مفلح العدوان *
أثر قديم
البدايات.. ما زالت آثارها باقية..
تنزّ متسللة على شكل اسم أو قصة أو حنين يتوارى خلف تنهيدة تتحسر على الزمان البكر..
وتبقى لثغات البدء راسخة كأنها الشاهد الأصدق على العذرية الأنقى في «أم العِرقان» بكل ذاكرتها، وحجارتها، ومداميك بنيانها، والنوافذ، والأبواب.
لقد بقيت كما وعيتها أول مرة..
يا ل «أول مرة» كم تحتمل من تراكمات تتعالى عليها دروب تنفتح منها، وتظلّ ممتدة حتى آخر العمر..
وهذه حال المبنى القصر حين فكر «تركيٌّ» ما، مرّ من «أم العرقان»، ورأى فراغا قرب عين ماء، رأى المكان كأنه مهيأ له، وحوله قرية بأكملها تنتظر من يأتي ليعلي حجرا فوق حجر، ليصير صرحا هناك، الصرح يتعالى من حجارة لم تشهد مثلها «أم العرقان»..
هكذا كان البدء كما يروي الراسخون في تركيب قصص الأشياء من نُتف، وشتات «سواليف» يلتقطونها من أي كهل تناهى إلى وعيه بعض حكاية المكان: بعضهم يقول إنه بُني على أثر عتيق، فيه حجارة من بقايا عاد، ورمل من ركام مأرب، وحصى تناثرت من مناقير طيور أبابيل مرت فوق القرية ذات عقاب مضى، وقد جبل التراب الذي حشي بين تلك الحجارة بماء آسن كان من بقايا ما استقر في القيعان بعد هدوء الطوفان الأول.. من كل تلك البقايا كان أساس البناء، وقد شُيّد عليه القصر..
غير أن ما بُني على كل هذه الذاكرة لا بد أن يُحمل على محفة الغرابة، فيتنامى اختلافاً، ويضيف عجباً آخر فوق تلك الأعاجيب.
«التركيّ» الذي أراد هذا كان يعرف بواطن الأرض، ويعلم كثيرا مما بُني عليها، ومن سكن ظاهريها، فكان يصاحبه آنذاك مغربيّ اسمه «البهلول»، ورجل صوفي حجازي يقال له «ابن التنور»، وكأن قربهم من المكان قارب بين قلوبهم، وحنّن حالَهُم أكثر نقاءُ الماء الذي وجدوه زلالاً عند أول حضور لهم، بينما كان الناس في «أم العرقان» بسطاء، طيبين، ينتظرون أي قادم كي يتابعوا سيرته، كاسرين صمت الصخر حولهم، ورتابة الحياة عندهم، لينسجوا حكايا جديدة يرْوونها لأبنائهم، ويوَرِّثونها أساطير لأحفادهم حين يضيفون على القصص التي شاهدوها أحداثاً أخرى من وحي الأماني المستترة في بواطن أرواحهم..
في حضرة الماء
مرّ الثلاثة قرب مسقط الماء، عند النبع.
كُنّ نساءً يَرِدْنَ هناك، ويحملن قِرَب الماء على ظهورهن، بينما يحمل بعضهُنّ القِرَب على الدواب..
هيئتهم توحي بغربتهم، لذلك فإنهم ما إن اقتربوا منهن حتى أفسحن لهم الطريق، فاجتازوا حاجز النساء، ولم يلمسوا الماء، بل قرفص ثلاثتهم أمام الخيط المقدس للسائل الطهور، وأخذوا يتأملون انسيابه بين الصخور من أعلى الجيل، وسقوطه إلى مستقره في البركة المتوارية بين الصخر، قبل أن يتابع جريانه، أو يحتجب متسللاً نحو بواطن الأرض.. يراقبون الماء، ولا ينبسون بأي كلمة!
النسوة، ابتعدن، وتركن النبع..
النبع فرغ إلا من الثلاثة الذين أخذوا يتأملون الماء، وهم يُكَتّفون أيديهم على صدورهم كأنهم يؤدّون الصلاة..
الصلاة التي لم يرَ أهل «أم العرقان» أحدا يؤديها مثل هؤلاء الغرباء!
ما إن شاهدن النساء تلك الحركات حتى نقلن الخبر إلى رجال القرية الذين جاءوا سريعا إلى النبع، ثم تبعهم الأطفال وبعض العجائز ممن بلغن من العمر ما جعل قلوبهن أقسى من قلوب الذكور.
كلهم اقتربوا من نبع «أم العرقان»، وكان الغرباء قد تغيرت مواقعهم عن الوصف الذي سردته النساء إلى رجال القرية، فقد اصطف الثلاثة بعضهم وراء بعض، على مسافة متساوية بموازاة خيط الماء النازل من حجر يعتصم بصخرة في جانب جبل تتوزع عليه «العرقان»، لذا أخذت القرية اسمها من كثرة تشعب تلك الكهوف التي يسمى الواحد منها «عراق»، والتي تمتد في جوف الجبل وتتداخل في متاهات توصل إلى أماكن أبعد مما يتخيلها العقل.
المسافة بين كل واحد من الغرباء والآخر كانت متساوية..
الأول كان «التركي»، وبعده «المغربي»، وثالثهم «الحجازي».
أشار «التركي» بيده إلى خيط الماء النازل من الشق الحجري، فأخذ السائل يهتز، يتراقص..
ضم أربع أصابع وأبقى على الشاهد مثل سهم مصوب إلى الخيط النازل، وصار يشكل في الهواء دوائر أخذ الماء يتبع أثرها أينما اتجهت.
كانت الجموع مبهورة بما ترى..
رفع إصبعه إلى السماء كأنه يعلن الشهادتين على مرأى من الجميع..
تابعوا حركته، وانبهرت عيونهم عندما شاهدت الماء يتبع تلك الحركة ويتشكل خيطاً هلالي الشكل..
ضغط بإصبعه في الفراغ كأنه يؤكد نقطة يثبتها هناك، فبقي السائل معلقا، حتى بعد أن أعاد التركي يده إلى مكانها متراجعا خطوة كي يفسح المجال للمغربي حتى يحلّ في موقعه.
خطوة واحدة، ودون أي كلمة، تقدم «البهلول» بصمت ..
شبك أصابعه العشرة، وباعد بين باطن الكفين فتشكّلَ من هذا التشابك حيّز يشبه الإناء، واستقر السائل هناك..
سعى الماء، بلهفة، إليه..
كان مستقرا، كأنه جلمد، ولم تنزّ منه أيّ قطرة على الأرض.
تأمله قليلا، ثم أخذ يؤرجحه مثل طفل رضيع، ومع كل قفزة إلى الأعلى كانت هيئة الماء تتغير لتصير مرة كرة، ومرة نجمة.. تارة قارورة، وتارة أيقونة..
عندما فك أصابعه من تشابكهما العجيب رجع الماء إلى مصبه.
بقي البهلول صامتا..
لم يتكلم، ولم ينظر إلى الجموع المراقبة لحركاته، بل تراجع خطوة مفسحا الدرب للحجازي الذي تقدم بهدوء وخفة إلى مقامه الجديد أمام الماء.
مشى «ابن التنور» وهو يدور حول نفسه..
الدوران بدأ بطيئا ثم ازدادت سرعته حالما استقر وقوفه في حضرة الماء الذي انسحب من مصبه مرة أخرى، وصار يلتف حول الحجازي دوائر متسارعة كما هي سرعة دورانه.
بعد فترة صار الماء ممتدا على طول جسد الصوفي مثل سلك شائك، وبشكل حلزوني..
يدور الحجازي.. ومعه يدور سلك الماء..
يدور كأنه يريد الطيران، بلا أجنحة..
تزداد سرعة الدوران حتى يوشك أن يخترق الأرض من تحته..
يدور دون أن ترمش عيناه، أو ينبس بكلمة واحدة..
وحين توقف عن الحركة، امتنع السائل عن الدوران أيضا، وانسحب الماء..
انسلّ من على جسد الحجازي كأنه أفعوان يعود إلى جحره الذي خرج منه!
الميراث
جلس الغرباء أمام الماء.
هذه المرة لم يُكَتّفوا أيديهم كما المصلّين، بل أرْخُوها على جوانب أجسادهم، واقتربوا واحدا واحدا من النبع، يمسحون بالماء على وجوههم، ويشربون منه، إلى أن انتنهوا جميعا، ثم التفتوا إلى الرجال الملتفّين حولهم مبهورين بما رأوا..
أشار «التركي» إلى مكان فارغ قريبا من النبع..
قال: هذه الأرض تنتظرنا.
قال المغربي: تحتها ميراثنا الذي احتجبنا عنه سنين نكداً.
قال الحجازي: هناك، نقطة الدوران، ودائرة التجلّي.
لم يستوعب أهل «أم العرقان» ما سمعوا، لكن الهمس أخذ يتنامى بينهم، كأنه النمل، يسير أسرابا بعضه وراء بعض، حاملا قمح الموافقة، وعبارات الاستبشار بهؤلاء المباركين..
أول المؤيدين لهم كان مؤذن مسجد «أم العرقان»: بركاتكم.. يا أهل البركات!
وعندما سمع الشيخ حمدان، كبير القرية، هذه الدعوات، هز رأسه، ثم قال: اللهم أعطنا رضى الغرباء!
ولما سمع بقية الجمع كلام المؤذن والشيخ أقبلوا على الغرباء يقبّلون أيديهم، ويتلمسون ثيابهم.
التزم الثلاثة بستار الصمت، فزادت مهابتهم، وصارت عيون الخلق متجهة نحوهم، وما إن ساروا باتجاه قطعة الأرض التي اختاروها مستقرا لهم، حتى تبعهم كل أهل «أم العرقان»..
جلس الثلاثة هناك..
تفرّق بعض الجمع من حولهم، بعد أن أمرهم الشيخ حمدان أن يُحضروا ثلاث خيام للغرباء، كي يأووا إليها، قبل أن يقرروا ما يفعلونه بالمكان الذي اختاروه عن سبق معرفة به..
فتنة اللون
ثلاث خيام..
لم يستطع أهل القرية أن يحضروها بلون واحد، وكُنّ ثلاثة ألوان تتوزع على تلك الخيام بين أبيض وأسود ورمادي.
نصبوها على المساحة التي اختارها الغرباء الثلاثة، وقالوا لهم: «ادخلوها آمنين».
لم يتجرأ أحد من الثلاثة على أن يختار خيمته..
قال التركي: لقد ضيّقتم علينا الطرق.
قال المغربي: اللون فتنة، وقد أوقعتم بيننا شرخا.
قال الحجازي: الداخل مثل الخارج، ولا لون يجمعنا، فكيف نكون، ولا نكون؟
واحتار الناس..
وصار منهم من يريد أن يدهن الخيام بلون واحد.
وقال آخرون إن الغرباء أصحاب بركات، ولا بد أن يأتيهم من يرشدهم إلى الطريق..
وقالت ثلة ملّت هذه الأحاجي، إن الغرباء إذا دخلوا قرية غرّبوها.. إلى أن يخرّبوها.
ولم ينم أحد تلك الليلة..
صار للّون مسائل تحتاج إلى فك أحاجيها..
وكان حوارٌ بين الثلاثة شهد عليه الكهول ولم يحضر عليه الصغار وبقيت النساء بعد ذلك في جدلٍ أورث فتنة أخرى.
قال مؤذن القرية: المسألة أكبر من فرقٍ لون عن لون، وهي أعمق من البصر لأنها بعض بصيرة.. فمَن كان ذكرا تجاوز الأربعين شتاء، لِيَبْقَ، وليذهب الأطفال والنساء إلى مخادعهم.
كان الأطفال على حافة النوم، ولم يجادلوا في هذا، فالليل قارب على المنتصف، غير أن النساء رفعن راية النقاش، وبدأن قدح صوان الجدل كي تتحقق نيران الحضور..
كانت «شفق»، زوجة المؤذن، أولى المتحدثات، وجادلتهم بالتي هي أحسن، وكانت قد جاوزت الأربعين، فقالت: «ها قد تحقق عندي شرط الحضور، أما أنني أنثى فلي بذلك فضل عليكم في هذه المسألة التي محور الجدل فيها اللون، ونحن معشر النساء حين نمسك الأخضر يتحول إلى لون الشمس، وهذا شأننا مع الحناء بعد أن نبلله بماء الندى».
صمت الحضور عند سماع منطقها.
أكملت: «وبياض الوجه يصير أرجوانيا إن داعبتنا تمائم الخجل.. أما أحمر دمائنا فيتجدد دورة كل شهر، فهل بعد كل هذا تبعدوننا عن فك تمائم اللون مع غرباء يجمعنا معهم أيضا أنهم مكسورو الخاطر، ونحن ضلع مكسور من جسد آدم».
أتمّت بوحها، فأشار الجميع لها بالصمت.
قال المؤذن: الحكم في هذا أيضا للغرباء..
أول من علّق كان الحجازي الذي قال: هن اكتمال الدائرة التي ندور في محيطها.
وقال التركي: لم نكتمل نحن، ولم ينقصن، فكلنا في الحيرة سواء.
أما المغربي، فرمى بلورة كانت في صرة يحملها، البلورة أخذت تشع نورا، هذا النور صار يتقافز من أنثى إلى أخرى، يرافقه صوت يشبه المطر، ويتداخل مع بحة كلام المغربي وهو يقول: لو لم يكُنّ، لم نَكُن.. في البدء كُنّا، وَكُنَّ!
وأشار المؤذن بعد ذلك للجميع أن يجلسوا..
وبقي الغرباء الثلاثة أمام ألوان خيامهم حائرين!
* أديب من الأردن
* مقاطع من رواية بعنوان «العتبات» تصدر عن الدار الأهلية للنشر قريباً