محمد علي فرحات
الأحد 11/11/2012: مثلما في كابوس
مثلما في حلمه/ كابوسه. وصل إلى بيته الجبلي في العطلة الأسبوعية فرآه مليئاً باللاجئين.
خلعوا الباب ليملأوا الغرف كلها. كأنهم يعرفونه جيداً أو يراقبونه جيداً، قالوا: يكفيك بيت واحد في المدينة.
كل موقت دائم أيها اللبناني المتعدد مدينة وجبلاً.
لاجئ يدفع ساكن البيت إلى بيت آخر، إلى بلد آخر، بعيد أو قريب. ثم يأتي لاجئ جديد يدفع القديم إلى مكان آخر.
لا عزلة في هذا العالم، لا ثبات.
حتى القبور صارت دوارس بفعل فاعل، فقط لضرورات البناء. وليس القبر أفضل من شجرة، نهدمه ونقطعها.
الإثنين 12/11/2012: الصفر
يبدأ من الصفر.
يمحو كل رقم سابق، كل بناء، كل كتاب، كل أب وأم، كل شجرة، كل جدار في حقل.
يبدأ من الصفر ويبني سوراً حول مدينته، حول بشر يسميهم شعبه (يرفض الاعتراف بجدار عظيم بناه الصينيون القدماء ليحفظوا نقاءهم، يقول ان جداره/ سوره غير مسبوق).
لكن سجناء الوطن الصافي يتسلقون السور، يفرون من الصفر الضيق الى البراري الواسعة ونحو بلاد بعيدة. هناك يختلطون ببشر لا يشبهونهم وينشدون معاً أغاني هجينة.
يبقى رجل الصفر سجين مدينته المثالية، بدايته النقية المباركة، ويغزل ملكوته مثل عنكبوت.
الثلثاء 13/11/2012: المثقفون للناس
يؤثَر عن أحمد زكي أبو شادي (1892 – 1955)، مؤسس مجلة أبوللو (1932) وجماعة أبوللو الشعرية الرومانسية، أنه فضلاً عن كونه طبيباً وشاعراً ومنشطاً أدبياً خرجت من مجلته أسماء لامعة مثل إبراهيم ناجي وأبو القاسم الشابي وعلي محمود طه، اهتم بتربية النحل وتخصص فيها وأنشأ جمعيات تشجع على تربية النحل في مصر، ووصل إلى تأسيس «نادي النحل الدولي».
كان الشعراء والكتّاب والفنانون النهضويون يعززون إبداعاتهم بنشاط تنموي، من باب الإحساس بالنهضة لا قصرها على الكلام.
في هذا المزاج مجلة «الدهور» التي صدرت في بيروت بين عامي 1930 و1935، وهي فكرية تهتم بالتحديث العلمي والأدبي وتأثر عدد من كتّابها بالاشتراكية أو بالماركسية، غير أن «نبذة الشهر» التي تشكل افتتاحية المجلة الشهرية لم تخل أحياناً من آية قرآنية، كما في نبذة عدد تشرين الأول (أكتوبر) 1934 التي وردت فيها الآية: «ونريد أن نمنّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون».
الباحث اللبناني فارس اشتي خصّ «الدهور» بكتاب صدر عن الدار العربية للعلوم – ناشرون (بيروت) في عنوان (قراءة في تجربة جمعية التضامن الأدبي ومجلة «الدهور» – اللحظة التأسيسية للبنان ميثاقاً ودوراً).
أسس «الدهور» ابراهيم الحداد ومثقفون آخرون من بينهم سليم خياطة، الذي جنح بها الى الماركسية، كونه قيادياً شيوعياً، وكان ممثل المجلة في مصر إسماعيل مظهر الذي أصدر في القاهرة مجلة «العصور»، وممن نشروا في «الدهور» ميشال عفلق قبل أن يؤسس حزب البعث، وكانت مقالاته مشاهد رومانسية تشبه كتابات جبران خليل جبران الأولى.
تعرّف «الدهور» نفسها بأنها «انتقادية في العلم والفلسفة والأدب»، وقد اهتمت بجمعية التضامن الأدبي التي تصدرها، وكان نشاطها وطنياً ونقابياً تقاطع مع نشاط الحزب الجمهوري الذي أسسه عادل الصلح وعزيز الهاشم ومع نشاط حركات اشـتراكية لبنانيـة، في مقدمها الحزب الشيوعي.
ومن أعمال الجمعية افتتاحها مدارس مجانية لمحو الأمية، وتشجيع الصناعة الوطنية ومقاطعة البضائع الأجنبية، وتنظيم إضرابات ضد شركات الكهرباء والتنوير لتخفيض الأسعار، وتقديم محاضرات في الشأن الوطني من بينها محاضرتان لأمين الريحاني ضد الانتداب الفرنسي أدتا إلى حل الجمعية التي تصدر عنها «الدهور»، كماجرى تعطيل المجلة أحياناً لنشرها مقالات اعتبرت مخلة بالنظام العام في عهد الانتداب.
سيرة مثقفين منخرطين في الشأن الوطني فكراً واجتماعاً واقتصاداً، يقدمها الكتاب، الذي يحض على التمثل بهم، فلا حق للمثقف على الناس بسوى عطائه لهم.
الأربعاء 14/11/2012: أن تكون غزياً
خريطة غزة هي مأزقها الوجودي، ذلك أنها بعيدة عما تبقى من الضفة الغربية، وبعيدة جداً من مصر (لأن سيناء المجاورة ناقصة المصرية منذ رعمسيس الثاني الذي اضطر إلى احتلال بلاد الشام ليؤكد حكمه سيناء).
وهي قريبة من إسرائيل التي نسميها فلسطين المحتلة، وتنتمي بشاطئها إلى حوض المتوسط الذي نسميه بحر الحضارات، بحر لا يشفع لغزة ولا لغيرها، لأن أسباب الحضارة صارت بعيدة من المتوسط، تتمركز في العالم الأميركي الذي لا يزال جديداً وفي الصين وروسيا المتجددتين.
بقي لغزة، كما بقي لنا، كلام فرنسوا هولاند، رئيس فرنسا، لكنه يتغير بحسب المزاج الأميركي، رافعاً عن نفسه عبء الالتزام بحضارة متوسطية نحن شركاء فيها، حضارة صارت حبيسة المتاحف.
ماذا يفعل الغزيون حين لا تقبلهم مصر ولا إسرائيل، وتتحول فلسطينهم حبراً ساخناً على ورق بارد؟
يحيون بين برتقالة وقنبلة يدوية. عيشهم العمل والخطر، حيوية الطبيعة وموت الإنسان، أحلام الجالس على الشاطئ وكوابيس سجين المال والسلاح.
لغزة عيشها الاستثنائي الممتد في استثنائيته ليصير قاعدة لها بالذات وليس لغيرها من الأمكنة.
وأن تكون غزّياً أمر صعب، لأنك في معظم الأحوال مرآة غيرك لا مرآة نفسك.
ثم ماذا يعرضون عليك؟ لا شيء سوى مساعدات قليلة وخطب كثيرة. لكنك تقبل لئلا ينساك العالم على تلك الرقعة المهملة على المتوسط.
أن تكون غزياً يعجز عن صناعة زلزاله الخاص هو أن تنتظر زلازل الآخرين. كم تبدو هنا غراباً أسود لا حمامة بيضاء. ولكن، لا يدَ لكَ في الأمر ولا لسان. ثمة عند مفارق الأمكنة والأزمنة غربان كثيرون، وقد كانت نهاياتهم متفاوتة. يفعل الآخرون ويكتفون هم بالانفعال.
هذا كل ما في أمرك أيها الغزي الذي لم يختر مكان ولادته ولا زمانها.
أيها الغزي، هل تؤسس عصرك، مفاجأتَك التي لم يتوقعها أحد؟
الخميس 15/11/2012: شعر أميركي
أعمال الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، تعيد دار الجمل (بيروت، بغداد) نشرها. مجموعاته الشعرية والترجمات أيضاً، خصوصاً ذات المصدر الأميركي التي كان سركون رائدها الثاني بعد يوسف الخال.
في هذا الإطار صدرت «قصائد مختارة» لوليام ستانلي ميروين (من مواليد 1927)، الذي اعتبره سركون مليئاً بالمفاجآت، فهو أحدث ما يمكن ان نسميه ثورة على المتعارفات السائدة في الكتابة الشعرية في ستينات القرن الماضي، خصوصاً القصيدة المتينة البنيان التي كانت تحتضر فأعلن وفاتها.
من قصائد ميروين في عنوان «المنهزم»:
«ما وراء الدهشة، ترتفع أضلاعي من الأرض.
وبعد أن غرقتُ، هبطت المياه.
الأفق الذي كنت أسعى اليه يجري خلال عيوني.
لقد بنى عشّه البسيط بين عظامي».
ومنها في عنوان «غراب نوح»:
«لماذا كان عليّ أن أعود؟
معرفتي لم تكن لتلائم معرفتهم.
وجدتها غير ملموسة: صحراء المجهول
كبيرة بما يكفي لأقدامي. إنها وطني.
إنها ما وراءهم دائماً. المستقبل
يشطر الحاضر بصدى صوتي.
مبحوحاً بالرضا، فأنا لم أعط وعوداً قط».
( الحياة )