نازلي ..والسلطان ( مقاطع من رواية جديدة )


آرام كربيت *

                
ثقافات:

كان لون الفجر خمرًا معتقًا هذا الصباح.
وخرجت من البيت قاصدًا نهر الخابور. حيث تنتظرني العشيرة. والربيع على الأبواب. والعشب بدأ يملأ البادية السورية المترامية الأطراف.
هناك تسرح قطعاننا, غنم وماعز وجمال. ويمكث أبي وأمي وبقية أخوتي. نفترش الأرض ونلتحف السماء.
ثمة ريح غربية باردة ههبت. وعواء الذئاب العالية لا ينقطع. ويملأ الفضاء النائم على مشارف جبل عبد العزيز الشامخ. والقريب من ضيعتنا أم مدفع. بضعة بيوت متعبة, معزولة, مرمية هنا وهناك.
وضعت ثلاثة فراء على ظهري. وحملت بيدي اليمنى صرة فيها طعامي. بيض مسلوق, جبن وخبز. وفي اليد الأخرى عصا غليظة علقت عليها خيمة صغيرة لتقيني المطر والبرد. وآلة الربابة. وتسلحت بخنجر مسلول علقته بسوار حول خصري.

ومشيت برفقة كلبي وردان.
في رهبة الصمت الثقيل مشيت. تمتد أمامي أرض واسعة جدًا, مفتوحة على العراء. وساحرة. ويمتزج فيها الخلاء بالسماء. والصمت بصدى الريح والمجهول.
وهدب الليل ما زال معلقًا في الأفق. وأغالب النعاس. ويكاد البرد يأكلني. أرنو إلى البعيد. إلى وراء الأفق الندي, المتكئ على الضوء الشفيف للشفق.
مع أدامة النظر تزداد تشابك خيوط الألوان. وتشتد الوشائج وتلتحم. أمسك فؤادي فأحس بالوجع يلتصق بدمي. ويرحل بي إلى الرحيل.

مع كل خطوة أمدها إلى الأمام. تزداد المسافة والفراق توسعًا. وأغرق. ويشدني الحنين إلى الحنين. ويهرب المكان مني. ويصبح الزمن الماضي فضاء معلق في صدري كأحجية أو تميمة لا تفارقني. أمشي بسرعة. وكأنني أهرب من نفسي. وأرى خيالي يلتصق بي. ويكبر. وتبقى عيناي عالقتين على بقايا ملامح الطريق الموحل الذي رسمه البشر والدواب في الأيام الماضية.
وحيدًا في هذه البراري الواسعة. أجول بنظري في كل مكان بحثًا عن شيء أليف. يلفني الصمت الموحش. والهدوء المخيف. والتأمل العميق لأي شيء قادم من هذا المكان المعزول عن العالم.
تتسلق ذهني أسئلة وجودية عميقة:
ـ لماذا اختار أجدادي المكوث في هذا المكان منذ مئات السنين. وجعلوه وطنًا لنا. ومكانًا للعيش والبقاء. ثم رفعت رأسي. فشعرت بكم هائل من التقاطعات والتباعدات المتراكمة القابعة في رأسي. تمتمت. خرجت الكلمات من تحت شفاهي, قلت:
ربما لعزلته عن العالم. ولمكانه الدافئ والأليف. وربما لكثرة العشب والمرعى. أولخصوبة الأرض وسهوله الواسعة. وسهولة التنقل في هذه الربوع. ولأنه محمي بجبل عالي وطويل. وربما لبعده عن حركة الدولة ورجال آل عثمان.
أبقى ملتفتًا مخافة أن تهاجمني قطعان الذئاب أوالضباع والجوارح. ولا أحمل شعلة نار ولا دخان. ولا صديق يبدد عني الوحشة. وأريد أن ألحق الوقت قبل أن يرحل.
رأيت الغيوم السوداء محلقة فوقي. والفجر ما زال بعيدًا نائمًا في ضوء الأحلام. ورذاذ الفجر يغسل وجهي وشعري. مشدودًا. والفضاء مفتوح.
مشيت ساعات موزعًا نفسي بين قلق واضطراب وتيقظ. هدني التعب والجوع. وبدأ رذاذ المطر يملأ الفضاء إيذانًا بالتحول.
وقفت أنظر حولي. أبحث عن مكان أحمي نفسي من قسوة الطبيعة. اهتديت إلى ربوة صخرية جميلة. وعلى عجل. نصبت خيمتي الصغيرة عليها. ثم خرجت على عجل. وجمعت بعض العيدان الجافة. وجذع شجرة يابسة وقش. وجلبتهم إلى خيمتي. وجلست تحتها.

أنهمر المطر بغزارة. ووردان واقف. وحفرة صغيرة مشكلة سابقًا, اخترتها لتكون مكانًا لموقدي. أخرجت القداحة المربوطة بحبل برتقالي اللون. وقدحت القش الرطب. وأطلق دخانًا كثيفًا. لون وجهي وشعري بلونه. بيد أنه اشتعل في النهاية. راحت ألسنة النار واللهب, ترتفعان في هذا الفضاء الحر. ورقصت روحي فرحًا وطربًا بهذا الصديق الجميل. أصوات الحطب المشتعل تطقطق. ناثرًة الفرح والحرارة والرعشة الحنونة في أوصالي كلها. سرى الدفء ببطء في كل مسام من مسامات جلدي بحنان. تزودت بالوهج الغامر الى حد الامتلاء. وتبددت الغربة والخوف عني بعض الوقت.
من خلال الشق الصغير لخيمتي رأيت رأس جبل عبد العزيز شامخًا. ثابتًا بفرح. وجماله آخاذًا. ورونقه بهي. وبقيت مندهشًا لمظهره المهيب وأناقته. وبسمة ثغره. بقيت مثبتًا نظري على أشجاره المفروشة على سفحه وهضابه ووديانه. البطم واللوز والزعرور والتين.
بثثته أشعارًا وكلمات. حكايات وقصصًا. وكومة قبلات.

وضعت المزيد من الحطب في الجرن. وبقيت جالسًا. غردت ذاكرتي بالأحلام. وشقت طريقها بعيدًا. حاولت أن أبعدها لأبقى محلقًا, متوحدًا مع رائحة التربة المبللة. بيد أني فشلت. وبقيت النار والحطب في صراعهما الأبدي مستمرين. والمطر يرسم على المدى الطويل لوحة من نور ملتوٍ. هلت علي رائحة النّعناع البري المنعشة. ولامست مكامن الفرح والحزن في داخلي.
تذكرت الربابة. مسكتها وقربتها مني. أمتدت أناملي برشاقة إلى الوتر. ونقرت عليه بأصبعي.
ثم, عزفت. وحلقت بعيدًا. رأيت السهول الخضراء الجميلة تمتد أمامي رغم بلادة الطقس. بعض الطيور رفرفت فوقي. وجثا وردان طربًا. ومضى ينظر إلى الربابة مندهشًا.
تذكرت نازلي, المشفى, استانبول, الحرب والجبهة. ثم وقعت عيني على مشهد غريب بالقرب من فتحة الخيمة. رأيت وردة ذابلة تنهض من غفوتها وترقص. قلت:
ـ إنها الموسيقا! هكذا تفعل بالكائنات الحية. تخرجهم من الملل الكوني. تسكرهم كالخمرة. وتأخذ بلبهم وتلهب خيالهم.
ثم وضعت الربابة جانبًا, وعدلت من جلست. وشردت. عاد وجه نازلي الحلو. وتلك الأيام. وتغير مزاجي بسرعة. شعرت أنني وحيد إلى حد التلاشي واليأس. وأن الحياة على أهبة الاستعداد للتغيير والانتقال من موضع إلى موضع. ورأيت نفسي تركض سريعًا وراءها كحصان أعرج. وفي حالة عطش دائمة.
قرفصت بحذر شديد. أثنيت ركبتي على مهل, ووضعت يدي تحت رجلي وحملتها. ونقلتها بحذر شديد حتى لا أحرض الألم أو استفزه. مددت يدي إلى الجرح الغائر. متلمسًا مكانه. ثم نزعت ثوبي وقربته من النار. ومررت يدي برفق فوق فخدي ودلكت الجرح القديم ودفئته حتى لا أزيد الوجع وجعًا.
جرح قديم لا يندمل. يعود بين الفينة والأخرى. ويضرب أوتار قلبي ويمنعني من القيام بأي جهد. وخاصة في لحظات البرد أوالمشي الطويل أو محاولة تسلق شجرة أو ركوب حمار أو تلة.

اغوص بعيدًا في تلال المطر والماء والفرار. وأهرب مع الجنود من خندق إلى خندق ومن موقع حربي إلى آخر. والقدر بارع في اللعب بنا. يقتل من يقتل. ويأخذ منا ما يريد. ومن يريد. ويبقي من يريد. فهذا يموت وذاك يصاب. وآخر تشله قذيفة أو تصيبه رصاصة. فيبقى في مكانه لا يستطيع الحراك إلى أن يموت من البرد والجوع. أو تأكله الحيوانات القارضة أو النسور الجارحة.
كان الهرب يختلط بالخوف من الموت، والأمل يمتزج بالرهبة من القادم. والحرب مستمرة تحصد كل من يطاله نيرانها.
ومع هذا, كنت أحلم أنني سأعود يومًا إلى بيتي وأهلي. وأترك كل شيء ورائي. وكأنه لم يكن. حتى ذكرياتها لا أريد أن تبقى ملتصقة ببقايا ثيابي أوقحف جمجمتي.

* روائي من سوريا يعيش في السويد

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *