السنديانة


موسى إبراهيم أبو رياش*

( ثقافات )

لم يستطع إبراهيم النوم، فقد نهشه القلق والتوتر، وبقي مستيقظاً يترقب شروق الشمس، فثمة حادث جلل سيحدث هذا الصباح. بيت أم خليل سيهدم بالجرافات الصهيونية بعد أن انتهت مدة الإنذار، بعد تأجيل وتأجيل بوساطة المحامي، وأم خليل ترفض إخلاءه حتى هذه اللحظة، وتصر على تجاهل التهديد، بل وأعلنت تحديها لهم على الملأ، وصرخت بأعلى صوتها: أعلى ما في خيلكم اركبوه، فبيت ولدت فيه لن أموت إلا فيه، وسترون أيها الأنذال. ولم تجدي محاولات المحبين ثنيها عن عزمها، فالموت يتربص بها إن أصرت. فكانت تبتسم وتقول: لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون. يحاولون أن يستعطفوها وأنهم في حاجة إليها وإلى وجودها بينهم سنديانة شامخة. تخاطبهم وعيونها ساهمة، شاخصة إلى المجهول: وما أدراكم، فربما كنتم إلى موتي أحوج؟!
وحده إبراهيم من سكان القرية يعرف سرها، ويفك طلاسم حديثها بين السطور. فأم خليل بالنسبة إليه الأم والجدة التي رعته بعد موت الأم، واستشهاد الأب. فكانت له السند والمعين، والبيت الدافئ الحنون، الذي يجد فيه راحته كلما حزبه أمر، أو ناءت عليه الدنيا بكلكلها. ولم يخيب رجاءها؛ فكان لها الساعد الأيمن، وابنها البار المطيع، وكاتم أسرارها، وحلقة الوصل بينها والآخرين خارج القرية.
عرفت أم خليل بالسنديانة بين أهل القرية وما جاورها، فقد كانت حكيمة القرية، وملجأ الضعفاء والمظلومين من أهلها، ومصلحة ذات البين، ذات الرأي السديد، والقول الفصل، لا يلجأ إليها أحد إلا أنصفته، وكم من خلاف أنهته، وخصومة فصلت فيها، ومشكلة حلتها.
قدر أم خليل أن بيتها يشرف على مستوطنة صهيونية بغيضة، وحاول هؤلاء أن يشتروا بيتها وأرضها فرفضت مجرد الحديث في الأمر، فجن جنونهم. حاولوا إغراءها بالنقود والنفوذ، فرفضت، لجأوا إلى التهديد والتخويف فما لانت لها قناة. استعانوا بحاخاماتهم وممثليهم في الكنيست، فرفعوا القضية تلوة القضية بحجة تهديد أمنهم، وأن بيتها يشكل خطورة على وجودهم، خاصة بعد انطلاق أكثر من عملية ضدهم من القرية، فكان لهم أخيراً ما أرادوا، فحكم بمصادرة أرضها وهدم بيتها لأنه يشكل تهديداً لهم، ونقطة حرجة لا يمكن السكوت عليها.
يتذكر إبراهيم حزيناً وهو يجلس على مرتفع يشرف على بيت أم خليل مواقفها الرجولية التي لا تنسى، فقبل أيام جاءها مختار القرية يطلب منها أن تكف عن عنادها، وتخلي البيت، فما نجح من تحدى الاحتلال، ومن فعل فمصيره محتوم معلوم. لم تكلمه بل التقطت من الأرض غصناً طويلاً، وهزته في وجهه إشارة الانصراف، وإلا وجد ما لا يسره. فانهزم مخذولاً يجر أذيال الخيبة والخسران، كجرو مذعور لا يلوي على شيء. وهو موقف تمنى أن تخسف به الأرض قبل أن يتورط فيه، ولكنه يعلم أنه عبد مأمور لا يملك من أمر نفسه شيئاً.
وإن ينسى إبراهيم فلن ينسى هو وكل أهل القرية ذات صباح عندما أشهر عليها جندي صهيوني رشاشه لإخافتها بعد أن رفضت أمره بالابتعاد، فهجمت عليه بجرأة، واستولت على سلاحه وصوبته نحو رأسه، فخر أرضاً يستعطفها ذليلاً مهاناً، فأفرغت سلاحه من الرصاص، وألقته أرضاً، وركلت الجندي ليبتعد، فتناول سلاحه وهرب خائفاً يترقب.
كل من يدخل القرية أو يخرج منها لا بد أن يشاهد أم خليل تعمل في بيارتها، تقلم الأشجار، أو تزيل الأعشاب، أو تعزق الأرض، أو تزرع بعض الخضار، أو تقطف الثمار. وكانت ترفض المساعدة، لأنها وحدها تعرف لغة أشجار وخضار بيارتها كما كانت تقول لمن يحاول مد يد العون لها. ولكنها في المواسم وخاصة موسم قطاف الزيتون لا ترفض أي مساعدة أو عون، ككل أهل القرية، فكل يساعد الآخر، وهم يرددون بحب “ربع تعاونوا ما ذلوا”.
كان وجود أم خليل يمد أهل القرية بالقوة والعزم والشجاعة والأمان، كانت زعيمة القرية ورئيستها دون منازع، لا يرد لها أحد طلباً، بل ويتمنى كل منهم أن يحظى بشرف مساعدتها وتلبية أوامرها. كانوا يشعرون باليتم والضياع إن لم يروا أم خليل يوماً، فقد تعودوا عليها ركناً من أركان القرية ومن ضروريات العيش فيها. وجداراً يجد فيه الجميع ملاذاً يركنون إليه، ويطمئنون إلى ثباته وصلابته.
وحده إبراهيم يعرف ماذا سيحدث، ولن يحاول أن يمنع ذلك، فالخطة يجب أن تنفذ كما يريد الطرف الأقوى، حسب قانون الوجود الأزلي. وهو لم يشك لحظة أن أم خليل هي الطرف الأقوى مقابل جيش الدفاع الصهيوني الجبان.
كل سكان القرية مدينون لأم خليل بشكل أو بآخر، وحبها مستقر في قلوبهم، ولذا خرجوا عن بكرة أبيهم في انتظار وصول الجرافات لهدم بيت أم خليل، وقلوبهم مضطربة، يدعون الله أن تستجيب أم خليل لتوسلاتهم، قبل أن تدفن تحت أنقاض بيتها الطيني القديم. ولكنهم التزموا بطلبها أن يبقوا بعيدين لئلا يستفزوا هؤلاء الأنذال المغتصبين.
صوت الجرافات يقترب، والأنظار شاخصة صوب بيت أم خليل، والقلوب وجلة؛ تعبيراً عن حب ملك قلوبهم، وعرفاناً بجميل لم ينكروه يوماً، ولكن ثمة طمأنينة غريبة تملأ قلوبهم، وسكينة تتشربها نفوسهم رويداً رويداً، فما خيبت أم خليل ظنهم يوماً.
يصطف الجنود في نصف دائرة على مدخل بيت أم خليل، والجرافة من خلفهم تنتظر أمر الهدم والتدمير، وتعالى صوت جندي ينادي أم خليل أن تخرج قبل فوات الأوان، وينذرها إلى العد العاشر.
لا صوت في الداخل، وقد ابتدأ العد. 1، 2، 3، …
يسمع صوت باب، والعد يستمر 4، 5، 6…
صوت أوان معدنية ترتطم بالأرض، 7، 8، 9، ..
الباب يفتح، وتطل أم خليل كنخلة شامخة، كسيف صقيل لا ينثني، تثبت طرحتها(منديلها) جيداً، تتأكد من حزامها الصوفي العريض، ثم يدوي صوت، وتتعالى انفجارات في محيط البيت، وتحت أقدام الغزاة، وتحترق الجرافة. فيعلو التكبير والتهليل في الجمع المتحفز، وتتعالى صيحات الفرح والنصر، تخالطها دموع الفراق لأم خليل التي أبت إلا أن تكون عظيمة في حياتها عظيمة في مماتها.

* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *