وأنت تمشي


محمد هديب *


وأنت تمشي وقعَت على رأسِك فردة جرابات من غسيل الجارة.
إذا كنتَ عاشقاً ستواصل الغناء.
إذا كنتَ مطلوباً لمدير المدرسة، لأن ابنك فتح رأس زميله، ستشتم شرف الجارة الرفيع.
إذا كنتَ مُعدماً بلا جرابات، ربما تقف، لعلّ الفردة الثانية تسقط.
إذا كنتَ في طريقك مطلوباً للمخابرات، ستتأمل الفردة بين يديك وتقول: سترَك يا الله.
شتم يشتم
حسناً. فلقد قررت بروكسل تغريم من يشتم الناس في الشارع ما بين 75 و250 يورو.
(هل يجوز القول 250 يورواً؟)
ثم إنني كنت في البلكونة أتأمل الشارع، حسبتُها، وإذ بالشتيمة الواحدة تكلفنا ما بين 66 حتى 222 ديناراً.
في بروكسل ركّزوا على جريمتين ستقف لهما بلدية العاصمة بالمرصاد: الشتم العرقي وهو عندنا في عمّان غير متوافر بجدّية.
أما شتيمة: ‘يلعن عروق إلّي خلّفك’، فلا تُحسب ضمن الشتم العرقي.
العِرق هنا مجرد عضو جسدي ينقل الدماء، ولا يزيد في القيمة عن البطن: يلعن بطن أبو إلّي عقّبك. أو الظهر: يلعن ظهر إلّي جابك. وصولاً إلى القيادة الجسمية العليا: يلعن راسه أبوك.
الشتيمة الثانية التي ستلاحقها بلدية بروكسل، موجهة للمثليّين، وأظنّها ستأخذ الحد الأقصى من الغرامة.
وعندنا في عمّان لا يوجد مثليّون سارحون في الشوارع.
لكنّ أي واحد منّا في ساعة سمّاعة مرشّح لاحتلال هذه المنصب عند انفلات الطوشة.
بسهولة قد يتورط موظّف محترم بربطة عنق عليها سمك وبلالين في ملاسنة، فيشتم زميله بالمثليّة، بل يجعله ‘أمَثْلَن’ واحد في العالم، رغم أن الزميل (مثلي مثلك) غالباً لم تُعرف عنه ميول من هذا القبيل.
أمّا أكثر الشتائم غموضاً والتي ستحيّر موظفي البلدية في عمّان، فهي: ‘انت عارف وأنا عارف’، أو ‘بلاش الواحد يحكي عاد’.
هي أضابير مضبّرة، لا أحد يمكنه تحديد إن كانت جديدة صقيلة أو قديمة مغبّرة.
هي بلا زمن، بلا مستمسك قانوني، وربما لا توجد إضبارة من أصله.
هي ليست شتائم وهي الشتائم الكبرى في آن معاً، وخصوصاً الصيغة الأشهر التي تقال مع هزة رأس: خلّي الواحد ساكت.
بيد أن لأبي شأناً آخر.
فعنه عن أبوه عن أبو الّي نفضه قال:
الله بيم بلوَرْسن أُغلي تشيك.
كنت أتلقى هذه الشتيمة ضمن من يتلقّونها. لا الشاتم ولا المشتوم يعرف سوى أنها شتيمة تركيّة. ماذا تعني؟ الله أعلم والعثمانيون.
في الدوحة حيث أقيم، وعند حلاق تركي سألته همساً: ما معنى ‘ الله بيم بلوّرسن اغلي تشيك’؟
صفن الحلاق قليلاً، ثم نطقها صحيحة بالتركي مستعملاً حرف V، بدل الباء.
كان محرجاً ثم قال دفعة واحدة:
هذه تعني: الله يبتليك يا ابن الحمار. لكن من أين جئت بها؟
قلت: اوووووه. هذه حكاية طويلة. كمّل حلاقة.

نعومة أظفاري
لهذا أمقتُ عبارة ‘منذ نعومة أظفاري’. كانت أمّي تقصُّها فلا تبقي ولا تذر، ولأسباب اقتصادية بالطبع، لأن الأظفار تجلب المرض، والمرض يحتاج النقود، والنقود وسخ يدين، ويدا الأم نظيفتان من هذا الوسخ.
أي أظفار ناعمة يا عمّي الحاج!
قل: منذ أول خِرقة مستعملة ومغسولة مائة مرة، لأسباب اقتصادية.
منذ أول حلاقة على الصفر، لأسباب اقتصادية، لكي يخدم الصابون النابلسي أطول فترة ممكنة، ولكي يبقى الكاز في خدمة بابور الكاز، وليس للنضال ضد الأفكار الهدّامة في شعر الرأس.
منذ أول التهاب لوزتين يطرحني في الفراش أسبوعاً، أشاهدُ فيه رجال الكاوبوي يطاردون الهنود الحمر، ومسلسلات بدوية يطارد فيها البدو بدواً آخرين.
منذ أول بيضة بلديّة مسلوقة أكلتها وحدي.. بيضة بلديّة بأسرها.
قبل أن أنسى أيضاً، فإن عبارة ‘نشأ وترعرع’ تضايقني.
لا أستطيع تخيّل كائن بشري يترعرع.
كلّما قرأتها صعد أمام عيني جبل من العَلف.

عُص مُص
افتراضياً سنقول إن النشامى في الأردن صفة تطلق على كل الرجال من كافة المنابت والأصول: شرق أردنيين، وفلسطينيين، وشيشان وشركس، ودروز، وكرد، وتركمان، وشوام، وأرمن، وزُط، ونَوَر.
العيّنة الطبية التي تقول إن نصف الرجال الأردنيين يعانون من الضعف الجنسي ينبغي أن تشمل هؤلاء كلهم.
عشان ما يكونش حظ العدالة مايل.. مايل مايل مايل ليه؟
العرب الآخرون يحترموا نفسهم: نصف الخليجيين يعانون من السكّري والضعف الجنسي. في مصر تفوق نسبة الرجال المبهدلين جنسياً الستين في المائة.
وعند استحضار النشامى التاريخيين مثل عنترة وأبو زيد والزير نستحضر نصوصاً في البطولة الرجولية، ولا نعرف ولا نريد وليس من مصلحتنا الوجودية أن نعرف ملفاتهم الجنسية الخاصة.
استطيع التجرّؤ على الشاعر ‘ابن الرومي’، فهو ليس فارساً ولا هم يحزنون. كان يرخص عند قدوم الحلواء، ويأكل حتى يصل السكّري عنده 500. أي أنه حكماً كان يعاني من ضعف جنسي وهذا يبرر العنف الهجائي في شعره.
لا مأساة تعلو فوق الضعف الجنسي.
يخطر ببالي أن الإعجاب المزمن بالفتوحات من الأندلس حتى أطراف الصين نزوع تعويضي للرجال الرجال.
ولكنّ للمأساة وجهاً طريفاً.
تنتشر في الدكاكين هنا مثلّجات شعبية اسمها: ‘عُص مُص’: أنبوب بلاستيكي يشبه الرفال (الكندوم)، يعصّه الأطفال باليدين ويمصّون عصيره، المتكوّن من ثلج وسكّر وصبغة وطَعْم فواكه.
هذا الضرب من التسميات ليس جديداً في اللغة العربية التي تأخذ الكثير من الصفات مما يسمى حكاية الصوت أو الحركة.
بقبقة الماء من صوت: بقبقبقبقبق.
الضحك طخطخةً: طخطخطخطخطخ.
القهقهة: قهقهقهقهقه.
كذلك الكهكهة.
العصّ والمصّ حركات تحصل بالتتالي السريع. بيد أن الإحالات الغامضة لا تخصّ الطفل الذي يقول لأبيه: يابا جيبلي ‘عُص مُص’، فيضحك الأب ضحكة مواربة وكذلك الدكنجي، والولد لا يفهم شيئاً حتى يكبر.

* قاص من الأردن يعيش في قطر

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *