والغرباء المدججين بالعزلة، وحدهم قُصَّادُها الآتون الآن من السكك الوعرة، ومن الحزن والرصاص، يطرقون باب اسمك بحناجرهم ومقابض قصائدهم يسكبون خمر كؤوسهم، وأنت تسائلينهم بلسان المتنبي وهو يقول:
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما.. أم في كؤوسكما همٌّ وتسهيد
آية مهنا.. ابنة شهبا، تفتح ورد غنائها على حزن مختوم بالدم، أخبرتني أنها بدأت تغني لكي تبدأ بتهجئة الحزن، كما علمها حكيم الشام وحزينها محمد الماغوط أن الفرح مؤجل كالثأر من جيل إلى جيل، وعلينا قبل أن نحاضر في الفرح، أن نعرف كيف نتهجأ الحزن، وهكذا بدأت تتهجأ حزنها وحزن البلاد والياسمين، تمدُّ صوتها قبل يدها في العتمة لتقطف نجمة، فلم يكن أمامها خيار، الصمت حجة علينا، والحزن الصامت يهمس في القلب حتى يحطمه كما كان يهمس ذات يوم الحكيم وليم شكسبير.
كنت دائما أقول إن كلماتي هي أخطائي الشريرة، وأن الكلام جلُّ الكلام ينهض في الفراغ، لذا أكتب للشام عن ابنة الشام آية مهنا معصوب العينين، ولا أظنني أجرؤ أن أكتب هكذا مفتوح العينين، وفي الشام كل هذا الحزن وفي صوت آية كل هذا الشجو والنشيج، فمع صوتها الذي يتعربش على جدران الروح ( أتاني خبر فأشجاني، أن الغواة قتلوا ابن عفان )، وكم في الشام من ابن عفان أضحى قتيلاً أو حبيساً أو معذبا.
آية مهنا، الفتاة الشامية التي أطلت على الحياة بعينين مجرَّحتين، مثل فراشة خدعتها أضواء الحرب، أو مثل قصيدة جفَّ منها الياسمين، لكنها تعرف كيف تتحدى كل هذا الدمع والدمّ، فيأتيها صوت جبران خليل جبران يقول لها ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه من أن ينشد أغنية..
قالت لي، كمن يلظم الحروف في ثقوب الورق، وماذا بعد..؟، الموتُ دجَّن القنابل والرصاص، والدم الموخوز بالحسرة ينهض كسؤال مباغت بلا إجابات، أقاموا في حلب متاريس الشغب، وعلى أبواب دمشق وزعوا الشهداء بالعدل، والامهات يعبِّئن الفراغ في شبابيك درعا التي فضَّ الرصاص بكارتها، وماذا بعد..؟، أسأل عن أخي وسرب حمام يقشِّر الأفق يبحث في جرار الغيم عن الهديل، عن أبي القتيل، عن حرير المساء وكستناء حوش البيت والياسمين المحاصر بالعويل.. وماذا بعد..؟، أمشِّط ظفائر الوقت، والوقت عليل، فاجأَنا الفراغ، وأطل الصمت محشواً بالحزن والارتباك، صرنا كشاهدين لا يحسنان الظن بشيء، فأين ضمير هذا العالم الذي يدَّعي الضمير.

وقالت، جروح الفقد أرهقتنا، وبكينا أحباءَ كثيرين، فقررت أن أغني للشام والياسمين والأمهات الثكالى اللواتي ابيضت أعينهن من الحزن وهنَّ كظيمات أسكتهنَّ الألم، أردت أن أكون صوتهنّ، ومع استمرار الألم يخلق دائما الأمل، غنت ( بكير يا ورد ) لكل أزهار الطفولة التي أينعت في هذا الخراب والدمار وهذي الحرب العمياء التي تصرخ فينا ( سوف ألعنكم وسوف يولد كل أطفالكم عرايا ). وغنت ( بلادي جرحك نغم )، كتعبير عن التحدي وإرادة الحياة، وكما قال بورجيه، في لحظات معينة لا تعني الكلمات شيئا، بل النغمة التي تقال بها، وغنت ( كفى )، كرسالة مفتوحة لعالم ما زال ضميره يتثاءب بكسل مريب، في حين هذه الحرب العمياء تحتاج فقط لصمت الضمير كي تستمر في القتل والتدمير.. آية مهنا، نموذج لجيل سوري قادم، يحمل أوجاعه في وعيه وعينيه، وفي صوته أيضا، يتعلم كيف يقاتل الرصاص بالدم، وكيف ينتصر بالصبر.
__________
* كاتب أردني مقيم في البحرين

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *