*عبد الرحيم التوراني
(ثقافات)
بعد عشرين عاما عاد إليها. كان متعبا. منهزما. مكسورا. استقبلته بحنان. عانقته. لم يصدق نفسه. بكى في داخله. نظر إلى عينيها، بدت له أجمل من الأول. لم تخاصمها البسمة، لم تتبدل. تضحك لكلماته ولحكاياته ولطريقته في الحكي. هي نفس من عرف قبل عشرين سنة. تساءل في سره من أي منجم تجلب هذه المرأة الحديدية معادن الصبر والتفاؤل والأمل. ثم استدرك مستغفرا نازعا عنها صفة الحديد. الحديد يصدأ ونعومتها لا تسمح. أحس بالندم. خاطب المهزوم داخله:
– كيف ضيعت موعدك مع الحياة؟
وارتعشت شفتاه، ندت عنه تنهيدة. سألته:
– ما بك يا رجل؟
رد:
– الذي بي هو أنت.
وصمت. ظلت هي صامتة أيضا. رجعت بها اللحظة إلى الوراء. عشرون سنة إلى الخلف. رأته يتخلى عنها ويتركها على رصيف محطة القطار في تلك المدينة التي ليست مدينتها. لم تفهم ما يحدث لها. ولا إلى أي وجهة ستتجه. مرت كل القطارات وظلت هي واقفة فوق الرصيف تنتظر، ولم تكن تنتظر. عندما أحست بيد تربت على كتفها، التفتت تظنه هو جاء يعتذر، كان حارس المحطة ينبهها إلى حقيبة يدها التي نسيتها عند كشك التذاكر، أنكرت أن تكون الحقيبة لها، وخطت مبتعدة عنه. أخذ الحارس حقيبة اليد واتجه بها صوب مستودع الأشياء الضائعة، وهو متأكد أن الحقيبة تعود إلى هذه المرأة الغريبة النظرات. لما سمعت الرنات المميزة لهاتفها المنقول هرعت تصيح:
– انتظر.. انتظر.. إنها حقيبة يدي يا سيدي.
وقف الرجل واستدار ليسلمها الحقيبة، لم يكن حارس المحطة أمامها، كان الرجل الذي سلمها لرصيف الانتظار. يستعجلها أن يركبا القطار الذي كان يهم بالانطلاق. أنكرت أنها تعرفه، قالت له:
– من أخبرك عني أني مسافرة؟ أنا هنا أنتظر مسافرا قادما من محطة ربما كنت أنت ذاهبا إليها.
تحرك القطار وغابت عرباته في النفق الذي يخترق الجبل. فتحت الحقيبة وأخرجت منها هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين، كلمت شخصا ما. كانت تعتذر له عن عدم التزامها بسبب تأخر موعد القطار. انتبهت إلى أن الصوت الذي يهاتفها يطابق صوت الواقف أمامها. أغلقت الهاتف ورفعت رأسها إليه، كان هو بنفس النبرات والصوت الرخيم يكمل الجمل المنطلقة من الهاتف. نطق إنه هو الأولى بتقديم الاعتذار لا هي. أخذها من ذراعها واتجها خارج باب المحطة. سألته عن ظروف السفر. لم يكن على استعداد ليحكي لها كل التفاصيل، لأن التأخير استغرق مدة عشرين سنة. ظل صامتا. ندت عنها تنهيدة. سألها ما بك حبيبتي؟ لم ترد. وتساءلت في سرها:
– هل حقا أنت حبيبي؟
ثم وجدت نفسها تبتسم ثم تسترسل في ضحكة طويلة. استفسرها عن ما الذي يثير قهقهاتها. لم ينتظر جوابها بل انخرط معها في ضحكها غير المعلل. توقفت. سألته عما يضحكه؟
– إذا كان لديك أنت جوابا عن ضحكك فأنا أيضا سيكون لي جوابا.
ردت عليه:
– أنا أضحك من حارس المحطة، فالحقيبة والهاتف ليسا لي، والذي كلمني ليس لي كذلك. إذن قل لي أنت الآن سببا واحدا أضحكك.
نظر إلى عينيها الجميلتين وقال:
– أضحكني أنك لم تتعرفي على حارس المحطة الذي لم يكن غيري أنا، أما حقيبة اليد والهاتف فهما لك، والذي كلمك هو صوتي مسجلا. وأنا الواقف الآن أمامك لك أنت، وكلي لك وحدك.
نظرت إليه وانحبست الكلمات على شفتيها، قبل أن ترسم على وجهها تعبيرات إيمائية تبوح بالشيء الكثير. وكمن تحدث نفسها قالت:
– بعد عشرين سنة…
لم يفهم، أو هو أرادها أن تتكلم وتفصح أكثر. ودعته تاركة إياه على الرصيف، وكان آخر ما سمعه منها:
– الكلام كثير لكن السكوت أفضل.
_________________
* أديب من المغرب.