حافلة موقوتة


هشام البستاني *



مشارف إربد، الواحدة إلا رُبعاً
مع مرور الدقائق وتدافع الركاب، يتحول الباص القديم المتهالك نحو عمّان إلى فرنٍ بشري. والشمس التي مالت قليلاً عن قبّة السماء في رحلة العودة إلى الأفق تُرسل ضرباتها النارية المركزة نحو كتلة الحديد المتحرّكة ببطء. شبابيك الرّكاب لا يمكن فتحها، والمنفذ الوحيد للهواء هو شُبَّاك السائق وفتحتان صغيرتان في السقف. 
تحت ضغط الحرارة والغبار وثاني أكسيد الكربون وروائح العرق، يتململ بعضهم في مقاعدهم متأففين، بينما يضغط آخرون رؤوسهم وأعينهم في محاولة مستحيلة للنوم. 
في هذه الظروف، لم يملك محمد ذو الثمانية أعوام إلا أن يرفض ويصرخ ويضرب أخته الرضيعة التي تجلس مرتاحة في حضن أمها وتنظر ببلاهة إلى الركاب واضعة إبهامها في فمها، وذلك بعد أن أجلسته أمه في المسافة الضيقة الفاصلة بين ساقيها وبين ظهر الكرسي المقابل، وهو الذي كان قبل قليل يلعب كرة القدم في الشارع المقابل لبيتهم. ومع أن أخته التوأم قد جلست في المكان نفسه ولكن بضغط ساقين مختلفتين هما ساقا أختها الكبيرة، إلا أنها لم تملك جرأة الصبي على التحدي. 
بؤرة نارية مشتعلة وسط الفرن المتحرك: خمسة أشخاص في فراغ يتسع بالكاد لشخصين. 
بعد صراع وقتال وركلة من قدم أمه وجدَ محمد نفسه بعيداً عن الأزمة. محمد الآن يستلقي مرتاحاً على أرض الممر غير آبهٍ لحركة «الكنترول» وهو يلم الأجرة، أو لبكاء الرضيعة بعد أن نبهها العراك إلى الألم والاختناق. 
تتصاعد روائح العرق بتسارع مذهل لتملأ فضاء المكان، ويتكاثف ثاني أكسيد الكربون ضاغظاً بشدةٍ على الركاب، والمُبَرّد العجوز أُزهِقَت روحه وانضم إلى المؤامرة الصيفية الخانقة وأخذ ينفث هواءً ساخناً. وصراخ الرضيعة يتعالى إلى نقطة قصوى ثم يخمد رويداً رويداً ليشتد مرةً اخرى: «بَسّ يَمّه، بَسّ يا سناء، بَسّ يا حبيبتي». 
الأم تهدهد الصغيرة، تهزّها بلطف وتغنّي لها. الرضيعة لا تصمت. الأم تقلب الطفلة على بطنها وتُربّت بلطف على ظهرها: «يَلاّ، يَلاّ، يَلاّ». الرضيعة لا تصمت. 
مثلث النْعَيّمِة، الواحدة إلا ثلاث دقائق
البؤرة المشتعلة الآن هي بؤرة الاهتمام، والأم التي تكالب عليها ضغط الحرارة والروائح وثاني أكسيد الكربون والأطفال تستقبل ضغط النظرات والأفأفات المتلاحقة. وفي لحظةٍ تتضامن الطفلة مع أمها لتطلق صرخة مَزّقت ما بقي من صبر، فهوت يَدٌ بعنف على فم الرضيعة. 
الرضيعة لا تعرف من الكلمات سوى «بابا، ماما، بو، كا»، حصيلةٌ لا تمكنها من إيصال الرسائل. اللغة القياسية هي البكاء. لذلك فهي تبكي وتبكي وتصرخ. والأم في حيرةٍ تتحول رويداً رويداً إلى غضب: «وَلِكْ خَلَص..». تضغط بقوة على رأس الطفلة وجبهتها ثم عينيها وأنفها وفمها، تسحبها بعنف وتلقيها إلى جهة ابنتها الكبرى، البنت تقلب الرضيعة يميناً، يساراً، على الظهر، على البطن، لا فائدة. الغضب يتصاعد: «يلعن أبوكي»، ثم يد تهوي على خد الرضيعة. 
لقد ألقموا المحرك البخاري فحماً، والطفلة التي كانت تبكي بكسلٍ أخذت موقفاً وهي تتحدى لتدافع عنه. إنها تصرخ الآن بكل قوتها. الكبرى تلقي بالطفلة إلى الام: «أَيْ شُو هاد، فَضْحَتنا». الأم تبحث في حقيبتها، هناك تفاحة في مكان ما. آه، ها هي. تقضم الأم التفاحة وتضع اللبّ الطري في فم الطفلة. الطفلة التي فوجئت بالهجوم الجديد تصمت للحظات، تفكر، ترفض. التفاحة الآن على الأرض، والصراخ يتسارع مخلخلاً الهدوء الآني. 
البَقْعَة، الثانية إلا ثلثاً
تشتعل الثورة في العروق، ويسير الغضب في الدم متوزعاً في جميع الأعضاء، الأم ورضيعتها وجهاً لوجه. تقلب الرضيعة الصارخة على بطنها وتضرب على ظهرها: «خَلَصْ وَلِهْ»، تُنَبّهها لسعة مفاجئة فتتوقف. ترفع فستان البنت المزركش وتزيح لباسها الداخلي، فتنتشر الرائحة النفاذة لبرازٍ حارّ. لقد انتقمت الصغيرة. وأُضيف مكوِّن جديد ضاغط إلى الفرن البشري. 
«والله لأمَوّتِك..»، الأم تتمتم بغضب وهي تمسح مؤخرة رضيعتها التي ما تزال تصرخ، بقطعة قماش. ثم يتكرر المشهد السابق بعنف أكبر: راحة اليد تضرب على الظهر ثم تنساب الأصابع ضاغطة الرأس، الجبهة، فالعينين، فالأنف، فالفم. تحت وقع الهجوم المركز الجديد، تستسلم الرضيعة، ويبدأ صوتها بالخفوت شيئاً فشيئاً إلى أن يهمد. 
آخر طلوع صافوط، الثانية إلا ثماني دقائق
السكون يلف الباص الذي يصعد الآن باتجاه دُوَّار صويلح فاتحاً فراغاً صغيراً لبعض الراحة. محمد غارق في النوم على أرض الباص الوسخة وإلى اليمين من رأسه تفاحة مقضومة من أحد جوانبها. الأم تُرَبّت بلطف على ظهر رضيعتها بينما تُلقي برأسها إلى الخلف طلباً لاسترخاء متعذّر، البنت الكبرى تضحك مع شاب في سيارة تسير بمحاذاة الشُبّاك، بينما تعاني أخت محمد التوأم خدراً شديداً في ساقيها. تتشقق وجوه الركاب عن بعض تعابير الراحة، ويأخذ معظمهم بالاعتدال في الجلوس والنظر من النوافذ. 
العبدلي، الثانية وتسع دقائق
الباص يصل إلى المجمع في عَمّان، الركاب يتحدثون بصوت مسموع وحركات قيامهم ولملمتهم لحاجياتهم تتعالى فوق السكون وضغط الهواء الذي نفد أوكسجينه. 
الأم التي ما تزال تُرَبّت بحنو ولطف على ظهر الرضيعة تنادي محمد النائم على أرض الباص: «هيه يَمَّهْ يا محمد، قوم، وصلنا، هيه يَمَّهْ..». أخت محمد التوأم انسلّت من بين قدمي أختها الكبرى وقدمَي أمها لتقف باكيةً في الممر بعد أن أدركت عجزها عن المشي. 
الأم تقلب رضيعتها سناء وتُرَبّت على وجهها بخفة: «يلاّ يَمَّهْ سناء، يلا يا حبيبتي، قومي». سناء غارقة في سكونٍ ملائكي، ووجهها منعدم الملامح يميل قليلاً إلى الزرقة كسماء صافية. صوت الأم يزداد حدة، وبأناملها تلامس الوجنات الصغيرة الناعمة للحظات ثم ترتعد لتعود تستشعر البرودة. 
يتحول التربيت اللطيف إلى ضرب خفيف. لا صوت. وسناء الثائرة قبل نصف ساعة تحولت إلى نجمة بلا شعاع. «يَمَّهْ سناء… يَمَّهْ سناء»، الأم تصرخ بجنون. الملاك المستسلم بين يديها لا يتحرك، لا يتألم، لا يُصدِر صوتاً، ملاكٌ باردٌ أخرس مُزْرَقّ. «مشان الله يَمَّهْ… احكي، صَوتي يَمَّهْ يا سناء..»، وسناء سماءٌ أبديةٌ صافية. 
تنهار الأم. تتجمد البنت الكبرى، بينما يستمر محمد في النوم على الأرض تجالسه أخته التوأم، ويخيّم صمتٌ ثقيل.


( الرأي الثقافي )
* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *