فلسفة الجمال كدواء لوباء كورونا

  • عزيز الحدادي

من الحكمة أن نتساءل، هل ثمة وجود لعلم الجمال في السينما، مثلما نتساءل في الفلسفة هل ثمة وجود للحقيقة، حين تكون الميتافيزيقيا قد قادت الفلسفة نحو النسيان المطلق للوجود والاهتمام بالموجود. لم يعد التساؤل عن وجود الإنسان ممكنا. وبما أن الإنسان يملك أثمن ملكية يصطاد بواسطتها المطلق، فإن الجمال يغريه المطلق، ويتوجه نحو الروح المطلقة. هكذا يرقى الإنسان نحو الفن، وبالأحرى الجمال الفني، باعتباره أسمى شكل تتجلى له الروح المطلقة، ولذلك سنختبر هذه العلاقة بين الفن السينمائي والروح المطلقة، انطلاقا من تلك الأسئلة العميقة لفلسفة الجمال.
يفتخر هيغل في كتاب «الاستطيقا» بالروح الألمانية، لأنها وحدها تمنحه الثقة للقول «مفهوم الاستطيقا مألوف عندنا نحن الألمان، لكن الشعوب الأخرى تجهله»… فبأي معنى يمكن أن نفهم هذا الكلام؟ هل يتعلق الأمر بعجرفة الفيلسوف؟ أم مجرد حكم قيمة لن يستطيع الصمود أمام تطور مفهوم الاستطيقا عند الشعوب الأخر؟ الاستطيقا هنا تعني ما يجعل العمل الفني جميلا وفلسفيا، لأن من طبيعة الفن أنه يحيا في العمل الفني بقلق فلسفي، وإلا ضاع منه جوهره. تأملات الفيلسوف تنساب إلى جوهر العمل الفني، حين يقول «سنحاول العثور على جوهر الفن هناك، حيث يسود الفن على وجهه الصحيح، الفن يحيا في العمل الفني، ولكن ما هو العمل الفني، وكيف يكون؟ إننا نتحرك في دائرة مغلقة، والفلسفة نفسها دائرة مرتدة على ذاتها، والأعمال الفنية لا متناهية، لكون الأذواق تختلف إلى ما لانهاية. ومع ذلك ففي الفن تلتقي الروح بذاتها، ويتعرف على نفسه في الجمال طبقا لما هو جميل وغير جميل. هكذا سيجد أمامه طريقا واحدا يقوده نحو الإقامة الشعرية في الاستطيقا، ولعل هذا الطريق لا يمكن أن يكون مسدودا بفضل الفلسفة، ولذلك فإن الشعوب التي تضطهد الفلسفة ستظل جاهلة لهذا الطريق الذي يقود إلى الاستطيقا، مما يحكم عليها بالحرمان من سينما المؤلف الغارقة في علم الجمال. وهيغل لم يكن يقصد شيئا آخر غير هذا المعنى، فلا استطيقا بدون فلسفة، كما أنه لا تقنية بدون علم، ولا سينما بدون استطيقا، لأن هذا التسلسل المنطقي تنبغي صياغته في سؤال الراهن، على الرغم من أن روح هذه الامة قد اصيبت بداء الصمم، لا أحد يسمع لأن الجميع يتكلم دفعة واحدة. هكذا أضحت ميزة الإنسان هي الثرثرة بعدما فقد متعة الصمت والتأمل.
فالثرثرة هي أخطر الأمراض التي تقف حاجزا أمام دخول الاستطيقا إلى تلك الأمم المتخلفة فكريا، خاصة أنها تدعي امتلاكها للحقيقة المطلقة، تتوارثها الأجيال، لا يمكن أن تلتفت إلى هذا السؤال الذي نطق به سقراط ذات يوم.. هل إن الخطاب الفلسفي الذي يتوجه إلى قول الحقيقة، بإمكانه أن يثير انتباه كل من يبحث عن الحقيقة في مكان آخر. وبما أن الحقيقة هي هدف الفلسفة، فمن المستحيل الحديث عن تجليات الروح في الفلسفة والفن، في غياب تجليات الشغف بالحقيقة، ذلك أن الحقيقة الدينية وحدها لا تكفي في خلق عظمة الروح، بل ستقودها إلى النمو في الأسطورة التي ستصبح هي الشكل السائد للوعي.

لن توجد هناك سينما بدون فلسفة الجمال، لأن ما يحدد ماهية السينما هو فلسفة الجمال، ومن أجل ضمان هذا الوجه الاستطيقي للسينما.

وعلى هذا النحو يستحيل إصدار قاعدة استطيقية يمكن اعتمادها للفصل في ما هو جميل وما هو غير جميل، وبعبارة أخرى يستحيل صوغ معيار للجمال، مما سيحكم على الذوق بفقدان ملكة الذوق، لأن الروح لا تجد أمامها غير الأساطير التي تهيمن على عقول الناس، ولذلك لم يتساءلوا عن وجودهم في هذا العالم، وبالأحرى التوجه نحو الإقامة الاستطيقية فيه فهيجل يقول: «الأسطورة تعبير عن عجز الفكر الذي لا يستطيع أن يقيم ذاته على نحو مستقل «.
فثمة إمكانية واحدة للخروج من هذه الاستحالة الشرسة، التي أضحت تهدد الاستطيقا بالنفي لكي تلتحق بالفلسفة، لأنهما مولعان ببعضهما. وتتحدد هذه الإمكانية في العيش هنا بالأساطير، والتفكير هناك بالعقل الفلسفي، والفكر الإستطيقي، وبعبارة أوضح قراءة الكتب الفلسفية، ومشاهدة الأفلام هناك والخضوع للهيمنة الثيولوجية هنا، وإلا ستنهار الروح، وتفقد كل ملكاتها العقلية والحسية، فقد يكون من الأفضل ممارسة الزهد الفلسفي في هذا العالم الثرثار، الذي تحولت فيه الأشياء الجميلة إلى كلمات فارغة من المعنى، لا يمكنها أن تنجح حتى اللامعنى، لقد تراكمت في ثقل الزمان أوامر عنيفة تزحف على الروح وتمنعها من إبداع الأعمال الفنية، والتنزه في فلسفة الجمال، هكذا ستمضي بنا الأيام إلى فقدان الحق في وجود الوجود وعدم الاستجابة لنداء الحقيقة الصامت، وتتراءى أمامنا الصور وهي تغرب في شفق العدم حينئذ سنصرخ بصوت مرتفع، لن توجد هناك سينما بدون فلسفة الجمال، لأن ما يحدد ماهية السينما هو فلسفة الجمال، ومن أجل ضمان هذا الوجه الاستطيقي للسينما، قام الغرب بجعل الفلسفة حقا من حقوق الإنسان، إنها كالحرية والمساواة والكرامة، ولذلك سنتساءل عن ماهية السينما الغربية، ونجيب عنها بفلسفة الجمال الغربية أيضا، ولن يستطيع أي كان الاعتراض، لأننا سنواجهه بالحال التالي، فهل عندك حرية وكرامة ومساواة لتدافع عن الحق في الفلسفة، وهل تسمح لك الهيمنة الثيولوجية بمشاهدة السينما الغارقة في الاستطيقا؟

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *