خيري منصور: في القراءة الجيدة مخاطر عظيمة


*

بيروت- يرى بعض النقاد أن نثر الشاعر الفلسطيني خيري منصور يعيد الاعتبار إلى الجملة العربية، ويؤكدون أن مقالته حازت على إجماع نادر في نثرياتنا الراهنة، فهي سبك محكم بين جلال وقوة وانصهار المفردة في موضوعها. وقد أصدرت “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، كتابين لخيري منصور هما “العصا والناي” و”ثنائية الكتابة والحياة” وهما عبارة عن دراسات ومقالات نقدية.

يشير الشاعر خيري منصور، من مواليد قرية دير الغصون بطولكرم عام 1945، إلى أن كتاب “العصا والناي” بمقالاته الست والعشرين يحاول استدعاء العديد من الظواهر ورصد تجلياتها في مناخات يصفها بأنها تحولت إلى حياة من النميمة المؤدلجة، وكوميديا من النبذ المتبادل والإقصاء الذي غالبا ما يبدأ من هاجس الاحتكار وينتهي إلى الإعدام الرمزي.
التباسات فكرية
يقول منصور إنه تردد بين ثلاثة عناوين للكتاب: أولها رماد السنديان وثانيها العصا والناي، وثالثها السيف والندى، غير أنه استقر على العنوان الثاني. ويبرر ذلك بقوله: «إنه عنوان يختزل ثنائية السلطة والثقافة والخوف والحرية، واليأس والحنين”.
ويضيف: «لن أتعسف في اقتراح المشترك المنهجي بين هذه المقالات، لأن مثل هذا المشترك قد يكون في عمق الشجن وفي تحوّل الأسئلة إلى مساءلات، على قدر ما يتيح لنا القليل المتحقق من الحرية، ذلك لأن الحريات المسموح بها في عالمنا العربي كله قد لا تكفي كاتبا واحدا كما قال الراحل يوسف إدريس».
ويختتم منصور مقدمته بالقول: «إن العصا في ذروة وظيفتها الآن، أما الناي فهو مغمور بالرمال، وقد سملت الأصابع الأمية ثقوبه. وقد جاء المقال الأول في الكتاب تحت عنوان مهدت له مقدمة الكتاب هو “كوميديا النبذ المتبادل”، وتبدو كمقالة -نموذجية- أولية وفاتحة لجرح كبير، والتباسات أكبر لأنها تتناول فكرة الحذف والنفي والإقصاء كثقافة ترحيبية شاعت مع ما يسميه ثقافة الاستقلال العربية، ويرصد الكاتب في المقال صورا مختلفة لهذا النبذ سواء كان ذلك يتعلق بمفرد، شاعرا كان أو ناقدا أو روائيا، أو بجمع عندما يتعلق الأمر باتجاه كامل».
وتعدّ مقالة “فائض الحرمان” من أهم مقالات الكتاب. ويتناول فيها منصور فكرة الحرمان والفقر من مستويات عدة وزوايا نظر مختلفة تبدأ من حرمانات الفقر وسط إمبراطوريات وحكومات فاسدة، ثم تحوّل مفهوم الحرمان إلى سيكولوجيا مقهورة.
الحياة والكتابة
كتاب “ثنائية الحياة والكتابة”، هو نابع من حالة الغضب وحالة التوازن والهدوء اللتين أصابتا خيري منصور، الذي يقول: «أشكر من سبقوني وجعلوني أكثر وعيا بوجودي وأعانوني على احتمال الوباء بلقاحات باسلة».
وفكرة الكتاب، يوضحها منصور في موقفه التالي: «قبل عدة أعوام استوقفتني عبارة من مقال لـ”جورج ستينر”، لم تكن المقالة دليلا على فن القراءة، ولا أذكر أنها تحمل عنوانا به جاذبية للقراء الباحثين عن التسلية، كانت تلك العبارة تشرح استجابة القارئ الحقيقي لأعمال يحترمها، يقول ستينر: في القراءة الجيدة مخاطر عظيمة، فهي تضعف من شخصيتنا، ومن إحساسنا الخاص بأنفسنا، ويتساءل: هل يمكن أن يقرأ المرء “أنا كارنينا” لتولستوي أو “البحث عن الزمن الضائع” لبروست دون أن يدرك ضعفا جديدا أو انبعاثا جديدا في لب مشاعره الجنسية مثلا؟»
ويتابع قوله: «لكن الذين يقرأون “المسخ” لكافكا يجفلون أمام المرآة. لم يعد هذا النوع من القراء اليوم بتلك الكثافة، كما أن هناك من يمرقون كالسهم بين غلافي “زمن” بروست دون أن يحسّوا بعجز أو بقوة، لأنهم محايدون في كل شيء، في القراءة والعيش والعمل وكل أنشطة الحياة. ونحن نعيش في زمن يصعب على المرء -حتى لو رغب في ذلك- أن يقرأ فيه كتيّبا خلال عدة أيام، لا لضيق الوقت، بل لضعف في القدرة على التركيز، والتركيز في القراءة كما في كل شيء آخر يتطلب حاجة إليه أولا، ومن ثمّ أمانا اجتماعيا ونفسيا؛ لكن يشكو الإنسان المعاصر من عدم توفر حدّهما الأدنى”.
ويضيف قوله: «بطبيعة الحال ستختلف طرقنا في القراءة، خصوصا حين نكون كُتّابا، منا من يبحث عمّا يضعه أمام نفسه، ويحيل الكتب إلى مرايا، ومنا من يبحث عن الإجابات المستحيلة -لكن الممكنة على الدوام- ومنا من يبحث عن أداة يقطع بها الزمن، ومنا من يبحث عن وقود لآلته الواقفة في الطريق. ولا ننسى هنا تلك الشريحة المتعاظمة ممن يبحثون عن مواد خام لتصنيع بضاعتهم وتسويقها في الصحف والمجلات التي أصبحت في عصرنا تستعصي على الإحصاء».
مرض خبيث
يشير منصور إلى أن الكتب تمنحنا خبرات صافية، لم نسهم في معاناتها في الواقع، وتجعل عيوننا أكثر اتساعا وهي تتشرب عوالم لم يسبق أن عشناها بأنفسنا، ونحن إذ نتغذى على عصارات الأرواح والحيوات المعيشة بشجاعة علينا أن نتمهل قليلا قبل إبداء الأحكام، وعلينا أن نعرف أية “أنفس” تلك التي سيقبل إحساسنا بها؟
ويؤكد خيري منصور على أن الكاتب والقارئ المعاصرين لم يعودا يخشيان مرضا خبيثا يصيب “الورق” فيحيل الكتب إلى تراب، هذه الخشية التي أعلنها “دوهاميل” مستغربا كيف لم يشعر بها “هـ. ج. ويلز” مثلا ويعالجها في كتاباته عن المستقبل المتخيّل.
وهو يرى أن القراءة المتواصلة قد توقعنا في يأس يشبه يأس “دانتوس” حين نصرخ غاضبين: “سحقا لمن سبقونا، فقد قالوا أقوالنا كلها”. لكننا سرعان ما نستعيد توازننا ونقول بهدوء: شكرا لمن سبقونا وأودعوا خلاصات أرواحهم وخبراتهم في الكتب “فجعلوا إقامتنا في هذا الكوكب محتملة، رغم كل الشرور”.
——–
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *