“رجال ألمع”.. قرية تُلون النساء شبابيكها

“رجال ألمع” قرية تُلون النساء شبابيكها، ويطرز الرجال ملابس نساءها.

* ريم الكمالي 

لمن لم يسمع أو يقرأ عن قرية «رجال ألمع» الواقعة في جنوب غرب المملكة العربية السعودية، فإنها برأيي تستحق اهتمام الانسان المعاصر، والباحث عن المعمار المختلف، رغم أن كل من يرى هذه القرية يشعر بأنها خارج زمننا الذي نعيش بسبب اختلافها مبانيها الحجرية ذات الطوابق العالية، هذا التميز والاختلاف في عراقتها وتراثها دعت أخيراً منظمة اليونسكو أن توليها اهتماماً خاصاً.
حين فكرتُ الكتابة عنها، وجدت بالطبع من سبقني، منذ الطبري الذي ذكر بأن أهل “رجال ألمع” شاركوا في معركة القادسية «15هـ» وأسهموا برجالهم في حماية المدينة المنورة، كحامية مرابطة، ليثبتوا أنهم أصحاب موقف. إلى الباحثين الغربيين وكتابات منوعة عنها، لكنني وجدت في هذه القرية معاني مختلفة تستحق أن نكتب عنها، بل ونغني لها، ونهتم بها، خاصة أننا بتنا نتحدث عن التراث البعيد أكثر من التراث القريب لمنطقتنا، كما هي قرية «رجال ألمع» والتي أصبحتالآن مدينة تابعة لعسير، تستحق أن نروى حكايتها، فحجمها فاق المعنى البسيط للقرية.
سكانها حوالي 66 ألف نسمة، وتبعد عن مدينة أبها حوالي 45 كيلو متر، وقد كانت يوماً وعبر تاريخها نقطة وصل بين مكة واليمن والشام والبحر الأحمر، ولأنها تقع في موقع مميز بين مدينة أبها وعسير والدرب وقنا، ولأنها أيضاً تقع بين الجبال،فقد بنى (الألمعيون) أهلها، منازلهم فوقها من الأحجار الصلبة ومن الطين، مرتفعين بمبانيهم لتصبح كالحصون والقلاع العريقة، كما هي مدينة شبام وصنعاء وغيرها من المدن اليمنية، ولقربها منها، فباتت قرية رجال ألمع اليوم من أجمل الأمكنة التي تستطيع التجول فيها بمتعة مختلفة، فليس من شبيه لها وأنت تمر في أزقتها التي تصعد بك وتنزل أمام ساحات منازلها الواسعة والمفروشة بالحصير الملون، وترى جدرانها المرسومة ونوافذها وأبوابها الخشبية تشع بالألوان الهندسية المختلفة.

حجر الكوارتز

التراث المعماري لـ”رجال ألمع” يستحق الدراسة خاصة فيما يتعلق بالأبراج الحجرية والمربعة المزخرفة بكتل من حجر الكوارتز الأقرب في دقته بلون السكر الأبيض، ألصقت بمهارة عالية وثقافة إبداعية تنم عن شخصيات أناس هذه القرية، وكأنهم يمتازون بقوة محبتهم للجمال، هذه الدقة جعلتهم قدوة ثقافية لمن حولهم، بل وقدوة نموذجية لثقافة المنطقة كلها، فما يُنقش بحب على تلك الجداريات، وما تم تلوينه على النوافذ، قد خرج بجاذبية للناس، خاصة في تلك الرسومات المنحوتة على الأبواب وثوب ألوانها، مقابل الحجر الداكن الذي يحيط بها، وكأن الباب أو النافذة أشبه بكنز لافت أو جوهرة بين الجدران، ولم يرسم كل ذلك الغرباء بل أهل القرية.
وعى الألمعيون، سكان قرية “رجال ألمع”، مبكراً، على أهمية حفظ تراثهم وتاريخهم، فاقترحوا أن يحول المبنى الخاص والأجمل في القرية، وهو أشبه بحصن، ويعود لعائلة آل علوان،إلى متحف يحوي تراثهم ويحكي تاريخهم، وبالتالي قاموا بترميمه من قِبل أبناء القرية أنفسهم، بعد أن وضعت فيه جميع العائلات زينتها الموروثة، وأيضاً قطعها الكثيرة والثمينة، ليصبح مقصداً للسياح ومن كل أنحاء العالم.
لعلمنا أن بعض المباني وفي أية قرية أو مدينة، مع الوقت تصبح في خدمة المكان وتضيف له ولمكانته الثقافية الكثير، ويغدو مع الوقت قطعة تاريخية يجتمع فيها الإرث المادي من الموجودات عبر تاريخ القرية، وهذا ما جرى في قرية رجال الألمعي، لكن المرأة في القرية، هي من تدير مشروعات فنونها أثناء النقش والتلوين مع أبناء القرية، فكان دورها هو الأهم والأجمل في تقديم الجمال هناك، رغم أن اسم القرية “رجال ألمع” لكن نساء القرية لديهن الامتياز الأكبر والموهبة الأجمل في النقوش والفنون، فهن من يسهمن في بيوتهن وقصورهن في النقش، وهن من يتفردن بذلك لا الرجال.

أسماء الألوان

ما أعجبني فعلاً هو أن لأهل القرية أسماء مختلفة يطلقونها على ألوانهم، فالأحمر هو الحُسن، لأنهم كانوا يأتون به من أحجار حمراء اللون بعد أن تُدق ويضاف لها المر، أما الأزرق الغامق فيسمى النيلي بعد أن يحمص في مطحنة يدوية، وحتى الألوان الأخرى كالبني الغامق ويسمى “الدمني”،والبني الفاتح “قهوي” والأصفر “أجلح” والأصفر الغامق “كركمي”، والأبيض المطفي “حليبي” والأخضر الغامق “خاكي” والأزرق الفاتح سماوي، والعنابي “دم الغزال” والبنفسجي “ليلكي” واللون “الفوشي” بوصي، والرمادي “أغبر”… وهكذا لتبدو أسماء الألوان لدى أهل القرية استمدت من مكونات الطبيعة والطعام.
وأخيراً يجب ذكر أن هذا ما تشمله القرية وما تحيطها من مناطق الجنوب السعودي، كأهل قحطان وعسير، فجميعهم يمزجون الألوان بالصمغ، وهي من الأساسيات في النقش الألمعي، ليبدو لامعاً ومختلفاً في وهجه.

قاموس الزهور

وإن انتهيت من القرية وتجولت حولها فإنك تشم رائحة النباتات العطرة وأنت في طريقك بين الجبال ووسط الأودية والسهول، فهي من أغنى المناطق العطرية في جزيرة العرب حيث تفوح من نباتاتها الطبيعية روائح وأريج الطيب، وبالأخص في مواسم الورود والمطر، فمناخها الرائع منحها نفحة الشذى معظم أيام السنة، لكثرة النباتات النابتة وبأنواعها، كما أن العسل الألمعي من أطيب أنواع العسل في العالم، من دون مبالغة، بعد أن قام المختصون في الخارج، بتحليل نوعه وصفاته وما به، فتبين أنه يُعد مادة علاجية أساسية، ناهيك عن أنواع الأشجار والأعشاب التي بين الشلالات، لتخرج الزهور المنعشة في عبيرها، ليتم إنتاج ماء الورود والنعناع وماء الزيوت وماء الثمار وماء الأوراق.
ولتلك النباتات العطرية أسماؤها لدى الألمعيين، ولكل منها صفة ولون وشكل، وقائمة طويلة من النباتات برائحتها النفاذة، كرائحة الكافور والكادي والخزامى وزهور البنفسج والياسمين والعرعر والعلك للفم وزهور الثعب والعذب والسمر والرند والبانوالريحان والحبق والنعناع والزيتون الجبلي، وهذا غير الثمار المتوافرة، وهناك قائمة طويلة لا تكفي هنا لذكرها.
وقد ذكر لنا أحد الأصدقاء أن الطبيعة في المنطقة الواحدة، كمنطقة الألمعي تحتاج إلى قاموس أو معجم مطبوع ليصبح مرجعاً، لأنها منطقة ممتلئة بالتنوع النباتي معنى وعدداً. كما أن أرض الألمعية هي المعنى العملي الأجمل لوجود كل تلك العطور في الأرض المشجعة لمؤسسات الأثرياء التجارية، كي تأتي لاستغلالها عالمياً وتصدير عطور الطبيعة للعالم، أسوة بالدول المنتجة كفرنسا.
معانٍ مختبئة خلف التطريز في زي الألمعية
بالمقابل الرجال هم من يشتهرون في تطريز ملابس النساء، ويفخر الألمعيون بزيهم ويعدونه من أجمل هوياتهم، وذلك وأمام العالم وأمام زحف الزي الغربي على الأسواق بقيت أزياءالمرأة الألمعية المطرزة على العمل اليدوي ليحمل قصصاً، وفيهمن التمرس والتمكن في التطريز المتأني الذي يستغرق شهوراً لإنجاز الزي، وعلى أفضل أنواع الأقمشة الحريرية لترتديه المرأة لسنوات، من دون أن يترهل ذلك التطريز الذي يمتاز بجودته مقابل جماله الذي يتمثل في المعاني المختبئة بين الزخارف.

فن «القط» ليس له وجود سوى في هذه القرية

ويبقى فن القط الذي لا يتقنه سوى النساء الألمعيات، وهو فن مختلف عن أية بقعة في العالم كله، ولذلك سيسجل قريباً في قائمة التراث لمنظمة اليونيسكو. فن تجريدي حر يحاكي الفطرة بنظرتها البريئة للجمال والحياة، نجدها على جدران المنازل الداخلية، ويتجسد بخطوطه الهندسية في أغلبها بين العرض والطول، مع التكرار في مساحات واسعة أو ضيقة، بألوان حية وأساسية، لكن الأهم أنه لا تقوم به إلا النساء، ومن دون دراسة. إذاً هو فن جداري أنثوي بامتياز يعبر عن الجمال المكاني المتشعب في أرواحهم الملونة منذ التاريخ القديم لهم.
* روائية وباحثة من الإمارات

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *