عندما حرر ريلكه معشوقته لواندرياس سالومي من أسر القناع البورجوازي وأنقذها من جمود الحجر بحبه الصاعق تجول معها زمنا ثم تبادلا مراسلات نقدية و غرامية وكان يبوح لها بخوفه من الإصابة بالجنون ولازمته أعراض الخوف من الفصام طوال حياته وحذرته لوسالومي المتعمقة بالتحليل النفسي من خطورة أي ارتباط نهائي نظرا لاعتلاله النفسي و أدرك الشاعر إن الحياة لا تسمح لنا التعمق في فعلين أساسيين في الوقت ذاته، فتخلى عن الحب ليخلص للقصيدة وحدها ولم ينتمٍ لوطن محدد ، إنما ظلّ يتجول في منطقة العدم – هو الذي اخبرنا بشيء من الوثوقية أن ” البقاء شيء لا وجود له في أي مكان ” والفن هو الخروج على كل ما هو زمني وعابر ولا يتحقق الوجود إلا بالإشراقات الروحية الخاطفة التي تخترق لحظات العدم و اللا وجود، فنحن عندما نختبر الاشراقات النادرة نخرج من حيزنا المادي الخاضع للقياس والمحدودية لنتحول الى عنصر مغتبط بوسعه الانغمار بجميع الموجودات :
” ..نسيتك الأشياء الأرضية
قل للأرض الساكنة : إني أجري
وللمياه المتدفقة : اني موجود ”
تنكر ريلكه لرغباته تنكرا مقصودا ففشل زواجه الذي لم يستمر طويلا من النحاتة الألمانية كلارا ليتحول الى علاقة صداقة حين تبعته الى باريس لتدرس النحت لدى رودان وينصرف هو القلق المتوتر عصبيا والذي تتناوب حالاته النفسية بين مشاعر الإحباط والخوف -للبحث في الفن متجنبا غواية المظاهر الخارجية لمدينة تشتعل صخبا وفورانا ثقافيا وفنيا واجتماعيا ، ولم تجد كشوفاته ورؤاه موئلا لها في هذه المدينة رغم انها عززتها ، لم يستهوه الصخب والانفلات والملذات وأدرك إن المدن الكبرى تفترس الروح فتجنب مغرياتها ليواصل بحثه ومعاناته لاحتلال مكانة شعرية بين أدباء عصره فيفشل ويختار العزلة رافضا باريس وواصفا إياها بأنها ( عاصمة الألم يشعر المرء فيها بالانسحاق والغربة وما صخبها سوى صمت أخرق وما ازدحامها سوى خواء)
يتساءل ريلكه في مطلع كتابه أو روايته الوحيدة ” دفاتر مالته لوريدس بريدج” : هل يأتي الناس إلى باريس ليعيشوا ؟ اعتقد انهم إنما يأتون ليموتوا هناك “
ريلكه القلق الجوال الذي عاش بلا انتماء لوطن ما أو عقيدة سوى الفن يؤكد لنا تشتت الإنسان وانسحاقه ويأسه في باريس إذ وجد الشاعر هناك إن الناس يجهدون لنسيان أنفسهم بالتهافت على المتع السطحية العابرة لإشباع الوحش المنهوم في أعماقهم وهم يخفون وجه الموت ويتجاهلون في المدينة الكبرى انهم ألعوبة صغيرة بيد العدم فالمدينة حسب ما كان يرى ريلكه والرومانسيون ، تشوهنا وتجعلنا ضئيلين وتهدد كل ما هو إنساني فينا وتحولنا الى عبيد لإرادة القوة والنفوذ وهيمنة النزعة الاستحواذية في العشق والحياة.
أثناء الرحلة القلقة و ريلكه مسكون بحمى الشعر وخوف الجنون يلتقي بالنحات العظيم رودان ويعمل سكرتيرا له هو الذي يشبهه في بداياته الصوفية فيتحول ريلكه لدى رؤيته لمنحوتات رودان من حالة الشعرية المستغرقة في الذاتية الصوفية وغموضها الى القصيدة التي تجسد المرئيات وتستعيد عبر اللغة خلق الأعمال الفنية وظواهر الطبيعة بطريقة مغايرة ،ويجد ريلكه في تلك الأعمال الفنية التي أبدعها رودان خلاصة مفادها : انها تمثل اللحظة الخارقة لدى المبدع ، لحظة الوحي التي يتجلى فيها الفنان عندما يدرك أمرا عظيما يحدث خارج سياقات الزمن القياسية
ويسأل الشاعر صديقه النحات عن معنى عيش الحياة فيخبره رودان ” يكمن المعنى بالعمل وحده “
يتبع
______
*روائية وأديبة من العراق (المدى)