الأخوان رحباني وسيد درويش: تاريخ موسيقي تتشابك حلقاته

  • محمد دياب

«الشيخ سيد درويش فنان متمرد، هو أول من ترجم الأحاسيس الشعبية إلى قوالب موسيقية سليمة، وأول من لحن الأوبريت كما يجب أن يلحن، وأول فنان يعم فنه الشرق أيام كان هذا الشرق لا تربطه أي وسيلة من وسائل الإعلام. إنه رائد جيله، وأستاذ مدرسة عريقة، وفنان شعبي كبير»، هكذا تحدث الفنان عاصي الرحباني 1923 – 1986م، لمجلة «الشبكة» في العدد الصادر بتاريخ 26 سبتمبر 1966م، عن فنان الشعب سيد درويش 1892- 1923م الذي كان له أثر كبير في مسيرة الأخوين رحباني الفنية، خصوصًا في مجال المسرح الغنائي، وليس غريبًا أن يكون عاصي الرحباني قد ولد في العام نفسه الذي رحل فيه الشيخ سيد.

في طفولتهما هدهدت موسيقاه آذانهما من فونوغراف الوالد في مقهي فوار أنطلياس كما قال الفنان منصور الرحباني 1925 -2009م في حوار أجراه معه الشاعر هنري زغيب لمجلة “الوسط” بتاريخ 15 نوفمبر 1993م «حكاية الأخوين رحباني على لسان منصور الرحباني»: «في تلك الطفولة الأولى، من تلك العلية، كنا نستمع إلى بوق «فونوغراف» المقهى يذيع أغنيات الشيخ سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد والشيخ أمين حسنين، فتتلوّون طفولتنا بأجواء موسيقية تدخل ذاكرتنا وتمسنا بشعور لذيذ لم نكن نحسن تفسيرًا له في تلك الأيام الطرية».

منذ ولد عاصي ومنصور الرحباني وحتى دخول الأول للعمل عازف كمان في الإذاعة اللبنانية عام 1948م لم تكن هناك أغنية لبنانية ذات هوية أو خصوصية، كانت الأغاني في مجملها فلكلور ميجانا وعاتابا وأغاني بدوية ومصرية الطابع، ولم تبدأ هوية الأغنية اللبنانية بالتشكل إلا مع انتصاف حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، استفاد الأخوان رحباني وغيرهما من زملائهما من المدرسة المصرية التي كانت شهدت نهضة كبيرة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان سيد درويش هو بمثابة الحد الفاصل بين موسيقا القرن التاسع عشر وموسيقا القرن العشرين، أو ما بين المدرسة التطريبية والمدرسة التعبيرية في الغناء.

وسيد درويش بهذا المعنى هو الأب الروحي للغناء العربي في القرن العشرين، وكل من جاء بعده تأثر بدون شك بما قدمه وأكمل عليه وأولهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، والأخوان رحباني بدءا من حيث وصلت المدرسة المصرية مطلع خمسينيات القرن العشرين وكان درويش وعبد الوهاب أكبر أستاذين تتلمذا على فنهما، إضافة إلى روافد أخرى كالفلكلور الشامي والموسيقا البيزنطية والمارونية الكنسية، وتأثرهما بدرويش ليس فقط موسيقيًّا بل في فلسفته تجاه الفن وحداثته ورغبته في التطوير، وتوجهه البوليتاري، واهتمامه بطوائف العمال والفلاحين، درويش اشتغل في بدايه حياته عاملا في البناء وخالط العمال والبسطاء وهو ابن الشعب، كذلك الأخوان رحباني.

الشيخ سيد اختار المسرح الغنائي ليكون الفورم الذي يقدم من خلاله فنه واعتنى بالأغنية الجماعية وكذا سار على نهجه عاصي ومنصور، لذا نجد من الطبيعي أن يقدم سيد درويش لحن «الكناسين» في مسرحية «عقبال عندكم» عام 1919م، وتجد أيضًا لحنًا للكناسين في مسرحية «الشخص» للأخوين رحباني عام 1968م، وتشعر بتأثير لحن دور «أنا هويت» على لحن الدور الوحيد الذي لحنه الأخوين لفيروز «رجعت ليالي زمان» في الهنك والرنك المتبادل بين فيروز والكورس في مقطع «ليل القمر والنسيم»، ومقطع «أحبه حتى في الخصام» عند درويش.

كان سيد درويش – رحمه الله – يطمح في صنع بيانو يعزف الثلاث أرباع الصوتية، ومازلت أذكر حتى اليوم نظرة الإعجاب الشديد في عيني الفنان منصور الرحباني عندما شاهد هذا البيانو موضوعًا في دار الأوبرا المصرية 1999م، حينما قدم إلى القاهرة لتقديم مسرحية «آخر أيام سقراط» وكان في صحبة المايسترو مصطفى ناجي رئيس الدار وقتها.

أغاني من الماضي

التواصل المباشر مابين الأخوين رحباني وفن سيد درويش لم يحدث إلا في عام 1957م عندما صدرت ثلاث أغنيات من أعماله بتوزيع الأخوين رحباني وغناء فيروز، وكان القرار بإعادة تقديم هذه الأعمال قد أخذه الأخوان رحباني خلال وجودهما في القاهرة عام 1955م بدعوة من إذاعة «صوت العرب» لتسجيل مجموعة أعمال بصوت فيروز لحسابها.

قال عاصي وقتها في حوار أجرته معه مجلة «أهل الفن» المصرية متحدثًا عن سيد درويش: «هو وجه صادق جدًّا من وجوه الموسيقا المصرية أو الغناء المصري، وسوف تقوم فيروز بغناء بعض أغانيه كما ستقوم بتنفيذ برامج على الأوركسترا له وأنا سمعت له قليل، ياللأسف يذاع له قليل، سمعت له في لبنان وهو شائع هناك أكثر من مصر، وميشال خياط وهو ملحن كان يعمل مع الشيخ سيد درويش أسمعني بعض ألحانه منذ حين فدهشت جدًّا لأنني اكتشفت أنها ذائعة في الجبل وأمي كانت تغنيها، ومن هنا تجد أن الملحن عندما يعبر بصدق عن بيئته فإن أغانيه تجد لها مكانا عند الناس».

وعن مدى تأثر الأخوين بفن سيد درويش قال: «أنا شخصيًّا أقول لك الحق أنا لما فتحت عيني فتحتها على موسيقا الشيخ سيد، كان كل مساء في بلدتنا تعزف موسيقاه ولعلها من جملة الأشياء التي ربت في نفوسنا حب الموسيقا وبذورها الأولى».

في عام 1957م أصدرت الشركة اللبنانية للتسجيلات ثلاث أغنيات من قديم سيد درويش وتوزيع الأخوين رحباني وغناء فيروز تحت عنوان «أغاني من الماضي»، في البداية صدرت أسطوانة ضمت أغنية «زوروني كل سنة مرة» وهي الطقطوقة التي كتبها الشاعر محمد يونس القاضي، وذاعت قديمًا بصوتي فتحية وحامد مرسي، وعلى الوجه الآخر من ذات الأسطوانة طبعت أغنية «طلعت يامحلا نورها» شعر بديع خيري، وكانت فتحية أحمد غنتها في مسرحية «قولوا له» لفرقة نجيب الريحاني عام 1918م، وفي وقت لاحق من العام نفسه صدرت أغنية «الحلوة دي قامت تعجن في البدرية» من شعر بديع خيري، وكانت غنتها أيضًا فتحية أحمد ضمن مسرحية «ولو».

كتب على الغلاف الخلفي للأسطوانة الأولى: «تلك الأغنيات التي يغنيها لنا جداتنا وأجدادنا، الأغنيات التي نحبها ونحب ذكرياتنا معها أيام كنا صغارًا، ولا نسمع اليوم غير صداها البعيد في نفوسنا، هي الآن من جديد ملء سمعنا تغنيها لنا فيروز، فقد عزمت الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية على إصدار مجموعة من تلك الألحان التي شاعت منذ أكثر من ربع قرن، فكانت أغنيات الشباب لأجدادنا، في إخراج جديد أنيق يليق بتلك الأغنيات العزيزة إلى نفوسنا».

أدخل الأخوان رحباني بعض التعديلات على نصوص الأغاني الثلاث، التي حققت نجاحًا شعبيًّا وتجاريًّا كبيرًا، وكان النجاح هذا هو الدافع وراء رغبة الموسيقار محمد عبد الوهاب في أن يعيد الأخوين رحباني توزيع ثلاث أغنيات أيضًا من أعماله القديمة لتغنيها فيروز كما فعلا مع سيد درويش. صدرت تلك الأعمال في عام 1961م من خلال شركة الأسطوانات الخاصة بالموسيقار «صوت الفن»، وهي: «خايف أقول اللي في قلبي»، و«ياجارة الوادي» فيما لم تتمكن فيروز من تسجيل «مريت عل بيت الحبايب».

في عام 1959م أيام وحدة مصر وسورية «الجمهورية العربية المتحدة» وفي أول ظهور لها على خشبة معرض دمشق الدولي ظهرت فيروز وهي ترتدي الملاية اللف والمنديل أبو قوية، زي الفتاة الشعبية المصرية لتغني فاصلًا من أغنيات سيد درويش بدأها الكورس بغناء «عطشان يا صبايا دلوني عل السبيل»، لتدخل فيروز إلى المسرح وخلفها الشباب والصبايا وقد ارتدوا زي الفلاحين المصريين، وانطلق صوت فيروز بغناء أغنية أخرى لسيد درويش «الحلوة دي قامت تعجن في البدرية»، واختتمت المشهد المصري بأغنية «زوروني كل سنة مرة».

الأخوان رحباني

تحولت بعدها تلك الأغنية «زوروني كل سنة مرة» فيما بعد إلى تميمة وأيقونة تختتم بها حفلاتها في لبنان والعالم حتى أنها في العام 1987م وقبل جولتها الأميركية طلبت من زياد أن يضع لها أغنية تختتم بها حفلاتها عوضًا عن أغنية «زوروني» فوضع لها أغنية «أنا صار لازم ودعكن»، ومع ذلك أصبحت فيروز تختتم حفلها بالأغنية الجديدة ثم تعود لتغني «زوروني».

الطريف هو أن زياد أدهشته فكرة أن تغني فيروز كلمة «كوكو كوكو» قائلًا في حوار تليفزيوني له: «حد يتخيل أنه فيروز تغني كلمة «كو كو كو في الفجرية»! غير أن المتابع لفن فيروز يعرف أنها غنت في بدايتها الأولى مع الأخوين رحباني في الإذاعة منولوج فكاهي انتقادي وهو اللون الذي اشتهر به إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وثريا حلمي، غنت منولوج «قديش تخينة جارتنا»، كما عادت وغنت مع زياد في «البوسطة» 1979م «واحد عم ياكل خس وواحد عم ياكل تين/ وهيدا اللي هوي ومرتو ولو شو بشعة مرتو»، وأعادها زياد مجددًا لغناء المنولوجات الفكاهية الانتقادية في ألبوم «ولا كيف» عام 2001م الذي ضم ثلاث منولوجات هي :«إن شالله مابو شي»، و«تنذكر ماتنعاد»، و«لا والله».

في الحقبة نفسها في نهاية الخمسينيات سجلت فيروز من كلمات وتوزيع الأخوين رحباني أغنية، «طل الحلو»، أو «عاليادي اليادي فيا الهوا فيا»، ولحن الأغنية مأخوذ من لحن سيد درويش لأغنية «عالنسوان يا سلام سلم» التي قدمها سيد درويش مع حياة صبري ضمن المسرحية الغنائية «ولو» عام 1918م لفرقة نجيب الريحاني من تأليف بديع خيري، وقد أعاد زياد رحباني توزيع موسيقا الأغنية هذه مع أغنيتي «الحلوة دي» و«طلعت يا محلا نورها» ضمن أسطوانة أصدرها بعنوان «مهرجان رحباني» عام 1973م ضمت توزيعات موسيقية جديدة لأغاني والدته فيروز والأخوين رحباني.

بعد النكسة الأخوان يوزعان «اليوم يومك يا جنود»

في منتصف الستينيات قدم الأخوان رحباني مجموعة من الموشحات ضمتها أسطوانة كبيرة حملت عنوان «أندلسيات» أعادا فيها توزيع موشح سيد درويش «يا شادي الألحان» وغنته فيروز بمشاركة المطرب الفلسطيني محمد غازي، صدرت الأسطوانة عام 1966م، وصور الموشح تليفزيونيًّا في ذلك العام ضمن سهرة «ضيعة الأغاني» من إخراج أنطوان سي ريمي لتلفزيون لبنان والمشرق، ومحمد غازي هو المطرب الفلسطيني المصري الهوى، وهو أستاذ ومعلم فيروز في غناء الموشحات والمواويل، وهو من دربها على غناء الليالي المصرية التي غنتها في طقطوقة «يا ماريا» من ألحان داود حسني عام 1966م ضمن أوبريت أيام فخر الدين.

في خريف العام نفسه وخلال زيارة الأخوين رحباني وفيروز لمصر، كان هناك مشروعان مرتبطان بنتاج سيد درويش الأول هو تقديم فيروز لاستعراض غنائي كبير على مسرح البالون يتضمن أعمالًا مختارة من أغاني سيد دويش بتوزيع الأخوين رحباني، والثاني هو مشروع لتسجيل أسطوانة دور «أنا هويت» بصوت فيروز بمشاركة غنائية مع الموسيقار محمد عبدالوهاب.

وفي ديسمبر من العام نفسه 1966م نشرت مجلة الشبكة خبرًا جاء فيه: «يدرس الموسيقار محمد عبد الوهاب حاليًّا العرض الذي قدم له للموافقة على الغناء في بيروت لمدة عشر دقائق فقط خلال ثلاثة أيام على مسرح البيكاديللي، وقد تعهد صاحب العرض بأن يحضر للموسيقار الكبير أوركسترا عالميًّا من أي بلد أوروبي، وأن يوزع الأغاني التي سيقدمها الأخوان رحباني، ورشحت أغنية سيد درويش «أنا هويت وانتهيت» لكي يقدمها الموسيقار الكبير مع المطربة فيروز، وقد ترك العرض مفتوحًا أمام الموسيقار الكبير ليحدد الرقم الذي يختاره دون نقاش!».

ويبدو أن الدور ظل حاضرًا في ذهن فيروز والأخوين فغنت مذهب الدور فقط ضمن مسرحية «يعيش يعيش» عام 1970م، في المشهد الذي يسأل فيه مذيع الراديو هيفا (فيروز) عن أغنيتها المفضلة، فتجيبه: «أغنيتي المفضلة من زاوية الغناء القديم»، وتشرع في غناء الدور غناء حيًّا.

في إبريل من عام 1968م، وبعد نكسة يونيو بأشهر، زارت شادية لبنان من أجل تسجيل عملين من ألحان الشيخ سيد درويش من أوبريت «شهرزاد» لبيرم التونسي، كان قدم العام 1921م في غمرة أحداث ثورة عام 1919م، من بطولة سيد درويش وحياة صبري، بتوزيع وإشراف الأخوين رحباني لتقدمهما ضمن لأحداث فيلم «الحب الضائع» الذي كانت ستتولى بطولته هي ونادية لطفي وحسين فهمي وسمير شمص، ومن إخراج حسن الإمام قبل أن يختلف الأخير مع منتج الفيلم رمسيس نجيب وينسحب، وقبل أن تعتذر عنه شادية ويذهب إلى سعاد حسني وزبيدة ثروت والمخرج هنري بركات فيما بعد. دعت فيروز أيضًا شادية إلى منزلها لحفل عشاء هي وزجها وقتها صلاح ذو الفقار، لكن لم يتم تصوير السهرة هذه فوتوغرافيًّا.

سجلت شادية العمل في ستديو بعلبك وطبع على أسطوانات شركة «موريكو» في العام التالي في بيروت، ثم اختفت الأغنيتان تمامًا حتى أعوام قليلة مضت عندما نشرهما المطرب اللبناني مروان محفوظ على صفحة «أسطوانات فيروز» على موقع الفيس بوك، الأغنية الأولى هي ديالوج يحمل عنوان «آديني أهه جتلك بدري» غنته شادية بمشاركة المطرب اللبناني إيلي شويري، والثانية «اليوم يومك يا جنود ما تجعليش للروح تمن»، كلاهما غناه سيد درويش بمشاركة المطربة حياة صبري والمجموعة، سجلت بصوت إيلي شويري والمجموعة دون مشاركة من شادية.

أما عن عدم إتمام المشروع الثاني الذي طرح في القاهرة عن تقديم عمل استعراضي غنائي من أعمال درويش بصوت فيروز وتوزيع الأخوين في القاهرة، فقد نشر محمد علي حماد رئيس جمعية «أصدقاء موسيقا سيد درويش» مقالة في جريدة «الأخبار» المصرية بتاريخ 29 أكتوبر 1976م يوضح فيها أسباب فشل هذا المشروع الفني، يقول حماد: «في سنة 1968م بدأت وزارة الثقافة حركة جادة لجمع وتسجيل تراث الموسيقار الخالد سيد درويش، وشكلت لجنة لهذا الغرض بأمر الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة في ذلك الحين، ورئي أن يواكب ذلك العمل القومي الكبير، إعداد استعراض غنائي راقص من ألحان وموسيقا الموسيقار الكبير، وكلف الفنان سعد أردش بالإشراف على هذا الاستعراض وإخراجه للمسرح، ورأى وزير الثقافة أن تشكل لهذا الاستعراض فرقة خاصة من أمهر الفنانين المصريين من مطربين وعازفين وراقصين ومنشدين، وتطوف الفرقة بهذا الاستعراض الضخم البلاد الشقيقة جميعًا مبشرة بالفن المصري العريق، فن سيد درويش، واقترح أن يكون على رأس هذه الفرقة المطربة فيروز، على أن يعهد إلى الأخوين رحباني توزيع موسيقا هذا العمل الفني الضخم على نحو ما فعلوه في أغنيات «زوروني» و«الحلوة دي» و«طلعت يامحلا نورها» وغيرها، وطلب من جمعية «أصدقاء سيد درويش» تسجيل مختارات من ألحان سيد درويش من أرشيفها الخاص ليختار منها الأخوان رحباني ما هو صالح للاستعراض المطلوب، وسجلت الجمعية نحو سبعين لحنًا على أشرطة خاصة حملها سعد أردش وذهب بها إلى بيروت لمفاوضة الأخوين رحباني، وعاد أردش بعد أسبوعين ورفع تقريره إلى الوزير متضمنًا شروط الأخوين رحباني وهي: أولًا: طلبوا ألف جنيه لهم ولفيروز عن كل حفلة من حفلات الاستعراض تقام في القاهرة، ثانيًا: طلبوا عشرين ألف جنيه مقابل التوزيع الموسيقي للاستعراض، ثالثًا: طلبوا أن يكون لهم وحدهم حق بيع تسجيل الاستعراض لإذاعات وتليفزيونات العالم العربي، وحق بيع التسجيل الميكانيكي على شرائط أو أسطوانات لشركات الأسطوانات في العالم العربي، وعلق وزير الثقافة على هذه الطلبات المتواضعة قائلًا: «إن الأخوين رحباني يطلبون الاستيلاء على تراث سيد درويش وعشرين ألف جنيه كمان فوق البيعة».

غابت أعمال سيد درويش عن نتاج الأخوين الفني لأكثر من عشرة أعوام، حتى عادا مجددًا وقدما طقطوقة «سالمة يا سلامة» بتوزيع جديد وتعديل في كلماتها التي كتبها بديع خيري ليغنيها الشيخ سيد، بلغ حد إضافة كلمات لغصن – مقطع – جديد في الطقطوقة كما في «قالوا القمر بالسما يضوي ليالينا» الأغنية قدمت بصوت رونزا ضمن البرنامج التليفزيوني «ساعة وغنية» عام 1979م.

أهو ده اللي صار

عندما غنت فيروز في القاهرة عام 1989م بدأت حفلاتها عند سفح الأهرامات بغناء طقطوقة «أهو ده اللي صار» لسيد درويش لأول مرة بتوزيع واقتراح من نجلها زياد رحباني، وهي من أغنيات ثورة 1919م كان غناها لأول مرة المطرب عبد اللطيف البنا من شعر محمد يونس القاضي.

يقول زياد في مقابلة تلفزيونية له حول كيفية إقناعه فيروز بغنائها، أنه خلال استعداد فيروز لإحياء حفلات في مصر عام 1989م فكرت في تقديم أغنية جديدة تحية لمصر، «قولت لها اسمعي اللحن العظيم ده، فأبدت إعجابها الشديد به»، وسألته هي لمن هذه الأغنية، فأجابها لسيد درويش، فقالت: «شو بيقول الكلام؟» كانت خائفة من كلمات الأغنية، «قولت لها ده كلام الأغنية ومافيناش نعدل بالكلام، الأغنية ثابتة واللي كتبوها مش موجودين، ودغري تركتها وخرجت لأنهي الجدل. وغنتها كما هي بنفس كلماتها، باستثناء كلمة واحدة تم تبديلها عندما غنت فيروز: «مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب»، وفي أصل الأغنية «سعدك أصيل»، والمقصود بسعدك هو سعد زغلول زعيم ثورة 1919م».

مدى تأثير درويش في فن الأخوين

حول مدى تأثير سيد درويش في فن الأخوين رحباني يقول المايسترو والناقد الموسيقي سليم سحاب في حوار لي معه: «سيد درويش ترك أثره وبصماته على الموسيقا العربية كلها وليس على الأخوين رحباني فقط، عندما يقول الموسيقار رياض السنباطي كلنا خرجنا من عباءة درويش أنا وزكريا أحمد والقصبجي ومحمد عبد الوهاب، وأنا أقول مثلما كان باخ بمثابة ملخص لموسيقا الباروك، سيد درويش ملخص لكل الموسيقى العربية التي جاءت قبله، وهذا ليس بكلام عاطفي بل كلام علمي، أول أستاذ علم الأخوين رحباني قواعد الموسيقا هو الأب بولس الأشقر الأنطونيوني، عرفهما على الموسيقا المصرية وتحديدًا موسيقا سيد درويش وهذا باعتراف منصور الرحباني، الذي ذكر هذا في حفل أقيم لتكريم عاصي الرحباني في ذكرى رحيله الأولى، وسيد درويش وقتها لم يكن معروفًا في لبنان، بل وفي مصر لأنهم حاربوه حتى بعد رحيله، حيث منعت أغانيه في مؤتمر الموسيقا العربية الأول الذي أقيم في مصر 1932م، وكان كل من يغني له يطرد من معهد الموسيقا الشرقي، وذلك بسبب موقفه من السلطة الملكية.

ويتابع سحاب: «عندما حضر الأخوان رحباني إلى مصر عام 1955م تعرفا أكثر على فن سيد درويش. في لبنان تعرفا على فنه من خلال الملحن ميشال خياط الذي عمل مدة مع الشيخ سيد، وكما قال الفنان توفيق الباشا: «الموسيقا اللبنانية هي الابن الشرعي للموسيقا المصرية»، وأنا أقول إن الموسيقا المصرية هي خلاصة الموسيقا العربية كلها من شرقها إلى غربها لأسباب متجذرة في التاريخ، غير أن أعظم أثر تركه سيد درويش في الأخوين رحباني هو أنه جعلهما يتجهان إلى المسرح الغنائي اللبناني، فأصبحا هما مؤسسي هذا المسرح الذي استمر لنحو عشرين عامًا».

لكن هل هناك تأثيرات مباشرة لموسيقا سيد درويش في موسيقا الأخوين رحباني؟ يجيب سحاب: «لا أعتقد، لأنهما كانا ميالين إلى الغرب، ميالين لطبيعة الجملة الغربية التي تتلاءم مع الهارمونيا الكلاسيكية، اللي درسوها عند برتران روبيار عازف الأوبوا اللذين تتلمذا على يديه كما في «حبيتك بالصيف»، و«آخر أيام الصيفية» علشان كده لحنهم تغرب، الوحيد اللي درس غربي وطوع الهارمونيا الغربية لطبيعة اللحن الشرقي هو زكي ناصيف».

زياد رحباني قال: «لو أن سيد درويش عاش أطول لانتهى إلى ما وصل إليه الأخوان رحباني». ما رأيك في قوله هذا؟ يجيب سحاب: «طبيعي إن زياد يقول كده لأنه يحب أهله ومتأثر بهم، في اعتقادي أنه لو عاش الشيخ سيد أطول لكان صنع أوبرا عربية، فقبل أن يموت كان في نيته السفر إلى إيطاليا لدراسة فن الأوبرا».

وفي الختام نستعيد مقولة كتبها الساخر محمد عفيفي على هامش ندوة مجلة «الكواكب» التي أقامتها للأخوين رحباني عند زيارتهما لمصر عام 1966م، حين قال: «إذا كان سيد درويش قد خلع العمامة عن الموسيقا العربية، فإن محمد عبدالوهاب قد ألبسها بدلة سكوتش، في حين أرسلها الأخوان رحباني لتستكمل دراستها في الكونسير فاتوار!».

  • عن مجلة  الفيصل

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *