مَزمُور/ ميخائيل بولغاكوف


* *ترجمة: مصطفى الرادِقي

في بداية الأمر، يتكون لدينا انطباع بأن فأرا يكشِط الباب. ثم نسمع صوتا آدميا يطلب بأدب جَمّ 

ــ هل يمكنني أن أدخل؟
ــ ادخل، ادخل، من فضلك. 
مَفاصِل الباب تغني.
ــ ادخل، تعال لتجلس على الأريكة.
صوت يأتي من الباب ــ وكيف يمكنني أن أمشي فوق الأرضية الخشبية؟
ــ امْشِ بتمهُّل، حذارأن تنزلق قدماك.. أي جديد هناك؟
ــ لاشيء.
ــ كيف ذلك، لاشيء؟ ومَن كان ينتحب هذا الصباح في الممر؟
صمتٌ ثقيل ــ أنا.
ــ ولماذا؟
ــ لأن ماما ضربتني على رِدْفي.
ــ ولأي سبب؟
ــ صمتٌ حَرِج .. لأنني عضضتُ سورْكا في أُذُنِه. 
ــ هذا كل ما في الأمر؟
ــ ماما تقول بأن سورْكا صبي سوقي.إنه يتعمّد إزعاجي؛ لقد أخذ نقودي. 
ــ في كل الأحوال، لايوجد أي مرسوم يسمح بِعَضّ آذانِ الناس من أجل قطع النقود. إنه لشيء أبله ما قُمتَ به.أنتَ غبي.
مُغتاظا ــ لا أريد أن ألعب معك.
ــ جيّد.
ــ صَمْت سيأتي بابا وسأخبرُه بالأمر. صمت سيقتلك.
ــ حسنا، هكذا الأمر إذن.سوف لن أُعِدّ الشاي. لاحاجة لذلك، بما أنه سيقتلني.. 
ــ لا، أَعدَّه.. 
ــ وستتناوله معي؟
ــ بالمُسَكِّرات؟ قلْ؟
ــ طبعا. بالمُسَكّرات. 
ــ إذن أريدُه.
جسدان مُقرفِصان ــ واحد كبيروواحد صغير. الماء يغلي، الغلاية تحدِث رنينا موسيقيا. مَخروط من النور الدافىء يُضيء صفحة لجيروم ك. جيروم. 
ــ والشِّعْر، أُراهن أنكَ نسيتَه؟
ــ لا، لم أنْسَ.
ــ هيّا إذن، أَنشِدْ القصيدة.
ــ س.. سأستري.. 
ــ أحذية.. 
ــ أحذية لامعة.. سأغنّي.. 
ــ مَزمورا. 
ــ مَزمورا بالليل.. سيكون عندي أيضا كلب.. 
ــ كيفما كان.. 
ــ كيفما.. 
ــ سنخرج من هذه الوضعية.
ــ نَخرج. نحن.
ــ هو ذاك.حينما يصبح الشاي جاهزا، سنشربه، وسنخرج من هذه الوضعية. 
تَنهّد عميق نخ ــ ر ــ ج.
الغلاية تَرِنّ. جيروم كَ. جيروم. الماء يغلي. قِمْع من الضوء. الأرضية الخشبية تَلْمع.
ــ أنتَ وحيد.
جيروم ك. جيروم يسقط على الأرضية. الصفحة تنطفىء.
صَمْت ــ ومَن قال لكَ ذلك؟
بداهة مشرقة ــ ماما.
ــ متى؟
ــ عندما أعادتْ خياطة أحد أزرارِك. كانت تخيط الزر وتقول لِنتاسا.. 
ــ تس.. انتظر قليلا، توقفْ عن تحريك ساقيْك باستمرار، وإلا بلّلتك بماء دافىء.. أوه لا لا
ــ أوه لا لا. . إنه ساخن.
ــ خذْ مُسَكِّرا ؛ ما تُفضِّلُه.
ــ أريد هذا، الكبير.
انفخْ قليلا على الشاي، وتوقفْ عن تحريك ساقيك.
صوت نسائي من وراء الحاجز ــ سلافكا.
أحد ما يطرق الباب. البابُ يغني بنشوة على مَحاوِره. 
ــ لا زالَ عندك، سلافكا، تعال إلى البيت. 
ــ لا، لا، إننا الآن نشربُ الشاي معا.
ــ لكنه شربه فقط منذ قليل.
صراحة هادئة ــ لم.. لم أشرب شايا. 
ــ فيرا إيفانوفنا، تعاليْ لتتناولي قليلا من الشاي.
ــ شكرا، لقد قمتُ.. 
ــ تعاليْ، تعاليْ.. لن أترككِ تذهبين ثانية.
ــ دعْني.. يداي مبتلتان.. كنت أنشر الغسيل.
مُدافع غير متوقع ــ اتركْ ماما. 
ــ طيب، طيب، سأتوقف.. فيرا إيفانوفنا، تعاليْ لتجلسي.. 
ــ أُكملُ نشر الغسيل وسآتي. 
ــ ممتاز. إذن لن أطفىءَ الموقد.
ــ وأنتَ يا سلافكا، بمجرد ما تنهي شايك، تذهبْ إلى غرفتك. إلى السرير. هل يزعجك؟.. 
ــ أنا لا أُزعِج.. لا أرتكبُ حماقات.. 
الباب يغني بانزعاج. بقع الضوء المخروطية تنزاح. الغلاية صامتة. 
ــ أترغب في النوم؟
ــ لا، ليست لي رغبة.احْكِ لي قصة.
ــ مع ذلك فعيناكَ صغيرتان. 
ــ لا، ليست صغيرة. هيا، احكِ.
ــ طيب، تعال هنا.. ضعْ رأسكَ هنا.. قصة؟
وأية قصة تريدني أن أحكيها لك؟هه؟
ــ حكاية الطفل الصغير. ذلك الذي.. 
ــ الطفل الصغير؟ هذه ياعزيزي، حكاية صعبة. ولكن بما أن الأمر يتعلق بكَ أنت، سأفعل.. 
إذن، يحكى أنه كان فيما مضى طفل صغير. صغير جدا. كان في حوالي الرابعة من عمره. وكان يعيش في موسكو مع أمه. وكان يسمى سلافكا. 
ــ أوه لا لا.. هويشبهني إذن؟
ــ طفل صغير جد لطيف، لكن يجب أن أقول أيضا، بندم كبير، بأنه يتعارك بكل ما يستطيعه.. باللكمات، وضربات الأرجل، وحتى بِواقيات الحذاء. في الغرفة رقم 8 تعيش فتاة صغيرة حسناء، ظريفة، هادئة.. وذات يوم، على السلّم الحجري، رمى بكتاب على وجهها. 
ــ إنها هي التي بدأتْ.. 
ــ انتظر قليلا. لستَ أنتَ المعني هنا. 
ــ هل هو سلافكا آخر؟
ــ تماما هو آخر.. أين وصلت؟.. إذن، طبيعيا، كان سلافكا يتلقى يوميا تأديبا جيدا، لأنه لايمكن أن نترك الناس يتعاركون هكذا، أليس كذلك؟ لكنه في أحد الأيام تعارك مع طفل صغيرآخريدعى شوركا، وهاهو يعضّ أذنه، بِقضْمة أسنان قاطعة، فيقتلع نصفها. وأحدث ذلك ضجيجا هائلا شوركا يصرخ، سلافكا تلقى ضربات متواترة، إنه يصرخ.. وتم إلصاق أذن شوركا، كيفما اتفق، بِلصاق مشمّع، وطبعا تنحية سلافكا جانبا.. حينما طرق أحدهم الباب، جاء رجل مجهول تماما، ذو لحية كثة صهباء، ونظارات زرقاء، وبصوت جهوري سأل هل يمكنني أن أعرف مَن منكم هو سلافكا؟ ــ أجاب سلافكا هوأنا . هكذا إذن يا سلافكا، ردد الرجل، أنا حارس جميع المتعاركين. عزيزي سلافكا، يجب أن أصطحبكَ بعيدا عن موسكوإلى تركستان. فَهِمَ سلافكا بأن في هذا هرطقة، ففضل أن يعترف. ــ أنا الذي تعاركتُ، ولعبتُ بالنقود على السّلم، وكذبتُ بوقاحة على ماما، قلتُ لها بأنني لم ألعب.. لكنني لن أكرر هذا ثانية، لأنني أبدأ الآن حياة جديدة. ــ هذا يغيّر كل شيء، قال الحارس. في هذه الحالة تستحق مكافأة على صراحتك . واصطحبه فورا إلى محل للجوائز. وهناك اكتشف سلافكا أكداسا من الأشياء العجيبة كرات بلاستيكية مخططة، دراجات هوائية، طبول. . ــ اخترْ ما شئت؟ قال له الحارس. لكنني، لم أعُدْ أعرف جيدا مااختاره سلافكا.. 
صوت منخفض عذب وناعس ــ دراجة هوائية.. 
ــ صحيح، أتذكّرالآن، دراجة هوائية. وامتطاها في الحال لكي يتوجه رأسا إلى الكوزنيتسكي موست. كان يسير، ويشغل مُنبّهه، والناس على الرصيف ينظرون إليه مندهشين ــ يا له من صبي رائع سلافكا هذا. كيف يتدبرأمره كي لاتدهسه سيارة؟ أدارَ سلافكا مُنبّه دراجته وصاح في الحوديين الزَمْ يمينك. العربات تَمرُق، السيارات تطير، سلافكا يضغط على الدواسات، الجنود يمشون في استعراض محدثين صوتا رنانا. 
ــ هل نام؟
الباب يزعق. الممر. أيادٍ بيضاء، عارية إلى حد المِرفق. 
ــ ياإلهي. هات، لكي أخلعَ عنه ملابسه. 
ــ ارجعي، أنا في انتظارك. 
ــ الوقت متأخر.. 
ــ لا، لا، لاأريد أن أعرف ذلك. 
ــ طيب، سأعود.. 
بقع الضوء المخروطية. الغلاية بدأت تصفر. الفتائل تتصاعد إلى الأعلى. جيروم ك. جيروم يرقد على الأرض بعد أن أصبح لامجديا. عبرنافذة الميكا للموقد البترولي تتقافزنار جذلى. سأغني مزمورا في الليل.. كيفما كان، سنخرج من هذه الوضعية. نعم، أنا وحيد. المزمور حزين. لا أعرف العيش.. الأكثر فظاعة، في الحياة، هي الأزرار. إنها تسقط كأعضاء متعفنة.بالأمس ارتخى زر الصِّدار. واليوم زر السترة وزر البنطلون. إنني لا أعرف العيش بالأزرار، لكنني أرى وأفهم كل شيء. إنه لن يعود. ولن يقتلني بطلقة مسدس. في اليوم السابق، قالت لنتاشا في الممر قريبا سيعود زوجي، وسنذهب إلى بترسبورغ. إنه لن يعود، ثقوا بي. لقد مرت سبعة أشهرعلى ذهابه، وفاجأتُها ثلاث مرات وهي تبكي. فالدموع، كما تعرفون، لايمكن إخفاؤُها. فقط، إنه ضيّع كثيرابتركه لهذه الأيدي الناصعة البياض والشديدة الدفء. طبعا، فالأمر لايهمّه إلاوحده، لكنني لاأفهم كيف أمكنه نسيان سلافكا.. 
مَفاصِل الباب تغني بفرح شديد.. 
اختفتْ مخروطات الضوء. عبر نافذة الميكا الصغيرة أطل الليل أسود. الغلاية صمتتْ من زمن بعيد. 
ضوء المصباح ينظر بعيونه الألف الصغيرة عبر الساتان الرفيع. 
ــ لديكِ أصابع رفيعة. كان يمكنكِ أن تكوني عازفة بيانو.. 
ــ عندما سأذهب إلى بترسبورغ، سأعزف من جديد. 
ــ لن تذهبين إلى بترسبورغ.. سلافكا له نفس الخصلات على الكتف.. وأنا لديّ هذه الهموم، أتعلمين؟حزن هائل. الحياة مستحيلة. في كل مكان، أزرار، أزرار، أزرار.. 
ــ لاتقبّلني.. لاتقبّلني.. يجب أن أذهب. لقد تأخر الوقت. 
ــ لن تذهبين. هناك، ستنخرطين ثانية في البكاء. إنها عادتكِ.
ــ هذا ليس صحيحا. أنا لاأبكي.مَن قال لكَ ذلك؟
ــ إنني أرى ذلك جيدا، وأعلَمُه جيدا. سوف تبكين، وأنا حزين جدا.. حزين جدا.. 
ــ لكن، ماالعمل.. ماذا تفعل.. 
اختفت المخروطات. المصباح لم يعد يلمع عبر الساتان الرفيع. الليل. الظلمات. لا أزرار. سأشتري دراجة لسلافكا. لن أبتاع لي أحذية صقيلة، ولن أنشدَ مزمورا في الليل.. كيفما كان، سنخرج من هذه الوضعية. 
__________
* روائي ومسرحي روسي /من مجموعته القصصية ارتكبت ُعملية قَتل .
** شاعر ومترجم من المغرب 
(الزمان) العراقية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *