بشرى خلفان *
في صباحِ الرَّابعِ عشر مِنْ شعبانَ تحلَّقَ أهلُ القريةِ حولَ الرِّجالِ الثَّلاثةِ في أسمالِهم الباليةِ وحَصَاهُمُ الذي جمعوه من أوديةِ السِّحرِ السَّبعةِ ونثروه على التُّرابِ الأسودِ الذي جلبوه من سيوح المغايبة.
كانتْ عِصِيُّهُمُ التي من أغصانِ السَّمُرِ الرَّقيقةِ تَقْسِمُ التُّرابَ إلى مربَّعاتٍ يقرأون في تكويناتِها مصائرَ النُّفوسِ التي من حولِهِمْ وتحوُّلاتِ أرواحِها.
دَنَتْ منهم «سودوه بنت بخيت» خادمةُ «البيت العود»(1) وهم منهمكون في عملِهم، فتوسَّعَتِ الحلقةُ. وَضَعَتْ في يد كلِّ واحدٍ منهم قرشا، فهزُّوا رؤوسَهم وتبِعوها. استقبلتْهم «العودةْ» وقد حَجَبَتْ نصفَ وجهِها بوقايتها(2). جلسوا وخطُّوا على تراب الحوش بعِصِيِّهم خطوطَ القدرِ غيرَ المقروءةِ، ثمَّ قالوا لها:
– السّرّ مدفون في أرض الجن، لكن كل شاة ولها رعاتها، وتحذّري الدّمّ، ما يغسله ما سبع بحور.
في ذلك الوقتِ كان «العود» يكمُنُ للظِّباءِ في وادي العيون مع أولادِه التِّسعةِ، الذين يتناوبون الحراسةَ والقنصَ والخدمةَ، وعندما جاءه الخبرُ توضَّأَ وصلَّى مع أولادِه صلاةَ الغائبِ، وتوسَّدَ بندقيَّتَهُ «البوعشر» التي نَدِمَ لاحقاً على وَهْبِهَا محمود.
ومحمودُ فتىً بهيُّ الطَّلعةِ كان في الرَّابعةَ عشرةَ من عمرِه عندما جاءهم خبرُ عائشة بنت علي في وادي العيون، فتطوَّعَ تلك اللَّيلة للحراسةِ، مصغياً لما حولَه من أصواتِ الرِّيحِ الزَّاحفةِ على حصى الوادي، خشخشةِ أغصانِ السَّمُرِ، حركةِ دبيبِ كائناتِ اللَّيل، خَفْقِ أجنحةِ وهميَّةٍ، صدى تَكُسُّرِ سلاسلَ يَجُرُّها الماردُ العاصي، هَمْسِ حوقلةِ أبيه وهو نائمٌ في فراشِه.
عندما زُفَّتْ إلى أبيه كانتْ عائشة بنت علي في مثل سِنِّهِ، وقد رآها وهي تَهْرُبُ تلك اللَّيلةَ من حجرةِ أبيه لتنامَ تحتَ بطنِ أُمِّهِ «العودةْ» التي وعدتْها بالحمايةِ ووعدتْ أباه أنْ تُسلِّمَها إيَّاهُ حالَ نُضْجِها، ثمَّ أطلقتْها لتلعبَ معه وهي تُراقِبُها بعيني نَسْر.
تُوُفِّيَ علي بن عبدالله شيخُ المداخيل قبلَ سنةٍ، وعائشةُ صغرى بناتِه ضُمَّتْ إلى بيتِ عمِّها بعدَ أنْ أرسلتْ أمَّها بعيداً لتلحقَ بأهلِها. ولأنَّ بيتَ العمِّ كان صغيراً ولا يَحتمِلُ فماً جديداً على الصِّينيَّة وافق عمُّها على زواجِها من «العود» شيخِ قبيلةِ «العناوين» مقابل مائتي قرشٍ لا غير.
عائشةُ التي لم تتجاوزِ التِّسْعَ سنواتٍ لم تلبسْ ثوبَ عرسٍ أبداً، بل زُفَّتْ في صمتٍ وبلا زينةٍ، وكان جسدُها ضئيلاً وشعرُها يتدلَّى حتَّى أسفلِ ظهرِها في ضفيرةٍ سوداءَ طويلة. وكانتْ أمُّه «العودةْ» تَغسِلُ لها شعرَها مرَّةً كلَّ أسبوعٍ في حمَّامِ الفلج، ثمَّ تُطيِّبُه بالورس والياس وماء الورد الجبليِّ، وتَلُفُّ ضفيرتَها في كعكةٍ حتَّى لا يظهر من تحت لحافِها. وكانتْ تُعَلِّقُ لِحافَها على غصنِ الغافةِ عندما يلعبان فتفوحُ من ضفيرتِها رائحةُ الوردِ الجبليِّ والياس. وعندما تعتلي الأرجوحةَ يدفعُها عالياً ويغرقُ في مراقبةِ ضفيرتِها التي تنفلتُ وتطيرُ مع دفقاتِ الهواءِ ورائحةِ الياس التي تغمُرُه. وعندما يعتريها الخوفُ من قوَّة دفعاتِه تصرخ به: «بسّ يا محمود… بسّ هبّطني». وعندما تَهْبِطُ يَنطلِقُ صفيرٌ مبهمٌ من رئتيها ولا تقدر على الكلام فتدفعُهُ في صدرِه بيدِها الواهنة لكنَّه لا يقع وهي تَقِفُ في مواجهتِهِ وتُحاوِلُ دفعَهُ ثانيةً ولا يقع، وعيناها الغاضبتان تزدادان غضباً وصوتُ تنفُّسِها يزداد غَوْراً ودَفْعَتُها تزداد ضعفاً وهو يُحِبُّ دَفَعَاتِها وضَغْطَ باطنِ كفَّيها على صدرِه.. فتركُضُ إلى حُضْنِ «العودةْ».
في ليالي الشِّتاءِ كان ينام في المَبْرَزِ مع سليمان وحمود وعلي وحمد، إخوتِه الذين لم يتزوَّجوا بعد. أمَّا حمدان وسعيد وصالح وحميد فكانوا ينامون مع زوجاتِهم وأولادِهم في غرفِهم التي يَضُمُّها حوش «البيت العود» مع غرفِ زوجاتِ أبيه الثَّلاث وغرفةِ «العودةْ» التي لها مَبْرَزٌ مسقوفٌ بالسَّعَفِ ومدعَّمٌ بأنصافِ جذوع النَّخل ينام فيه هو وإخوته.
لكنَّ عائشةَ لم تكنْ تنامُ في غرفتِها التي في أقصى الحوش والتي كانتْ لزوجةِ أبيه الثَّانيةِ أم سليمان وحمود، التي تُوُفِّيَتْ قبل سنتين وهي تضع.. بل كانت تنام عند «العودةْ» التي تَقُصُّ عليها الأخبارَ والحكاياتِ الغريبةَ عن الشُّيوخِ والأمراءِ الذين يمتطون رواحلَهم ليضيعوا إلى ما لانهاية في الدُّروب ويقاتلوا أطيافَ الجِنِّ والعفاريتِ، وعن البنات اللاتي يتربَّين في بطونِ حبَّاتِ الرُّمَّان الضَّخمةِ ويستشهدن بحلّ الحليل على أزواجِهنَّ المسحورين.
عائشةُ تستيقظُ كلَّ صباحٍ لتلعبَ معه ناسيةً قسوتَه في اليوم السَّابق، وتركبُ الأرجوحةَ وتسمحُ له بدفْعِها في الهواءِ بعدَ أنْ يُقْسِمَ لها أنَّه لن يدفَعَها بقوَّةٍ عالياً، ثمَّ لا يلبثُ أنْ ينسى قَسَمَهُ وتبدأ هي في الصُّراخ… ثمَّ تنزلُ غاضبةً وموهَنَةً وتركُضُ إلى حُضْنِ العودهْ لتشتكيه، و «العودة» تَسْتَمِعُ إليهما بصبرٍ كلَّما جاءاها يختصمان.
«العودة» امرأةٌ طويلةٌ، حتَّى إنَّها أطولُ من «العود» بقليلٍ، قويَّةُ البِنْيَةِ ولها أنفُ صقرٍ وعينا نَسْرٍ كان بإمكانِهما رؤيةُ زوايا البيتِ من مكانِها عند عتبةِ المبرز، لكنَّهما لم ترياه وهو يختبئ وعائشةَ وراءَ أشولةِ الرُّزِّ والتَّمرِ في المخزنِ ليلعبا بالصَّدَفِ الذي جَمَعَهُ من الشَّاطئ عندما ذَهَبَ وإخوتَه لجلب الرَّمل، و «العودة» لم تَرَ توهُّجَ عينيه عندما أسكرتْهُ رائحةُ الطِّيبِ في ضفائرِ عائشةَ، ولم تشعرْ بضغطِ باطنِ كفَّيها على صدرِهِ، ولم تَرَ الدُّموعَ التي خبَّأها بحرصٍ عن إخوتِه وهو يقتسم معهم نومةَ المبرز.
كان هواءُ اللَّيلِ بارداً، وهو مُتدثِّرٌ بجلدِ خروفٍ أبيضَ يُقَلِّبُ النَّارَ بطرفِ غصنٍ يابسٍ ليستثيرَ الشَّررَ، وكان أبوه يتقلَّبُ في فراشِه وهو لا يسمعُ إلا استغفارَه وحوقلتَه.
ماتتْ عائشةُ بنت علي؛ هكذا نبَّأهم «الطَّارش»(3) الذي بعثته «العودة»، وهي لم تكن مريضةً، بل كانتْ صِحَّتُها تتحسَّنُ وصوتُ تنفُّسِها الحادّ وصفيرُ رئتيها يتلاشى، و «العودة» تهتمُّ بتغذيتها فتسقيها السَّمْنَ والعسلَ وتَخْبِزُ لها الخُبْزَ المُحلَّى وتشتري لها القشَّاط من عند صانعاتِ الحلوى البلوشيَّاتِ اللاتي يَعْقِدْنَ السُّكَّرَ الأحمرَ في حليبِ البقر الطَّازَجِ وهي تلتَهِمُه حتَّى تَكْبُرَ بسرعةٍ وتَنْضَجَ قبلَ أنْ يفقدَ أبوه صبرَه. وكانتْ وجنتاها تزدادان احمراراً كلَّ يومٍ، وجسدُها يزدادُ استدارةً. وذاتَ يومٍ سمع «العودة» تقول لها: «بتستوي حرمة قريب»، وسمع ضحكات خجلِها.
في أحلامِهِ كَبُرَ أيضاً، وكان الماءُ يُغرِقُهُ في ليالٍ كثيرةٍ فيغتسِلُ بماءِ الفلجِ الباردِ ويتوجَّهُ إلى المسجدِ قبلَ أنْ يستيقظَ إخوتُه، و «العودة» لم تعدْ تُدنيه منها وأصبحتْ تُؤنِّبُه إذا لَعِبَ مع عائشة، وعائشةُ تختبئ في الظِّلال وتنتظِرُه عند المخزن لتُقاسِمَهُ القشَّاط. وهو يأخُذُه ويركُضُ صوبَ الفلجِ، حيث يُبَرِّدُ قدميه ويَبُلُّ رأسَهُ ويَمُصُّ الكِسْرَاتِ على مهل.. ويتصدَّقُ بالفُتاتِ على السَّمكاتِ الصَّغيراتِ النَّائمات في بطن الفلج.
وجسدُ عائشةَ يَكْبُرُ، والعودْ يُرَاقِبُ حركةَ المرأةِ التي بدأتْ تتشكَّلُ فيها، وهي تنفُرُ من مجلِسِه، و «العودة» تقولُ لها: «قريب بتستوي حرمة». وهي تزداد امتلاءً و «العودة» تَقُصُّ عليها حكاياتٍ غريبةً عن النِّساء والرِّجال، ومحمودُ يتنصَّتُ على الحكاياتِ وهو يَحْلُمُ بماءِ الفلجِ يُغْرِقُهُ وعائشةَ تُدَلْدِلُ رجليها في الماءِ وتغرِفُ منه لتَرُشَّهُ به وتضحك، وهو يسحبُها لتغوصَ معه في قاعِ الفلجِ حيث تختبئُ الأسماكُ الصَّغيرةُ اللَّزجة.
حان موعدُ خروجِهم للقنصِ، فَوُكِّلَ محمودُ بقِرَبِ الماء، وعائشةُ كانتْ تُساعِدُه في نَزْفِ(4) الماءِ من بئرِ البيت، وهو يملأُ القِرَبَ التي دَهَنَها بدُهْنِ الماعزِ وجفَّفها في الشَّمسِ وتأكَّدَ من متانتِها، وهي تَشُدُّ الحبلَ حتَّى تَرَكَ أثرَه على كَفِّها وجَرَحَها، وهو رأى الدَّمَ فأخذَ كفَّيها بين كفَّيه، وعندما تأكَّدَ من خلوِّ المكانِ من حولِه لَعَقَ دَمَها بطرفِ لسانِهِ وقبَّلَ باطنَ كفِّها، فارتعشتْ أوصالُها، لحظةً، ثمَّ سحبتْ يدَها من بين يديه، وهربتْ إلى غرفتِها، وأغلقتِ البابَ، وبقيتْ تُراقِبُه من النَّافذةِ وهو يستقي الماءَ وحدَه ويبحثُ عنها بعينيه الغاضبتين.
عينا محمود لم تريا عينَي «سودوه» عندما رأتهما من نافذة المطبخ، و «سودوه» لم تَكْتُمِ البئرُ سِرَّها، بل دفنتْه مباشرةً في صَدْرِ «العودة». و «العودة» وحدَها رافقتْهم حتَّى أطرافِ الحارَة، وعندما هَمَّ أبوه بركوب مَطِيَّتِهِ همستْ في أذنِه بشيءٍ ما فتكدَّرَ، وشدَّ راحلتَه صوبَ الدَّربِ، وانطلقوا في قافلةٍ صغيرةٍ كان محمود في آخرِها يلتفِتُ بين الحين والآخر إلى الوراء.
كان ما زال يُحرِّكُ النَّارَ بغصنِ السّمُرِ عندما هبَّ طِيْبُها عليهم؛ مزيجُ ماءِ الوردِ الجبليِّ والورسِ والياسِ. الرَّائحةُ أيقظتْ أباه من نومِه فجلس ونظرَ حولَه طويلاً ثمَّ استغفرَ واستعاذَ وعادَ إلى النَّوم. أمَّا هو فقد كان يستمع إلى حركةِ لِحَافِها وهو يكنسُ حصى الوادي بأطرافِه، ورائحتُها تأتيه من صوبِ الجبلِ البعيدِ قويَّةً ومركَّزةً. استغفرَ طويلاً لكنَّه لم يستطعِ النَّوم.
كان وجهُ عائشةَ مشرقاً، وفمُها يفترُّ عن ابتسامةٍ خفيفةٍ، وشعرُها المبلولُ يتناثرُ تحتَها في خُصَلٍ طويلةٍ كموجِ البحرِ، لكنَّ عينيها كانتا حزينتين؛ هذا ما قالتْه النِّساءُ اللاتي جئن لغسلِ جسدِها من الماءِ، وهذا ما قاله الرِّجالُ الذين انتشلوا جسدَها من البئرِ التي وقعتْ فيها وهي تستقي الماء لتغتسلَ من دمِها الذي فاضَ مؤخَّراً.
وهكذا وُلِدَتِ الحكايةُ من أصابعِ النِّساءِ اللاتي خِطْنَ الكَفَنَ وحضَّرنَ الحَنوط، ومن دهشةِ الرِّجالِ الذين حملوها من خِفَّةِ جسدِها ومن رائحةِ الورسِ وماءِ الوردِ الجبليِّ التي ظلَّتْ تُرافِقُهُمْ صوبَ المقبرةِ التي على أطرافِ الحارةِ الشَّماليَّة.
عاد محمود مع أبيه من وادي العيون وقد تلاشتْ ضحكتُه واخشوشنتْ ملامِحُه، وأبوه الذي أقلقه نحولُ ابنِه وصُفرتُه تشاور مع «العودة» طويلاً بعد رجوعِه وقرَّرا أنَّه قد آنَ أوانُ تزويجِه، ومحمودُ لم يعترضْ وتجهَّزَ للعرسِ بِمَصَرٍّ جديدٍ وببندقيَّةِ أبيه «البوعشر» التي أهداه إيَّاها، ومحمود لم يَرَ عروسَه التي اختارتْها «العودة» بعنايةٍ من بين بناتِ الشُّيوخ، ولم يَشُمَّ رائحةَ طيبِها التي جاءتْ مزفوفةً بها، بل تربَّع على أرض المبرز أمام أعين أبيه وإخوته ووضع فوَّهةَ البندقيَّةِ على قلبِه وأطلقَ الرَّصاصةَ قبلَ أنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يمنعَه.
في صباحِ الرَّابعِ عشرَ من شعبانَ جاءَ الدَّراويش الثَّلاثةُ إلى الحارةِ كعادتِهم كلَّ سنة،ٍ وتحلَّقَ النَّاسُ حولَهم ليخبروهم عن البيت العود الذي أُقْفِلَ بعدَ أنْ هَلَكَ أهلُه صغيرُهم وكبيرُهم في حوادثَ صغيرةٍ، وأخبروهم عن أصواتِ نواحِ حبالِ الأرجوحةِ وهي تحتكُّ بأغصانِ الغافة المعلَّقةِ عليها، وعن رائحةِ الطِّيبِ التي تَغْمُرُ القريةَ كلَّ مساءٍ، وصوتِ عائشةَ الذي تُردِّدُه البئر: «محمود.. محمود… بَسْ هَبِّطني».
(1) العود: الكبير.
(2) وقايتها: غطاء رأسها.
(3) الطَّارش: الرَّسول.
(4) نزْف الماء: رفْعه.
* قاصة من سلطنة عمان