(البردة) للإمام البوصيري: صياغة صوفية للسيرة المحمّدية

  • عزالدين المعتصم

يعد المديح النبوي من أبرز الفنون الشعرية عند العرب، إذ رافق الشعر منذ نشأته الأولى، وهو فن من فنون الشعر الغنائي، يقوم على عاطفة الإعجاب، ويعِّبر عن الشعور الصادق تجاه النبي. وقد مَلَكَ هذا الغرض على الشاعر إحساسه وأثار في نفسه روح الإكبار والاحترام، لمن جعله موضِع مديحه.
وفي هذا الفن من الشعر تعداد للمزايا الجميلة، ووصف للشمائل الكريمة، وإظهار للتقدير العظيم الذي يكنّه الشاعر للرسول عليه السلام. وهو من أكثر المجالات إنتاجا وإبداعا لدى الشعراء المتصوفة، امتاز بصدق العاطفة وفرط الوجْدِ وشدة التِّعلُّق برسول الله وآل بيته، كما كان وسيلة لنيل القرب من الله سبحانه وتعالى. ولعل أجود القصائد التي خصصها أصحابها للحضرة المحمدية، هو القصيدة الشهيرة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» للإمام البوصيري، المعروفة باسم «البردة» التي تعد من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام، الذي جادت به قرائح الشعراء على مرّ العصور.

تجليات الحب المحمدي

يعتبر الحب المحمدي من أغنى الموضوعات التي شغلت ذهن البوصيري وملأت قلبه وعقله، فأفاض في القول، كاشفا عن خالص حبه للرسول عليه السلام، لأن محبة الله ورسوله أصل جميع الخيرات، وبها يقطع المريد جميع العقبات. ولهذا نجده يفصح عن هذه الثيمة بقوله في الفصل الثاني (في منع هوى النفس):
وأثبت الوجدُ خطَّيْ عبرةٍ وضــنى مثل البهار على خديك والعنــــمِ
نعمْ سرى طيفُ منْ أهوى فأرقـني والحب يعترض اللذات بالألــــمِ
يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلــــمِ
عَدتْكَ حالِيَ لا سِرِّي بمســـــتترٍ عن الوشاة ولا دائي بمنحســــمِ
محضْتني النصح لكن لست أســمعهُ إن المحب عن العذال في صــممِ

مثال الجمال

والإمام البوصيري كغيره من الشعراء الفنانين، عشق الجمال وسعى إليه فكان هدفا في حياته، امتدح به وتذوقه، وتأثر به، وكان رسول الإنسانية المثل الأعلى للجمال يدركه ويحبه ويعجب به، وذلك لما للجمال من تأثير على إحساس الإنسان، وما يقدمه له من لذات جمالية تختلف عن مستوى اللذات الحسية، وتبتعد عن الأشياء المستنكرة غير الجميلة، كما كان يحب جمال الحديث، وعذوبة الإيقاع، نظرا لما كان يتمتع به عليه السلام من بساطة النفس التي تعتمد على الخلق القويم، الذي يجمع بين الخير والجمال حسب الباحث صلاح الدين بسيوني. وفي هذا السياق يقول الإمام البوصيري في الفصل الثالث (في مدح رسول الله):

منزهٌ عن شريكٍ في محاســـنه فجوهر الحسن فيه غير منقســـمِ
دعْ ما ادعتْهُ النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ
فإن فضل رسول الله ليس لــــه حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفــــــمِ
لو ناسبت قدرَه آياتُه عظمــــا أحيا اسمُه حين يدعى دارسَ الرممِ
لم يمتحنا بما تعيا العقولُ به حرصا علينا فلم نرْتبْ ولم نهـــمِ
يتضح من خلال هذه الأبيات أن الشاعر، جعل منظومة النبوة تؤسس مركزية مهمة داخل القصيدة الشعرية، لأنه يرى في الرسول الكريم نموذجا للبطولة فيراهن على محبته وتعظيمه. وفي هذا الصدد يقول:
أعيا الورى فهمُ معناه فليس يُرى في القرب والبعد فيه غير مُنْفحـمِ
كالشمس تظهر للعينين من بعُـدٍ صغيرة وتُكلُّ الطرفَ من أمَـــمِ
وكيف يُدْرِكُ في الدنيا حقيقتـَه قومٌ نيامٌ تسلوا عنه بالحُلُــــــمِ
فمبلغ العلمِ فيه أنه بشــــــرٌ وأنه خيرُ خلقِ الله كلهــــــمِ
يدرك الشاعر أن ممدوحه قد بلغ ذروة الجمال، فأراد أن يظهره في أبهى منظر وأجمل حُلَّة، فلم يجد له شبيها سوى نور الشمس. ويبدو أن الشاعر كان واعيا بحقيقة الشمس، ومدركا لما ترمز إليه في سياق اللغة الشعرية. فقد كان مسكونا بأنوارها، بل إن أكوان التجليات الصوفية لها قطب نوراني هو الشمس بتعبير الباحث عبد المنعم الحنفي. ومن هنا يمكن القول إن المديح النبوي إبداع أدبي بخصوصياته ومكوناته الشعرية، أعاد صياغة «فن السيرة النبوية» بأجوائها التاريخية والأسطورية الشعبية، بما يتوافق والقول الشعري. فكان لابد لشعر المديح أن يوظف خطابه الصوفي، لإبراز هذا العنصر الديني الذي يخرج البطولة أو «العبقرية» من جمالها الحسي الإنساني، إلا مجال المقدس الديني. ما ولَّد في نفس الشعراء المادحين للنبي ، شعورا عارما بالحب المحمدي، على غرار ما تمحور عليه الشعر الصوفي في غرض الحب الإلهي. وفي هذا الإطار يقول الإمام البوصيري في الفصل الثالث (في مدح النبي):
محمد سيد الكونين والثقليــــن والفريقين من عُرْب ومنْ عجــمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحــــدٌ أبرَّ في قولِ لا منه ولا نعــــمِ
هو الحبيب الذي ترجى شفاعـته لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون بـه مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــمِ
فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلـُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كـــرمِ

السيرة المحمدية

أثْنَى الشاعر على الرسول ، لأنه يفوق الورى والأنبياء، لاتصافه بالمعجزات، ما يدل على أن تفاني الشعراء في حبهم للرسول ، وحب آل بيته قد شَحَذَ عاطفتهم، وأمدَّها بشحنات وطاقات لم تلبث أن فجّرت إبداعا غزيرا ومتنوعا، لا حدود لأبعاده وآفاقه، حيث نجدهم تتبعوا مراحل السيرة النبوية الزاخرة، بدءا من الحديث عن نسب الرسول ومولده، إلى الحديث عن وفاته وآل بيته، ملحين في هذا الإطار على شمائله ومعجزاته، وهذه المعجزات التي أسهب الشاعر البوصيري في تعدادها، تشكل مظهرا من مظاهر الدهشة. إذ نجده يسترسل في قوله في الفصل الثالث:
وكلهم من رسول الله ملتمـــسٌ غرفا من البحر أو رشفا من الديمِ
وواقفون لديه عند حدهــــم من نقطة العلم أو من شكلة الحكمِ
فهو الذي تم معناه وصورتــه ثم اصطفاه حبيبا بارئُ النســـمِ

تبيِّن هذه الأبيات مادة خلق الرسول النورانية وجوهره الصافي، ثم مقارنته بباقي الأنبياء والرسل، حيث يضع الإمام البوصيري خاتم المرسلين في مقام عال فوق الأنبياء والرسل، مما يبرهن على أن خطابه الشعري خطاب روحاني مشبع بالإيمان، وزاخر بالقيم الإسلامية التي يرمي المرسِل/ الشاعر إلى بثها في ذهن المرسَل إليه/ المتلقي من أجل تكوين مجتمع إنساني سليم.

 * عن القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

تعليق واحد

  1. اللهم صل وسلم وبارك على محمد خير خلقك، البوصيري ارتقى الى مراتب فطاحلة الشعراء بقصيدته البردة التي تعتبر كمرجع لكل شاعر يريد المدح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *