د.خلود جرادة
أن تكون رفيقًا للجبل ، فهذا يعني أنك عاشق تدق بقلبك أبواب السماء ،وأنك تسيل على حوافّ الغيم حبّا ، وتهمس في أذن القمم العالية بأن تبثّ أشواقك مع النسيم إلى الحبيب .
أن تصعد إلى الجبل ، وتجلس هناك ، حيث تمتدّ حواسّك وتفرد أجنحتها بعيدا عن حدود الجسد ، وتتماهى بعيدا عن الطين الذي جبلت منه، إلى حيث النور الذي منح الطين سرّ الحياة ، وسرّ اللون ، وسرّ انجذاب الفراشة إلى الحياة ، كلما اقتربت من الضوء ، فإن هذا يعني أنك تصعد درجات في سلّم الوصول إلى سرّ الله الذي أودعه في قلبك .
وأن تتخذ من الجبل قمته أو سفحه ، مكانا ترعى فيه غزالات القلب هواها ، وتبعث في أذن السماء ونبض الأرض نور البوح ورؤاه ، فهذا يعني أنك اتخذت من الجبل شاهدا عليك وعلى قلبك ، وأنك خبأت هواك وشجى القلب وسر الفرح ، في قلب دافئ ، كل صخرة وحجر وحصاة فيه ، تبعث الحب فيك وتهبك الأمان .
هي الجبال إذن ، أوتاد الله المزروعة على الأرض وفيها ، وشرفة الروح المفتوحة على السماء ، ورحلة الرؤى في صعودها إلى ما وراء البصر والسمع ، إلى حيث العوالم الخفية المحفوفة بالمعرفة المستترة خلف حجب الغيم وأبواب السماء .
الجبال ، شهادة على الحياة
إنها الحياة تتكئ بنبضها على شرفات الجبال ، وتجعل منها أجنحة تحلّق بها الأرض في عالم مفتوح على السماء ، وعلى الرغم من أن الأرض كلها تدور في فلكها ووجهها يتطلع إلى السما ومفتوح عليها ، إلا أن الجبال وجه آخر وشرفة لها مذاقها ، إنها عالم يفيض بالحياة وبالروح التي تشرق بها الحواس وتزهر ، فقد منحها الله صفة الإنسان ، وكرمها على سائر تضاريس الأرض ، بأن جعلها شاهدا على تكليمه لموسى عليه السلام ، وتكليفه عند جبل الطور ، وألقى عليه دفق الحياة حين تصدّع وخشع لتجلّي نور الله ، وشرّفها حين خاطبها آمرًا إياها بأن تسبّح مع نبيّه داوود عليه السلام .
وحين فاض الفرح والحبور بجبل أحد ، لوقع خطى الحبيب المصطفى عليه السلام ، فاهتز وارتعش رعشة الحبيب للقاء حبيبه ، خاطبه عليه السلام خطاب المحبّ : ( اثبت أحد ) وليس أجمل ولا أرقّ من تودّده عليه الصلاة والسلام لهذا الجبل ، الذي تنبض حجارته وصخوره حبًّا وحياة حين قال : ( أحد جبل يحبنا ونحبه ) .
وإلى هناك ، كان المصطفى عليه السلام يأوي بروحه ليتأمل ويتفكر في غارحراء ، وكان يحرر الروح من عالم المادة التي كان يغرق فيها أهل مكة ، وهناك في أعلى الجبل ، نزل النور الإلهي ، حيث صوت الضمير يفترش المكان ، ويعلو على صوت التراب ، ومن أعلى الجبل أيضا كانت هجرته عليه السلام من غار ثور ، هجرة إلى الله ونوره المبين .
وقد يمّم الشعراء ركائب قلوبهم إلى الجبال ، فجعلوها شاهد صدق على مسارح حبهم وقصص عشقهم ،وشريكا وفيا لهم ، وقلبًا أودعوه أسرارهم وبثّوه أحزانهم وأشواقهم ، فما وقفت الجبال جامدة صامتة أمام ما فاضت به قلوبهم ، بل كانت خير الرفيق والصديق ، واليد الحانية التي مسحت على قلوبهم وربتت عليها ، فهذا قيس بن الملوح ، يفيض به الشوق ويسيل على أطراف القلب وحواف الروح ، فيثير فيه حنان جبل التوباد لوعة البوح وشجن الشوق ، كطفل مختنق بحزنه يرتمي قيس بقلبه في حضن الجبل ويجهش بالبكاء لمرآه :
وأجهشتُ للتوبادِ حينَ رأيتُه
وكبّر للرحمن حين رآني
وأذريْتُ دمعَ العين لمّا رأيتُه
ونادى بأعلى صوته ودعاني
إنها ذروة الحسّ والتفاعل العاطفي من جبل يبدو للعين جامدًا ، ولكنه يفور بالحياة ودفء العاطفة ، إذ يحتضن لوعة قيس وشجنه ، فيخاطبه قيس ملتاعا :
فقلتُ له أين الذين عهدتّهم حواليك في خصب وطيب زمانِ؟
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى مع الحدثانِ؟!
هذه الجبال التي أبت أن تحمل الأمانة التي عرضها الله على الإنسان لثقلها ، حملت أمانة المحبين وذكريات العشاق ولوعة قلوبهم وشجن بوحهم ، وربما حملت أمانتهم رفقا بهم وتوددا ورحمة بقلوبهم المكلومة ، فها هو جبل الريان يعيد لجرير شيئا من فرح ذكريات مرّت ، حفظها له وصانها :
وحبّذا نفحاتٌ من يمانية
تأتيك من قِبَلِ الرّيّان أحيانا
هبّت شمالًا فذكرى ما ذكرتُكُمُ
عند الصفاة التي شرقيّ حورانا
وكما ارتعش الجبل حبًّا لوقع خطى المصطفى عليه السلام ، وتصدّع لقول الحق تعالى ونوره ، وهدهد حزن العشاق ولوعتهم ، فإنه قد وقف مع الشاعر الأندلسيّ ابن خفاجة ، حزينًا ملتاعًا ، متعبًا من أعباء الحياة ووطأة رحيل العابرين ، هذا الرحيل الذي كان الجبل شاهدًا عليه ، يخبئ حزنه في ضفائر الصخور ودمع الحصى ، فهاهو الجبل يئنّ تحت هذا الألم قائلا :
فحتى متى أبقى ويظعن صاحبٌ
أودّع منه راحلًا غير آيبِ؟
وحتى متى أرعى الكواكب ساهرًا
فمن طالعٍ أخرى الليالي وغاربِ؟
ومن الشعر إلى الأغنية الفيروزية ، حيث يلبس الجبل عباءة السفير ورسول المحبة ، وبريد المشتاقين ، حيث يتهادى نداؤها الملتاع للجبل البعيد حيث سكنى الأحباب :
يا جبل البعيد خلفك حبايبنا
بتموج مثل العيد وهمّك متعبنا
اشتقنا عالمواعيد ، بكينا تعذبنا
يا جبل البعيد قول لحبايبنا
وإذ ينتصر الغائبون على منافيهم ويعودون ، يكون الجبل عند فيروز هو الموئل والشاهد والحبيب الذي يشرع مداه لفرح العائدين وحزن المنتظرين ، وعلى قمته يكون لقاء الأحبة ، حيث تتسامى الروح وتتماهى لتشرق بنور السماء ، ذاك النور الذي يبدد عتمة الأحزان ولا يليق إلا بالجبال ولا يمنحه إلا هي :
يافا وحيفا كتاب قصة معاركنا
بكرا ندقّ الباب ونعلّي رايتنا
فوق الجبل الأحباب بكرا يلاقونا
والأهل الأصحاب يحيوا ليالينا
هكذا جاء صوت فيروز مغزولا بصدى الجبال .
الجبال ، مأوى
الأرواح ومهبط الرؤى
هنااااك ، في أعلى الجبل ، أنت تتحرر من قيود التراب الذي جُبلتَ منه ، وتطلق أسر الروح المحبوسة ، وهناك ، في أعلى الجبل ، يتردد صدى صوت الضمير الذي تحرر وانفلت من أسر الجسد.
هناك ، حيث تأوي الروح إلى عزلة الجبال وصمتها وهدوئها ، وتنبعث في النفس ومنها طاقات التأمل الكبيرةوالخلّاقة ، وتسكنها غلالات النور السماوي ، وتسترخي على كتفيها جدائل الحبور .
قمة الجبل هي أقلّ الأماكن ترابًا وتجرّدًا من عالم التراب ، وأكثرها صمتًا ، وما ارتقاء الإنسان تلك القمم والاطمئنان إليها والمكوث فيها ، إلا رغبة في الانفلات من جسد الأرض والتراب ، إلى عالم الروح والسماء ، وكلّ خطوة يخطوها إلى الأعلى ، يفك عن نفسه بها قيدًا يشدّه إلى الأسفل ، وفي كل نظرة يرنو فيها إلى القمة المشتهاة ، فإنما يخطو فيها خطوة إلى الارتفاع عن عالم السقوط وفكرة الاندثار ، فقد كرمها الله بوصفها ( شامخات ) ليحثنا مرآها على رفض السقوط والاندثار ، وإلى السعي الحثيث نحو العلو والخلود ..
هناك في الأعلى ، أنت متوحد مع سكون الكون عند بدء الخليقة ، ذلك السكون الذي يسبق انسلاخ الليل من النهار ، وانفصال الأرض عن السماء ، ورحيل الجنين عن رحم أمه ، إنه ذلك الاتحاد والامتزاج النورانيّ الشفاف بينك وبين طهارة الروح عندما نفخت فيك للمرة الأولى ، وثمة رعشة تخترق الجسد هناك ، كحدّ السيف هي ، كوميض من النور ، كانفلات الوعي في مدارات الغيب وما وراءه ، كنشوة التحام جسدين عاشا لحظات حب حميمة .
أنت هناك في الأعلى ، أنت ، كما خلقك الله للمرة الأولى ونفخ فيك طهر الروح وسرّ التكوين ، أنت البدائيّ الأول ، متجرد من كل ما يلتصق بالجسد من درن ، وربما لهذا السبب أقام النسّاك معابدهم على رؤوس الجبال وحوافّها ، فقد بنى الصينيون معابدهم في أكثر مناطق الجبال وحوافها خطورة وارتفاعا ، حيث اتصال الروح بالخالق تكون في ذروة تألقها وانسلاخها عن الجسد ، وحيث تجلّي الحضور الإلهيّ في روح الإنسان وفي السماء المسترخية فوق المعابد ، وهناك تكون العزلة إلا من سكون الكون ، والخلوة ، إلا من حضور النور والعظمة الإلهية .في المعابد هناك ، في قمم الجبال ، تنصهر القلوب لتصبح كهوفًا يقيم فيها النور ويشرق فيها الله ، ولا يصل إلى هذه المعابد أو يتبتّل فيها ، إلا من كان أهلًا لهذا الالتحام النوراني ، والإشراق الإلهيّ ، والاتصال الروحيّ بالقوة العظمى التي ينبثق عنها الكون .
ولننظر معا إلى ذلك الخاطئ الذي ورد ذكره في ( العهد القديم ) في المزمور (121 ) من مزامير داود ، وما منحه إياه التأمل في الجبال من إشراقات نورانية ، فهو يقول عند عودته ( أرفع عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني ) فهذا الخاطئ العائد ، لا يصرخ ولا يبدأ بالعويل ، بل يرفع عينيه إلى الجبال ويتأمل فيها ، وفي السماء فوقها ، ليخرج من أرض الخطيئة وتتحرر روحه منها ، ليرى بعد ذلك ، أنه تحول في طهارته وارتقائه ، إلى جبل لاتكاله على الربّ .
وفي الأساطير اليونانية ، يتجلى الجبل في أبهى صوره وأكثرها قداسة في جو الأسطورة ، حيث تتخذ الآلهة الاثنا عشرة ، من جبل الأولمب مقرا لها ، تطلّ من قمّته على العالم وعلى ساكنيه ، وتدير أجساد الناس وقلوبهم من أعلى الجبل .
الدفن السماويّ
إن التمرد على فكرة الموت والاندثار ، والرغبة في البقاء والشوق إلى الخلود ، هو الغاية التي سعى إليها الإنسان على مر الزمان .
ولم يجد وسيلة يتمرد فيها على الموت والاندثار ، ويحقق لروحه من خلالها الخلود والسلام ، سوى الجبال ، فأوى إليها ولجأ بروحه إلى قممها وكهوفها ومغاورها بعد الموت ، فالجبال هي نقيض الفناء ببقائها شامخة في وجه الموت ، وهي صورة الخلود على الأرض بعد اندثار الجسد تحت التراب ، لذا فقد لجأ الإنسان عند بعض الشعوب ، إلى قمم الجبال ليحقق لنفسه هذه الغاية ، ويهب روحه وأرواح موتاه الخلود والبقاء ، فنجد الناس في ( التبت ) يضعون أجساد الموتى على قمم الجبال دون دفن ، هكذا وفي مواجهة السماء ، فيما يعرف ب ( الدفن السماوي ) حيث يجعلون هذه الأجساد طعاما للنسور، لتسكن أرواحهم أجساد تلك الطيور ، التي لا ترضى غير الجبال مأوى لها ، وبهذا تظل أرواح موتاهم محلقة في السماء ، وهذا كرم للميت أي كرم بالنسبة إليهم ، أن تحلق روحه مع النسور في السماء .
ولا يختلف الإنسان في أوروبا والشرق الأوسط عن أهل التبت في هذه الرغبة ، فقد اتخذوا من الكهوف المحفورة في الجبال موطنًا لجثث الموتى ، ليواصل الميت رحلته من هذه الجبال إلى العالم الآخر .
وتبلغ فكرة التمرد على الموت ذروتها عند أهل بعض القرى في فلسطين في القرن الماضي ،حيث كانوا يضعون أجساد موتاهم دون دفن ، في الكهوف والمغائر المحفورة في الجبال ، يسجّى كالنائم ويترك هناك في الجبل ، ربما ليمارس حياته الخالدة الأخرى في عالم الروح والنور ، بينما يزوره أهله بين الحين والآخر ، ربما ليؤكدوا لأنفسهم ، انتصارهم على الموت .، ويبدو أن الجبال في ذلك الأمر أصبحت البديل الناجح لإكسير الحياة ، الذي حاول الإنسان جاهدا أن يحصل عليه من الطبيعة ، لينتصر به على فكرة الفناء .
الجبال في سِفْر الأمومة
وإن كانت الجبال تمنح الإنسان إحساسا بالخلود بعد الموت ، فإني أرى فيها صورة للأمومة الخلاقة ، التي تحفظ توازن هذه الأرض وتمنحها الثبات والاستمرارية الواثقة ، فهي وتد هذه العائلة الكونية ، وأساس الأمان فيها ، أنهارها وسهولها ووديانها وكائناتها.
صور مختلفة للجبال ، ارتفاعات متنوعة وأشكال أكثر تنوعًا ، صور مختلفة لأم واحدة ، وكأنها تراعي في اختلاف صورها وهيأتها ، حاجة المكان الذي تتولى رعايته وحمليته ، حاجة المكان الابن ، فمن جبال شاهقة جرداء إلى خضراء إلى جبال ثلج وأخرى من الضباب وغيرها من الغيم ، وفي كل صورة لها وشكل ، تبث الحكايا وتزهر بالأساطير التي تطلّ من بين الصخر والحصى .
إنها عالم الكائنات ومجتمع الأمومة الحي بكل تجليات المعنى ، فلا تكاد تشعر بالأمان والحماية في أرض منبسطة لا جبال فيها ، فأنت دونها في ساحة الصراع وحدك ، مكشوف دون حماية ، ودون أم تذود عنك وتصدّ عن جسدك عويل الريح وغضب الطبيعة .
إن المتأمل لجبال وادي رم من الأعلى ، يرى بوضوح وجلاء ، تلك الأمومة الجبلية في أجمل معانيها ، حيث تأخذ الجبال شكل الكائنات الحية في كل تفاصيلها ، ولكنها كائنات جبلية ، فهذا الجبل يأخذ شكل نسر يفرد أجنحته ، وذاك على شكل حصان جامح ، وثمة تلال تأخذ شكل قطيع يتقدمه راع، إنها عالم من الأمومة والحماية ينتصب أمامك ، شاهدًا على خلود الأرواح والحياة في هذه الجبال .
وهل الماء الذي يسيل من صخورها ، والثلج الذي يقطر من قممها إلى سفوحها ، إلا حليب أم لوليدها؟
وقد أدرك الإنسان في العصر الحجري هذه الأمومة فيها ، فاتخذ من كهوفها أرحاما تعود إليها الأجساد بعد موتها ، لتنبعث فيها حياة الأرواح من جديد بعد فناء الأجساد ، لذا فقد كانوا يضعون أجساد الموتى ملتفة على نفسها كالأجنّة في جوف جرار فخارية ضخمة ، يحفظونها في الكهوف ، أرحام الأمهات التي تولد فيها الحياة .
وفي اعتراف مدهش لافت من الإنسان بأمومة الجبال وحنوها ، وفي تأكيد لمعنى الحماية والأمن الذي يسكن وجدانه ولا وعيه ، نجده يأوي إليها عند خوفه ، ويحتمي في حضنها وكهوفها ومغائرها ، ففي قصة أهل الكهف ، التجأ الفتية إلى الجبل ، والمطاردون الخائفون يلوذون بها ، وقد روي أن لوطا عليه السلام وابنتيه قد لجؤوا إلى الكهوف هربا من قومهم .
إنها الحركة الفطرية الطبيعية ، التي تدفع الطفل الصغير إلى الاختباء في حضن أمه عند شعوره بالخطر ، وما تلك الجبال إلا الصورة الأكثر ثباتا للأم في وجدانه
إنسان الجبل ، سكن متبادل
حين ترى الضباب بسحره الذي يسيل من أطراف السماء ويرشح من أصابع الغيم ، لا تلبث وأن تتساءل : هل هذا الضباب هو روح أهل الجبال ، التي تخرج من قوارير الحكايا ودفقات الحب والشوق ، لتهمي على وجه الأرض ، وتكشف لها عن سحر التحليق ودهشة الانفلات ، فتأخذ بيد الأرض إلى الأعلى، إلى حيث المدى الأزرق وغلالات النور وغزالاتالأساطير الشاردة ؟ هل حقا هي الجبال أجنحة الأرض التي تحلق بنا بعيدا ؟
فلنمسك بيد الجبال الممدودة إلينا ، ولنصعد إلى حضنها ، لتعيد تشكيلنا من جديد ، أناسًا جبليين ، إلى صدقنا يأوي المتعبون ، فها هوالجبلي يهتف في ضمير الإنسان : (أعطني إحساسا بالحق والصدق ، حتى أستطيع التمييز بين الأمور الملتوية والأمور المستقيمة )
تأملوا في غزلان الجبال وأيائلها ، وانظروا إليها كيف تتأمل موضع أقدامها ، عند تجوالها بين الصخور صعودا وهبوطا ، إنها علاقة حب متبادلة وحميمة بين القدم وموطئها على صدر الجبل ، وحذر السقوط المميت ، حين لا تدري أين تخطو ولا كيف ، هذا ما علمته الجبال لساكنيها ( لا تخلع نعليك من قدميك قبل أن تقترب من النهر )
ارحلوا بأفئدتكم مع النسور ، إلى حيث تلتحم بجدائل السماء وتسكن خصلات شعرها ،ثم تأوي إلى هامات الجبال لتستريح .
إن ساكن الجبل لا يختلف في تحليق روحه واتحادها بقلب السماء ، عن النسور ، فهو إنسان غربلته الجبال بصفائها من دونية التراب ، فتراه نسرا يحلق بأجنحة سكنه ومأواه فيقول ( أنا إنسان لا أفعوان ، أحب الأعالي ، الصفاء ، الطرق المستقيمة )
ومن علو الجبل وسموّ رؤاه ، حيث لا ينظر إلى الكون إلا بعيون السماء ، نرى الجبلي لا ينظر إلى الإنسان إلا بعين الله ، الذي كرم الإنسان واصطفاه بنفخة الروح فيه فيقول ( لم يكن حكيما ، لا ولم يكن شجاعا ، ولكن ، انحنِ له ، فقد كان إنسانا )
الإنسان بكل مقوماته : بلغته التي لا بد أن تعيش في القلب قبل أن تخرج لتواجه العالم ،وبقلبه الذي يحمل الحب والوفاء لأخيه الإنسان ، ويحمل هسيس النارعلى أعدائه . وبأغانيه التي لا يعيش دونها ، فلا يفرح دونها قلب ولا يزهر فرح ولا ينمو عشب وبلا ترعى ماشية ،فهو إن غنى ، غنى للجبل والزهر والماء والندى ، وإن فار الصوت بالشجن غنى للحب والشوق ، وإن حنّت الجبال وتحرك الحصى ، غنى لصليل السيوف وصهيل الخيل ومقارعة الأعداء ، وكأن الجبل وما فيه من كائنات ، إنما هي قلوب تستقبل لغة السماء وأناشيدها ورضا أطياف النور وأرواح الساكنين في الأعالي .
وبصدقه الذي إن غادره ، نبذته الجبال ونزعت عنه رداء الحماية وسحر الدهشة ، وسلبت منه إيقاع القلب وأغنياته ، فتراه كحصاة ملقاة في السفح ، لا تصل إليها عين الجبال ، لهذا فإن الجبليين أحرص ما يكونون على الإنسان فيهم ، ويعلمون أنهم دون روح هذا الإنسان ، فإنهم منبوذون ، ومطرودون من أمومة الجبال وحضنها فيقول الجبلي : ( بع الحقل والبيت ، وافقد كل ما تملك ، لكن لا تبع الإنسان فيك ولا تفقده ، وحين يتطرق الحديث عن إنسان تافه منحط ، يحسمه الجبليون بقولهم : لا تهدروا الكلمات سدى ، إنه ليس إنسانا .
إنها الجبال ، الشاهد الصامت الحي ، على الحياة ، وآخر الأحياء الذين يفارقون الحياة على هذه الأرض ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) المزمل 14
* كاتبة وأكاديمية من الأردن
( الرأي )