البنية التجريبيّة في مجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك»

البنية التجريبيّة في مجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك»

للدكتورة أماني سليمان

قصة «نافذة وحيدة عالية» أنموذجًا

مجدي دعيبس

منذ «شخوص الكاتبة» و «سمّه المفتاح إن شئت»، ومرورًا بـ «جوار الماء» ووصولًا إلى «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» كان دأب الدكتورة أماني سليمان تقديم قصة ناجحة، بغض النظر عن التسمية المتداولة؛ قصيرة أو قصيرة جدًا. لكن السؤال المُلحّ الذي يقفز إلى مخيلتنا برشاقة لافتة: ما هي الموازين التي ترجّح كفّة هذه القصة أو تلك وسط هذا التزاحم والإشباع والمكاتفة في إصدارات القصة القصيرة والقصيرة جدًا والومضة، إلى آخر المسميّات والتجنيس المجاني الذي يجري على الألسن بتأثير من وسائل التواصل الاجتماعي؟!

وكإجابة مباشرة على هذا السؤال أقول: إنّ الخروج من دائرة العاديّة هو السبيل إلى قصة متماسكة غير مكشوفة ومتجددة. أقرأ في المجاميع القصصية؛ وخلال ذلك أكتشف أنني قرأت نصف هذه القصة أو ربع تلك في مكان ما، أو صادفتني شخصية تشبه هذه الشخصية إلى حدّ بعيد من حيث أنني أتوقع كل تحركاتها وسكناتها ولا تفاجئني بمجرد إيماءة بسيطة. العاديّة هي العدو الأول للأدب الحقيقي، العاديّة هي نقيض الدهشة وسر النشوة الأدبيّة التي تتلبّسنا عند قراءة نص عال. لا يمكن أن نقدّم أدبًا رصينًا ومقبولًا جماليًّا ومعرفيًّا إذا كنّا سنكتب باللغة نفسها التي استخدمها أدباء القرن التاسع عشر. اللغة بحر شاسع من المفردات والتراكيب؛ فلماذا لا نجدّد العبارة والأسلوب ونصنع بصمة وشخصيّة لغويّة لكل واحد منّا؟!

أعرف أن المقدمة قد طالت أكثر من اللازم، ربما لأنني أرغب بمقاربة الموضوع بروية وتمهل. «كلما ظننتَ أنكَ توصلتَ إلى شيء جديد تكتشف لاحقًا أن هناك من سبقك إليه». لا أعرف صاحب هذه المقولة: ربما كان الطيب صالح، لست متأكدًا. لكن هذا يعطينا مؤشرًا خطيرًا على موضوع التكرار، وفي مرحلة لاحقة من التكرار يأتي الاستهلاك، وفي مرحلة متقدمة من الاستهلاك يأتي الابتذال. توارد الأفكار والتقليد والاستسهال كلها أمور تقود إلى سطحيّة مزعجة، لا منجى لنا من هذا الفخ المحكم سوى الجرأة والتجريب وهذا بكل بساطة ما تفعله الدكتورة أماني سليمان، ليس المهم ما نقول بل كيف نقول ما نقول. وحتى يكون الطرح بعيدًا عن التنظير العام سأعمد إلى تناول قصة «نافذة وحيدة عالية» في مجموعة «غيمة يتدلّى منها حبل سميك» لتلمّس ملامح التجريب في بناء القصة كمثال على النزعة التجريبيّة في المجموعة.

في «نافذة وحيدة عالية» يتداخل أكثر من جنس إبداعي لتركيب القصة. اعتمدت القاصّة على فن كتابة السيناريو والعرض السينمائي لبناء مداميك السرد، كأن القارئ يتابع فيلمًا في قاعة السينما. قطّعت خط الزمن؛ فقدّمت وأخّرت ومزجت الواقعي بالغرائبي، ولم نشعر بخلل الايقاع لأنها اعتمدت على الإيحاء في بعض المواقف للخروج من مطب الانتقال الخشن من بيئة إلى أخرى.

قسّمتْ القصة إلى ثلاثة أقسام. في عنوان القسم الأول كتبتْ: «العرض الأول؛ زووم إنْ: اقتربت الكاميرا من النافذة؛ أطلّ وجه.. أبصرت عينان». في هذه المرحلة يدرك القارئ أن ما ترصده الكاميرا يتحوّل إلى كلمات، أي تلقي بصري من خلال السرد. كما يدرك أن هناك شخص ما ينظر من النافذة، ويتابع ما يحدث في الخارج. تتلاحق المواقف أو الاسكتشات في الشارع والحي المقابل للنافذة. كل الاسكتشات تنتهي بالعبارة نفسها ما عدا السكيتش الأخير: «تحسّستُ أطرافي ثم ابتعدت عن النافذة ورحت لبعض شؤوني».

في الاسكيتش الأول يظهر فتى يلمّع حذاء صبية على صندوقه الحديدي بعد أن ألحّ عليها. في الاسكتيش الثاني موقف سوريالي؛ حيث شخص خائف تلاحقه كائنات غريبة ثم تبدأ أعضاؤه بالتساقط عضو بعد آخر وينتهي الاسكيتش عند محاولته لتسلق الجدار. يتضح من القسم المتبقي من الموقف أن ما حدث كان مجرد حلم ليأتي الصباح وتُفتح النافذة، ويظهر فتى الكعك في الحي ثم يسرق منه متشرد ما كعكة ويهرب، فينتفض الفتى ويلحق به بعد أن أوقع الكعك على الأرض. في الاسكيتش اللاحق، فتى يجرّ عربة صغيرة يجمّع فيها الخردة من الحاويات، ثم يبرز أب وابنه وبكب ويسلبان الفتى خردته ويأخذان ما في الحاوية ويغادران. في الاسكيتش الرابع موقف غرائبي حيث تابوت يخرج من الباب وحده، ويمضي قبل أن تخرج امرأة متشحة بالسواد إلى الشارع، فيما بدا أنها تبحث عن التابوت. في الاسكيتش الأخير، صبيّة حزينة تحمل رسالة ووردة بيضاء وتنتظر شخصًا ما، ثم يظهر الفتى الذي كانت بانتظاره ويتقدم منها، فتصفعه بشكل مفاجئ ودرامي. الشخص الذي ينظر من النافذة يتوقف عن متابعة ما يحدث ويغلق النافذة، يتحسّس أطرافه لكنه لا يعود لشؤونه لأن الكرسي أصبح ضيقًا. يفتح النافذة من جديد ليجد الحياة ماضية ومستمرة. في نهاية الاسكيتش تكتب القاصة: «زووم أوت: ابتعدت الكاميرا عن النافذة؛ أغمضت عينان.. غاب وجه».

في القسم الثاني المعنون: «الكواليس ما قبل كتابة الفيلم وإخراجه وإنتاجه»، يدور حوار بين المؤلفة والمخرج ويعرضان ما كانا يفكران به من اسكتشات قبل أن يستقر رأيهما على ما ظهر في القسم الأول في العرض السينمائي. كما يتضح أن هذا الشخص الذي ينظر من النافذة هي فتاة أو سيدة. يتناقشان حول ضرورة إبراز المكان وهو عمان القديمة ودرج اللويبدة المؤدي إلى وسط البلد، كما يقدّمان رؤيتهما لمغزى هذا العرض الملتبس: وكما يتضح من الاسكتشات التي عُرضت مقدار بؤس وسوداوية الحياة، لكننا على الرغم من هذا نستمر بعيشها، وهو ما ظهر في المشهد الأخير عندما توقفت الفتاة عن متابعة ما يحدث في الشارع ونظرت للأعلى لترى الطيور والحرية والانطلاق.

في القسم الثالث وهو المؤتمر الصحفي، تردّ المؤلفة على أسئلة الصحفيين وتؤكد أنها عملت جاهدة حتى لا تبرز شخصيتها في الفيلم لأنها تعرضت لحادث قبل خمسة عشر عامًا، وفقدت أطرافها وتستخدم الكرسي المدولب. لا أريد أن أطيل هنا حتى لا أفسد عليكم متعة القراءة، لكن علاقتها الطيبة مع النافذة هي إشارة إلى التصالح مع الذات والقبول بما تقدمه لنا الحياة، ليس من باب الاستسلام والخضوع ولكن من باب الاستمرار والمضي للأمام.

لو أخذنا مغزى هذه القصة وفكرنا ببنائها من جديد، ماذا يمكن أن نضيف عليها؟ ربما نعيدها إلى البناء الكلاسيكي التقليدي، وبهذا نكون قد حجّمنا قيمة النص وقلّصنا مكامن التأويل وجماليّة اندماج أكثر من فن سردي وبصري لإنتاج قصة ناجحة بناء وخيالًا ولغة.

لم يقتصر التجريب عند الدكتورة أماني على البناء بل اشتغلت أيضًا على تجديد اللغة والرمز وعمدت إلى إرباك المتلقّي حتى يتحسّس أطرافه قبل أن يواصل القراءة.

في الختام اسمحوا لي أن أقترح على طلبة الماجستير والدكتوراة في الجامعات الأردنية البحث في تجربة الدكتورة أماني سليمان، خاصة هذه المجموعة التي بين أيدينا، لما فيها من اشتغالات واعية على الشكل والبناء واللغة.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

تعليق واحد

  1. نص فاحص متكامل وعميق. بالتوفيق المستمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *