“أمواج” العراق في سيرة ذاتية

*إياد الدليمي

 

لا تبدو “أمواج”، سيرة حياة الدكتور عبد الله إبراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي وعشرات المؤلفات النقدية، إلا انعكاسًا لسيرة العراق بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فأنت تسير على خيط رفيع بين ما هو ذاتي سيري وبين ما هو عام يتعلق بتاريخ بلد الراوي وسيرته.
ولعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إن طبيب السرد العربي وشارحه، الذي فكك النصوص، وضع كل خبرته بين يدي سيرة ذاتية ستغدو لاحقًا، بطريقة أو بأخرى، جزءًا من تاريخ بلده الذي ما انفك يعيش بين أتون صراعات وحروب واحتلال، فأنت هنا يمكن أن تسأل أين الذاتي وأين العام؟ فكلاهما يسيران بنسق معرفي سردي، تتصاعد فيه روح السرد وتقنياته من موجة إلى أخرى.
وعلى ذكر الأمواج، فعلى ما يبدو أن عبد الله إبراهيم لم يرد لسيرته الذاتية، أو سيرة بلاده من خلالها، إلا أن يضعنا في صورة أخرى من صور النمطية التي سارت عليها أحداث حياته أو أحداث العراق، مشبهًا لها بالموج الذي ما إن تختفي موجة حتى تظهر أخرى، وكأن لسان حاله يقول، كاضطراب البحر وتقلب موجاته كانت حياتي، وحياة العراق أيضًا.
وبمهارة السارد الذي وطن نفسه على الترحال والتدوين، تنقلنا “أمواج” عبد الله إبراهيم، على صفحات بحر ما إن يهدأ حتى يثور مرة أخرى، مستفيدًا من آلاف اليوميات التي كان يدوّنها وحرص عليها منذ قرابة الخمسين عامًا، ليجد نفسه، بعد رحلة البحث والترحال الطويلة، أمام مادة لا تحتاج سوى إلى قليل من التنقيح لتكون مادة سردية سيرية، تحاكي جزءًا من تاريخه الشخصي وتاريخ بلاده.
“أمواج” عبد الله إبراهيم التي صدرت قبل أعوام قليلة عن دار نشر جامعة حمد بن خليفة بنحو 600 صفحة، تحتفي بالعناوين بطريقة مهيبة، فلا يمكن أن تمر على موجة دون أن تقف قليلًا مع تلك العناوين التي اختارها الناقد الكبير، فلقد أولى عناوينه كل العناية، بدءًا من عنوان السيرة العام ” أمواج”؛ وليس انتهاءً بالعناوين التي اختارها لفصول سيرته، فخذ مثلًا عنوان موجته الأولى “بيضة الريح” التي استهل بها سيرته، طفولته وما كابد فيها، منذ أن خلفه والده يتيمًا وهو ابن الثامنة، أو مثلًا عنوان موجته السادسة “تيس بغداد”، ناهيك طبعًا عن عناوين فرعية بين دفتي كل موجة من موجاته الحادية عشرة التي شكلت مجمل أمواج السيرة المتلاطمة الأحداث.
ولأنه ابن كركوك، مدينة النار الأزلية، كان عراقيًا خالصًا، لم يعترف بالهويات الفرعية، القاتلة، كما يطلق عليها أمين معلوف، فهذه المدينة كانت مدينة الكل، العراقيون بمختلف هوياتهم الفرعية، قبل أن تطالها يد التعريب تارة، أو التكريد تارة أخرى، حيث دفع ثمن الثانية، مزرعته وبيته الحلم الذي أنفق فيه شطرًا كبيرًا من سنوات غربته، عندما تم تدميره وحرقه على يد قوات كردية في ربيع 2015.
في “أمواج” يخلع عبد الله إبراهيم معطف الناقد المهيب، ويلقي به جانبًا، ليجلس أمام مرآة أحداث ما زالت صاخبة، شكلته وشكلت من خلفه تأريخ بلد لم يتعافَ منها بعدُ، ولا يبدو أنه سيتعافى قريبًا.

لا تبدو “أمواج”، سيرة حياة الدكتور عبد الله إبراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي وعشرات المؤلفات النقدية، إلا انعكاسا لسيرة العراق بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى

وفي “أمواج”، يجلس عبد الله إبراهيم أمام مرآة تلك الأحداث، ينظر اليها بعين السارق الذي يريد أن يقتنص لحظات لا تبدو أنها هاربة، فهو ليس هو، الناقد الحاذق، أستاذ النقد أو الحامل لمشرط التحليل للنصوص السردية، هو الآن، عبد الله إبراهيم الإنسان الذي عاش لجة تقلبات وأحداث تركت بصمتها عليه وعلى شعب كامل، بل ربما شعوب منطقة بأسرها.
إنه هنا، في “أمواج”، يحاول أن يعود بالزمن إلى الوراء، ساردًا لتفاصيل سيرته التي تصلح لأن تكون سيرة جيل كامل من العراقيين، وتحديدًا شريحة المثقفين منهم، ممن عايشوا يوميات الانتقال القسري لعراق ملكي إلى عراق جمهوري ثم توالت الجمهوريات العسكرتارية، التي تركت أثرها على تاريخ البلد والمنطقة.
ويبدو أن عبد الله إبراهيم الذي طالما حاكم نصوص السرد والرواية، والذي كثيرًا ما وقف متحيرًا قارئًا إزاء الكثير من متغيرات التاريخ وسردياته المركزية، قد استفاد من كل ذلك وهو يدوّن سيرته الذاتية، فأنت ما إن تدخل موجته الأولى حتى تنتقل بسلاسة إلى الثانية والثالثة، وكأنك سائح بين ثنايا تاريخ لا تريد له أن ينتهي؛ رغم مرارة ما فيه من استذكار وتدوين لأحداث فيها الكثير من الألم.

في “أمواج” يخلع عبد الله إبراهيم معطف الناقد المهيب، ويلقي به جانبًا، ليجلس
أمام مرآة أحداث ما زالت صاخبة، شكلته وشكلت من خلفه تأريخ بلد لم
يتعافَ منها بعدُ، ولا يبدو أنه سيتعافى قريبًا.

وربما من أجمل ما يمكن أن يصادفك في “أمواج” الدكتور عبد الله إبراهيم، ليست سلاسة لغته وجماليتها وحسب، وإنما هذا البوح الذاتي الذي يصل حد تكسير الكثير من التابوهات التي ربما يرفض الكثيرون الحديث عنها عند كتابة سيرهم الذاتية، فأنت هنا وكأنك تستمتع لبوح لا خشية فيه من ردة فعل هنا أو هناك، كأنه شعر بتعب سنوات طويلة من البحث الأكاديمي المعمق وملاحقة الروايات العربية والسرديات، قديمها وحديثها، وكأنه أراد أن يستريح من مبضع الناقد الذي طالما كان حريصًا أن يكون بغاية الدقة والإتقان والصرامة الأكاديمية التي جعلت منه بحق أبا السرد العربي، كما يحلو للكثيرين من متابعيه وقرائه أن يصفوه.
أعتقد أن كل عراقي يريد أن يقرأ تاريخ بلاده منذ نصف قرن وأكثر؛ عليه أن يطالع هذه السيرة، ففيها الشيء الكثير مما لن تأتي على ذكره كتب المؤرخين أو روايات المؤلفين، لأنه سيجد نفسه وسط سيرة بلد في شخص، كتبها بتجرّد ودوّن فيها ما يمكن أن يطلق عليه تاريخ العراق بلا رتوش، وإن كانت تبقى وجهة نظر مؤلفها وساردها، إلا أنها كانت تمثل رؤية نسبة ليست بالقليلة من العراقيين، وربما النسبة الأعظم من مثقفيه.

* كاتب وصحافي عراقي

  • عن موقع ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *